كتاب فرسان الأنفاق 2 ـ صدى السنين ـ للمؤلف قاسم رابح واعمر ـ الحلقة 10 ـ
فصل الربيع
وكان فصل الربيع بجرادة من أجمل الفصول إطلاقا إذ لم يكن ليكتفي بزركشة الجبال والأودية والهضاب بمختلف الألوان الزاهية التي كانت تمد جرادة وحاسي بلال بنكهة ربيعية خاصة لا أحد يستطيع تصورها إلا من عاشها… بل كان لفصل الربيع وقع سحري في نفوس عمال المناجم وأسرهم الذين يخرجون إلى الجبال أو على الأقل إلى التلال التي يعبرها خط السكة الحديدية ..
كان السكان وكأنهم قد مستهم من فصل الربيع عدوى غريبة، يغادرون منازلهم عادة بعد الظهيرة ولا يعودون إليها إلا عندما يرخى الليل سدوله…
وما كنا نحن جماعة التلاميذ المنحدرين من أولاد اعمر بأن نترك جمال فصل الربيع يمر بين الروتينية واللامبالاة، بل نظمنا رحلتين جماعيتين زرنا خلالهما منتجع تيسورين والوادي الحي مشيا… ورغم بعد المسافة بين جرادة والقريتين الذي أنهك قوانا، فقد تمتعنا بجمال الطبيعة الخلاب…:
***
منتجع » تيسورين » و »الوادي الحي »
في « تيسورين » كان الماء الشروب ينساب من العيون الجبلية وكان رقراقا عذبا زلالا ساعدنا على نسيان مشاق الطريق، أما في الوادي الحي فإن الأمر يختلف، وكنا سنهلك عطشا إذ أن ماء الوادي مالح أجاج، لا يستسيغه المرء وكلما شربنا منه ازددنا عطشا… وكان علينا أن نصبر على ملوحة سمك السردين المعلب الذي شكل وجبة غذائنا الرئيسية وكذا على ملوحة ماء الوادي، وعلى مشاق السفر مشيا على الأقدام، مسافة لا تقل عن عشر كيلومترات وعلى أشعة الشمس الملتهبة خلال نهاية فصل الربيع… ومع ذلك فإن الرحلة كانت ممتعة كذلك، وقد ضحكنا كثيرا من حكايات بعض الزملاء الذين لا يستحيون من عرض تجاربهم الجنسية مع مومسات حي الطوبية، أو من إعجابهم بل وهيامهم ببعض الفتيات اللواتي يبادلنهم نفس الشعور…
***
السفر مشيا إلى « أولاد اعمر »
كان قد سبق لي أن قطعت المسافة الفاصلة بين « أولاد اعمر » و »جرادة » خلال سنتي الدراسية الأولى بجرادة.. وأذكر أن هذا السفر مشيا على الأقدام كان رفقة شخص من جيران » قدور » الذي كان متعودا على قطع هذه المسافة منذ أن بدأ في الاشتغال بشركة الفحم.. وكان لا يطيق ركوب العربات، ولا الحافلات ولا الشاحنات ولا أي شيء آخر له محرك ويسير على العجلات،.. كان المسكين يعاني من حساسية أو ذعر أو فوبيا غريبة غير مفهومة تجعل أنفاسه تتسارع وصدره يضيق وكأنه يصعد في السماء.. كلما حاول امتطاء أية عربة ذات محرك وعجلات وكان السفر رفقة هذا الشخص متعة كبيرة.. والأغرب في الأمر أنه كان لا يعرف للتعب معنى.. وكان كلما طلبت منه استراحة يبقى واقفا في انتظاري.. وقال لي بأنه مستعد لقطع المسافة التي تلف الكرة الأرضية بدون توقف إلا لأسباب ضرورية.. أما رصيده من الأغاني والأشعار والمستملحات فلا أعتقد أني صادفت شخصا مثله.. لا أدعي أني لم أحس بالتعب ولكن صراحة، وجدت في رفقة هذا الشخص ما خفف عني وربما أنساني التعب.. وكنت كلما التقيت به بعد هذا السفر.. كان يسألني إن كنت مستعدا على مرافقته في السفر حول العالم…
وبعد هذه التجربة، وخلال إحدى عطل فصل الربيع التي كانت تستغرق خمسة عشر يوما، قررت مع ابن عمي حميد، وابن عمتي محمد الذي كان يدرس رفقة شقيقه عبد الرحمان بنفس إعدادية جرادة، و كانا يقيمان بمنزل عمهما بدوار « أولاد اعمر » قررنا السفر مشيا من جرادة إلى بلدتنا « أولاد اعمر »،… كما انضم إلينا أحد زملائي الذي كان يدرس معي في نفس القسم، وكان يدعى محمد بن موسى قبل أن يغير اسمه إلى مسعودى محمد، وأصله من ناحية « كافايت »…
وهكذا انطلقنا مشيا من جرادة صباح يوم ثلاثاء لنصل « كافايت » مع غروب الشمس، فبتنا بمنزل صديقنا مسعودى.. وقد قوبلنا من طرف والديه وإخوانه بترحاب كبير إذ انهم لم يقصروا في شيء من أجل إكرامنا،كما يكرم الضيوف الكبار،.. وقد قوبل ابن عمي حميد بالخصوص بحفاوة كبيرة من طرف والدة زميلنا، ولما سألها ابنها لماذا تقتصر بترحابها على حميد من دوننا.. أجابته بكل حنان الأمومة، بأن هيئة حميد تبدو نحيفة وضعيفة ولهذا فهو يستحق الرعاية والاهتمام أكثر…
وفي الصباح الباكر، ودعنا صديقنا محمد وودعنا أهله بعد أن شكرناهم على استضافتهم الحاتمية لنا وذهبنا وكأننا ننساب على ضفة « وادي الحي » أو « وادي زا » نمسح بوجوهنا رذاذ ضباب الفجر لندخل مع بزوغ الشمس أرض « أولاد أعمر »
وإذا كان الشطر الأول من رحلتنا قد مر بسلام وبدون معاناة تذكر، فإن اليوم الموالي الذي قطعنا فيه شطر « كافايت ـ أولاد اعمر ».. كان في آخر أشواطه قطعة جهنمية… بحيث تورمت أقدامنا ولم نعد نقوى على المشي إلا بشق الأنفس.. وهذا رغم الاستراحات التي كنا نمنحها لأنفسنا، خاصة في منتصف النهار بحيث استضافنا أحد معارف أهلنا من دوار « العتامنة » من عائلة مُوسِى ويدعى « الفقير سالم بالمهدي » وأكرم وفادتنا..
وعندما بلغنا المكان المعروف بـ « تقيوشت » حيث توجد مقبرة قديمة تدعى « الطلبة » يحكى أنها لمجموعة من الطلبة الحاملين لكتاب الله، تعرضوا لبطش قطاع الطرق ودفنوا في عين المكان،.. قررنا الاستراحة قليلا… ولم يكن يفصلنا عن منزلنا بـ « المعدن » إلا أقل من ثلاث كيلومترات على أكبر تقدير، فقد تمنينا لو ننام قليلا وسط القبور.. لقد أحسسنا بتعب لا يقاوم.. ومع ذلك فقد قمنا نمشي متمايلين من شدة الإرهاق والتعب كأشباح خرجت لتوها من المقابر..
كانت فرحة عائلتي كبيرة لا تتصور.. وكان لوقع أصواتنا على مسامعهم من خارج الخيمة كوقع من ألقى بصخرة كبيرة وسط بحيرة هادئة.. وبما أن حالتنا كان يرثى لها، وخاصة أرجلنا التي تورمت وظهرت عليها فقاقيع في شكل أكياس مائية شفافة، من فرط احتكاك جلد الأقدام بالأحذية… فقد قامت والدتي رحمة الله عليها بتضميد أرجلنا بالحناء التي ساعدتنا على امتصاص الالتهاب وجعلت الأماكن المتضررة تتصلب وتعود تدريجيا إلى حالتها الطبيعية…
***
العطل الصيفية بمنزل العائلة..
كنت كلما حلت العطلة الصيفية التي تستمر زهاء ثلاثة أشهر، أجمع كل ما تقع عليه يدي من الكتب لأتوجه إلى القرية – قرية أولاد أعمر-، التي بقي الحنين إليها متأججا لا تطفئه السنون ولا ينسيه الزمن ولا ينقص من حدته البعد، ليس فقط لأن أفراد أسرتي يعيشون بها وأن الحب الذي أكنه لهم كان مرادفا لسر حياتي ولمعنى وجودي ولكن لأنها العش الأول الذي ترعرعت فيه…
وخلال تواجدي بالقرية، خلال فترة العطل كنت أتفرغ بشكل كامل لمطالعة الكتب، إذ لا شيء كان يعكر صفو حياتي، بل وكنت في بعض الأحيان أحس بنوع من الدلال وأنا محاط بالرعاية الفائقة لوالدتي ولأخواتي اللواتي كانت كآبتهن تزداد كلما اقترب وقت عودتي إلى جرادة…
أما بالنسبة لعلاقتي مع والدي فقد أصبحت حميمية أكثر من ذي قبل، وكنت لا أبخل أبدا – وكما كنت في الماضي- بالمساهمة في الأعمال اليومية كجمع المحصول الزراعي رفقة أخي محمد وقطع مسافات كبيرة لنقل هذا المحصول على ظهور الحمير من القرى البعيدة إلى القرية الأم –المعدن- من أجل تخزينه وكان والدي يرثي لحالي كلما اشتد بي التعب أو كلما لحقت بي بعض الأضرار كالتهاب اليدين من كثرة الخدوش التي يحدثها لمس الأشياء الخشنة والأشواك، بالإضافة إلى آلام العمود الفقري أو بعض الجروح الطفيفة من جراء سوء استعمال المنجل في الحصاد. كلما تألمت من هذه الأشياء فإن والدي كان يشاطرني الألم بشعور غريب يختلف كلية عن الشعور الذي كان يبديه نحوي في الماضي، عندما كنت صغيرا أو عندما كنت في أمس الحاجة إلى هذا العطف، الذي لم يكن والدي يشعرني به.. وقد حاولت أن أجد تفسيرا لهذا الشعور ولهذا التحول الكبير من اللامبالاة إلى التألم لألمي من طرف والدي:
لاشك أن والدي كان دائما يشعر بألمي ولكن كان في الماضي يريدني أن أصبح رجلا صلب العود، وكما هي النظرة القروية إلى تربية الأطفال – فإن العناية الفائقة والزائدة عن الحدود قد تنتج أطفالا مدللين، ناقصي الصبر عن المحن، ذوي إرادة هشة، لا تصمد في وجه الصعاب، وربما الآن وقد أصبحت رجلا في نظره، فيكفي ما أعانيه من غربتي في جرادة بعيدا عن أهلي، ثم إذا كان في الماضي البعيد يؤنبني ويعاقبني من أجل المثابرة في الدراسة، فإن الآن الوضع قد تغير، فهذه نتائج دراستي قد فاقت كل التوقعات، وأصبحت ممتازة فقد يكون برأيه أن هناك نوعاً من الحيف يمارس تجاهي، فأنا جاد ومجتهد في دراستي، فلماذا أعاقب بمزاولة الأعمال الشاقة المتعلقة بأعمال الفلاحة وجلب الماء تحت أشعة الشمس المحرقة….
أما من جهتي، فيبدو أن الأمر قد تطور كذلك، ولكن بشكل آخر إذ أن ما أقوم به الآن من مساعدة والدي وأخي هو ناتج عن حبي العظيم لعائلتي واعترافا لها بعظيم جميلها علي، ثم إن تربية والدي قد أعطت أكلها أليس العمل شريفا… !وأخيرا.. أفلا يجب أن أعتبر نفسي محظوظا إذ سمحت لي الظروف رغم المحن، من ولوج المدرسة.. وأن هذا الحظ ابتسم لي من دون إخواني وأخواتي..
ومع ذلك فإن والدي سيهتدي في السنوات اللاحقة إلى الكيفية التي سوف يدبر بها الأمر، بحيث ستصبح الأشغال الشاقة أقل شقاء بالنسبة لي،.. وهكذا وبمجرد حلولي بين ظهران أهلي بالقرية في العطلة الصيفية، حتى يكونوا قد غادروا قرية « المعدن » إلى قرية « بزوز » أو قرية « سهب الكلخ » بحيث يأمرني والدي بالبقاء في المعدن لحراسة الدار والاعتناء بشجر الزيتون وسقي بعض الخضر…
ورغم محاولاتي في إقناع والدي بأنه يتعين علي أن أكون بجانب أخي محمد وبجانبه لأساعدهما في القيام بالأشغال الفلاحية الصعبة، فإنه كان يصر على أن أبقى بالدار وأن أعمال السقي وحراسة « البحيرة » لا تقل أهمية….
وهكذا كانت فسحة وقت العطلة الصيفية التي أعيشها بمفردي في منزل الأسرة هي حوالي شهر ونصف من كل سنة على الأقل.. كانت من بين الأوقات التي لن أنساها أبدا، إذ كنت أسطر برنامجا زمنيا أقسمه حسب الأشغال التي أقوم بها.
***
في ضيافة خالي محمد…
كان خالي محمد يسكن بـ « سهب الكلخ ».. وهي من الأراضي التي تملكها قبائل « أولاد اعمر » في سهول الهضاب العليا المعروفة بـ « الظهرة » الموجودة على حدود قبائل « أولاد سيدي علي بوشنافة ».. وقد تم استصلاح هذه الأراضي التي كانت مغطاة بنبات الحلفاء.. لتصبح صالحة للزراعة البورية خاصة الشعير والقمح بنوعيه اللين والصلب..
وإذا كان الامتداد الجغرافي نحو هذه الأراضي قد نفس عن قبائل أولاد اعمر المحصورة في معظمها بين الجبال والتلال، وجعلها تجد موطئ قدم في أرض منبسطة.. فإن هذا الامتداد كان مع الأسف على حساب البيئة وعلى حساب الغطاء النباتي المكون خاصة من نبات الحلفاء التي لا تحصى فوائدها..
كان خالي محمد من بين السكان الأوائل الذين عمروا هذه الربوع التي كانت مرتعا للوحش.. وقد شجعته ظروف المساحة الكبيرة والخالية على تطوير قطيع أغنامه وأبقاره… وقد عمد إلى نصب خيمته في مكان يدعى « الكريمة » غير بعيد عن البئر الوحيد الذي يلبي حاجيات السكان من مختلف القبائل وقطعان ماشيتهم من الماء الصالح للشرب..
وخلال عطلة من العطل الصيفية.. طلبت مني والدتي مرافقتها لزيارة شقيقها خالي محمد.. ورغم حبي لخلوتي بوادي المعدن..فلم أجرأ على رد طلب والدتي.. وهكذا شددنا الرحال إلى سهب الكلخ.. وحللنا ضيوفا على خالي محمد الذي لم يخف فرحته بوجودي مع والدتي.. واعتبر هذه الزيارة له ـ الأولى من نوعها ـ تقديرا وتشريفا له قبل أن تكون زيادة لي في ميزان الحسنات ثوابا على صلة الرحم..
كان خالي محمد قد ورث أراضي شاسعة عن والده جدي « حمو إعاشورن ».. وحتى يتمكن من استغلال هذه الأراضي التي عادت إليه بمفرده عقب مغادرة شقيقه « الطالب » البادية منذ شبابه، وجد نفسه ملزما بتكثير النسل، مما جعله يتزوج امرأة ثانية.. رغم أن زوجته الأولى كانت ولودا ودودا.. وتأتي الزوجة الثانية لكي لا تقل عن الأولى في الإنجاب، وليصبح خالي محمد أبا لما يقارب العشرين فردا ذكورا وإناثا.. وليتفرغ الجميع للنهوض بخدمة الأرض ورعاية الماشية.. حتى يصبح خالي محمد ممن يشار إليهم على رأس قبائل « أولاد اعمر » ..
وبالإضافة إلى خصاله الحميدة كالجود والكرم والورع والتضامن التلقائي مع بني جلدته.. فإن المعني بالأمر كانت له روح خفيفة… ولا تعرف مداعباته حدا، مع الصغار والكبار على حد سواء من أبناء القبائل.. وكان يكفيه أن يعرف ابن من يكون الشخص الواقف أمامه، حتى يشرع في سرد حكايات أو مستملحات عن آباءه وأجداده… فإلى كونه أنه ورث عن والده « حمو إعاشورن » غرابة الأطوار والأدوار فإن تفتحه الإيجابي على محيطه جعله يحتل المكانة اللائقة به ضمن أفراد الجماعة في القبائل..
كان وصولنا إلى بيت خالي قد صادف وصول ضيف كبير إليه، وهو صديقه المدعو « الحاج لحمر » من ناحية « جرسيف » الذي ونظرا للجفاف الذي ضرب منطقته فإنه جاء يستنجد بخالي ـ أو على الأقل هذا ما كانت تلوكه الألسن.. ـ والذي لفت انتباهي هو الاهتمام الكبير والحفاوة البالغة اللذين أحاط بهما خالي ضيفه.. وقد حاولت آنذاك أن أفهم منذ متى بدأت الصداقة بينهما وكيف بدأت وبأية مناسبة.؟. إلا أن المصادر كانت شحيحة ولم أجرأ على سؤال خالي بهذا الخصوص.. والمؤكد هو أنه وعلى مدى ستة أيام كان خالي يستيقظ باكرا ليعطي توجيهاته إلى أبنائه، ومن ضمنها كم من شاة ستذبح للضيف خلال اليوم، ثم يعود إلى بيت الضيافة ليجلس قبالة ضيفه رفقة أحد أبنائه وهو « محمد لكبير » الذي هاجر إلى بلجيكا منذ سنتين.. وعاد إلى المنزل ليقضي عطلته السنوية في أحضان عائلته.. وكان محمد قد اصطحب معه آلة تشغيل الأسطوانات.. وعددا لا بأس به من الأسطوانات لأغاني مختلفة.. ويبدو أن « الحاج لحمر » كان مولعا بالأغاني وخاصة البدوية منها.. ولهذا كان بمجرد ما يتناول فطوره، ينادي على « محمد لكبير » ويطلب منه أن يجلس بجواره وألا يفارقه ويسمعه الأسطوانات واحدة تلو أخرى.. وكان « محمد لكبير » يستحيى من والده وخاصة من وقع بعض الأغاني التي تخدش الحياء فيتظاهر بالخروج إلى غرض ما، وتنتهي الأسطوانة.. إلا أن أذن « الحاج لحمر » كانت لا تطيق العيش بدون موسيقى وينادي على محمد ولكن محمد الواقف خلف الباب ووجهه يتصبب عرقا، يحمر تارة ويصفر أخرى من كثرة الخجل.. كان يقف حائرا ولا يدري ماذا يفعل…
وخلال حالة من هذه الحالات قمت إلى الآلة فشغلتها بعد أن غيرت الأسطوانة وذلك تحت نظرات التعجب للحاضرين وعلى رأسهم خالي.. وهكذا وجدت الحل للجميع.. وكاد « الحاج لحمر » أن يطير بالفرحة ودعاني للجلوس مكان محمد بل أصبح ينادي باسمي بدل اسم محمد.. وبدوري أصبحت أتفنن في اختيار بل وإخراج الأغاني، ولم أعد أضعها بالترتيب أو بصفة عشوائية .. بل أصبحت أختار « لكل مقام مقال » حتى لا أحرج أبناء خالي مع والدهم وحتى أرضي النهم الموسيقي للضيف الكريم..
وتدور كؤوس الشاي وينظم إلى المجلس بعض الجيران.. لتنشط ذاكرة خالي، ويبدأ في مداعبات أصدقائه في مسلسلات هزلية كاريكاتورية وترفيهية، مستعينا بأسلوبه البلاغي وبحدة لسانه، ولا يترك لخصومه مجالا للمراوغة.. وفي منتصف النهار كان أبناء خالي يقدمون الأكل، على مرحلتين.. المرحلة الأولى ويبدءونها باللحم المشوي على الجمر مع الخبز والشاي.. وبعد استراحة قصيرة يأتي دور « الطاجين ».. أما خلال العشاء فقد بات الكسكوس باللحم الوجبة الرسمية… في حين يستمر الجميع في شرب كؤوس الشاي منذ الاستيقاظ من النوم وحتى اللجوء إليه في آخر الليل…
بدلا من أن نمكث ثلاثة أيام كما كنت قد اتفقت مع والدتي، أصر خالي بأن نقيم في ضيافته أسبوعا كاملا.. تماما مثل « الحاج لحمر »… والواقع فقد صبرت كثيرا من أجل إرضاء والدتي.. وكان العرق المتصبب مني يجعلني أفكر مرارا في وادي المعدن وخاصة في « مقر القيادة العامة ».. وفي أصيل يوم من هذه الأيام قررت العودة إلى المعدن بمفردي، بعد أن اكتفيت بتوديع « محمد لكبير » دون غيره، وذلك يقينا مني بأن الآخرين وعلى رأسهم خالي ووالدتي، سوف لن يقبلوا برحيلي بهذه السهولة..
***
تحت ظلال الزيتون
فإذا كان سقي أشجار الزيتون يأخذ مني حصة لا بأس بها: ليلة كاملة كل ثلاثة أيام فإن باقي الأيام كنت أقضيها كما يحلو لي…
وكعادتي فإني كنت أجلب معي من « جرادة » ليس فقط الأعداد الكبيرة من الكتب ولكن كنت أحاول الحصول من زملائي الذين سبقوني، على المقررات الدراسية للسنة المقبلة التي أطلع عليها قبل الأوان وعندما يحين وقت الدراسة فإنها تصبح بالنسبة لي مجرد مراجعة لدروس سبق لي أن استوعبتها.
وكنت أركز بالخصوص على المواد الرئيسية كالرياضيات والتاريخ والجغرافية والعلوم وكان الأساتذة الفرنسيون بالخصوص يستغربون من سرعة استيعابي للدروس حتى أن بعضهم كان يعتقد أنني كررت السنة وعندما يكتشف خطأه فإني كنت أحظى لديهم بالتقدير الكامل.
كان تطبيقي الصارم لاستعمال الزمن الذي سطرته بدقة متناهية خلال العطلة، قد أكسبني المزيد من فولاذية الإرادة وقوة المناعة. ولا يزال الجيران يذكرون استيقاظي في الساعة الرابعة صباحا لأتسلق الجبل الشاهق « إش إزرزر » وأعود قبل السابعة لأذهب إلى وادي المعدن جريا لأستحم بالماء البارد، ثم أعرج على كروم التين لأتناول بعض حبات التين ثم أجني بعض الخضر كالبصل والبطاطس والقرعة والطماطم، ثم أعود إلى البيت لأهيئ الفطور والغذاء في نفس الوقت. وإذا كان فطوري يقتصر على كؤوس الشاي وخبز الشعير بـ « السمن الحار » فإن غذائي عادة ما يكون طاجين الخضر الطازجة بدون لحم الذي كنت أقوم بإعداده بنفسي، بينما كانت إحدى الجارات وهي أمي « جمعة تبربريت » تغمدها الله بواسع رحمته، تزودني بالخبز يوميا.
كنت أقضي معظم أوقاتي في وادي المعدن تحت ظلال أشجار الزيتون مستلقيا على ظهري وبيدي كتاب أرفعه فوق صدري وأمام عيني. وغالبا ما كنت أبقى على هذه الحال حتى أنهي الكتاب أو أقوم لبعض الأشغال العاجلة.. وعندما تشتد الحرارة كنت أقفز من المكان الذي استلقي فيه إلى الوادي مباشرة حيث يصبح حوض الماء الذي حفرته ممتلئا فأبدأ في السباحة لمدة طويلة ثم أستلقي تحت شلال المياه المتدفقة من أعلا الصخر أو أستلقي تحت أشجار الزيتون وأعيد هذه العملية مرات عديدة ولم يكن ليعكر علي هذا الروتين إلا مرور أحد الأشخاص الفضوليين من أبناء القرية أو أحد ثعابين « بوسكة » الذي يترصد الضفادع المنتشرة بكثرة حول الأماكن الرطبة بالوادي..
ولا أغالي إذا قلت أن معظم الكتب التي طالعتها في حياتي قد تكون في هذا المكان المحصن بالجرف وأغصان الزيتون المتدلية والمتجهة في كل النواحي… ففي أحضان ظل الزيتون والعوسج وشجر الدفلة، في هذا المكان الذي كنت أسميه مازحا « مقر القيادة العامة »، طالعت المنفلوطي وجرجي زيدان وطه حسين، وهامانغواي وفيكتور هوجو وتولستوي ويوسف السباعي ونجيب محفوظ وعباس محمود العقاد…إلخ.
في هذا المكان المبارك تمكنت من دراسة المقررات الدراسية وتفاعلت مع النظريات الفلسفية والمحطات التاريخية، في مراحل تطور المجتمعات البشرية، في هذا المكان درست الأدب العربي وخاصة الشعر الجاهلي وحفظت الشيء الكثير من المعلقات السبع أو العشر… وتعرفت وأنا في قسم البكالوريا على الفلاسفة الكبار كأفلاطون وماركس وهيكل وعلى النظريات الثورية وتاريخ النظريات السياسية …
كما سأقرأ لأول مرة مصحف القرآن الكريم مع تفسيره وبعض الكتب في الفقه الإسلامي وأصوله وكذا الأحاديث النبوية…إلخ
بعد مرور سنوات عديدة، وبعد إنهاء دراستي بالخارج عدت إلى هذا المكان الذي يجذبني إليه حنين عارم، وكانت صدمتي قوية إذ وجدت أن الزيتون قد جرفته حمولة الوادي وأن الأمكنة الرطبة والأشجار الخضراء قد تحولت إلى حطام بفعل الجفاف الذي جثم على صدر المنطقة وخنقها! سبحان الحي الذي لا يموت!
أين ذهبت الضفادع والثعابين المائية بل وحتى البعوض والنمل وكل أنواع الحشرات والحيوانات الصغيرة التي كانت تؤويها دهاليز أشجار الدفلة والعوسج والكروم المتدلية من أعلا الجرف … أين غابت تلك الأهازيج الرائعة التي كانت تحدثها زقزقة الطيور وخرير المياه ونقيق الضفادع.. سبحان من بيده ملكوت كل شيء!
من كان يصدق أن أشجار الزيتون الضخمة التي كانت تضلل « مقر القيادة العامة » ستبقى منها بعض الجذوع اليابسة التي عرتها الحمولة وتركتها كأنياب صفراء في فم عجوز يداري الأيام الأخيرة من حياته.
من كان يصدق أن وادي المعدن ذو المياه الوافرة الجارية ليلا و نهارا، المملوء بكل أنواع الطحالب التي تزين المستنقعات الصغيرة لتجعل منها أوكارا هادئة لكل أنواع الحشرات والحيوانات المائية والبرمائية، ستصبح ذكرى من الذكريات في مخيلة شجر الصفصاف الذي أصيب بالوهن هو الآخر فبدأ اصفرار الشيخوخة يعلوه ويفعل فعله في الأغصان القلائل التي صمدت للجفاف ولرياح الشرقي التي حولت كل شيء إلى خراب.
من كان يصدق أن هذه الأحجار التي تكاد تذوب من شدة الحرارة والتي جلبتها حمولة الوادي من أعالي الجبال لتجعلها تحشر بأنوفها في الرمال اليابسة، من يصدق أن هذه الأحجار تربض في المكان الذي كنت أستحم فيه، والذي جلبت إليه من الوادي جدولا صغيرا، تتكسر مياهه بمجرد مرورها عبر الصخور العالية فتنساب في شكل شلال صغير، في شكل « دوش » طبيعي، كنت أقبع تحته لساعات طوال بينما تستمر مياه الشلال في مداعبة جسمي المنتشي بفعل أشعة الشمس ودَلْكِ المياه ورائحة ورد الدفلة المختلطة بالرطوبة والطحالب وأشجار الرمان والكروم، وكل أنواع الحشائش.. يا للمأساة !! كل هذا لم يبق منه إلا ذكريات في خاطر الزمن اللامبالي… الزمن الزاحف من فجر الوجود والذي مر من هنا كضفدعة صغيرة لم تكد تفتح عينيها لتقبل أشعة الشمس حتى التهمها ثعبان « بوسكة » ونام في الرمل البارد…!
كوردة الدفلة التي تفتحت في الهزيع الأخير من غسق الليل لتهب عليها رياح السموم وتذرها كالرميم!
الكل مر من هنا… والكل يمر من هنا حتى أشجار الزيتون والصفصاف والكروم، الكل مر، والكل سيغرس أنفـه في التراب يوما، ويترك جزأ منه عاريا يحكى للأجيال قصته التي تمر بدورها من هنا، من حيث يمر الزمن!
يحكى أن في الفضاء الخارجي ثقب سوداء تلتهم كل شيء وتلملمه وتبتلعه بصورة مدهشة… هذه الثقب السوداء تستطيع أن تبتلع حتى المجرات الضخمة لتحولها إلى ذكرى من الذكريات… أما على الأرض فإن ثقبنا الأسود هو هذا الزمن الجارف الذي يهرب بنا ومنا ومعنا، يمررنا عبر فوهته العملاقة التي لا أحد يستطيع التكهن إلى أين يمضى بنا ،إن لم يكن قد استقر بداخلنا، وحولنا بدورنا إلى ثقب سوداء تمشي على الأرض و تمتص المآسي وتتجرع كؤوس المرارة والأحزان… وتمضي… وتمضي عميقا…عميقا في الأزل كأغنية صماء، كأي شيء لا يستحق الذكر..بل لا يجد من يتذكره…
***
Aucun commentaire