فترة الحجر فرصةُ من لا فرصةَ له
بسم الله الرحمن الرحيم
فترة الحجر فرصةُ من لا فرصةَ له
الحسن جرودي
في خضم ممارستنا اليومية للحياة، وقبل أن يَحِل علينا الضيف التاجي الذي لم يكن يتوقعه أحد من غيرِ الخبراء والعارفين بخبايا الأمور التي يَسيرُ عليها وبِها العالَم، كثِيرٌ هم الذين كانوا يتوقون إلى استقطاع جزء ولو يسير من وقتهم لينفردوا بأنفسهم في خلوة ويجلسوا إليها لعلههم يجدون مخرجا من عدد كبير من الأمور التافهة التي وجدوا أنفسهم يدورون في فلكها دون أن يخططوا لها أو تكون لهم رغبة في ولوجها، ما عدا مسايرتهم بوعي أو بدونه لمجموعة من العادات التي تراكمت مع مرور الوقت حتى صارت قيودا يستعصي كسرها إلا على أولي العزم الذين سهروا على تحديد أولوياتهم واستثمروا في تجسيدها مهما كلفهم ذلك، وهو الأمر الذي لا يتيسر دون التجرد من مختلف المؤثرات الخارجية والاختلاء بالنفس ومحاورتها في شأن الأسئلة الوجودية الأساسية التي تراود جنس البشر من مثل من أنا وماذا أريد.
ولا شك أن من كانت هذه هي غايته، فإن فترة الحَجر حتى بالنسبة للذي يعتبرها فترة سجن، لا يمكن إلا أن تكون فرصة ثمينة لا تُعوَّض للخلوة والتأمل والتفكر والتدبر على حد تعبير نيلسون مانديلا حيث قال » لَا شَيْءَ فِي السِّجْنِ يَبْعَثُ عَلَى الرِّضَا سِوَى شَيْءٍ واحِدٍ هوَ توَفُّرُ الوَقْتِ لِلتَّأَمُّلِ والتَّفْكيرِ » وهو ما يسمح له بتقييم مختلف ممارساته على ضوء عدد من العناصر التي بدونها تستحيل الإجابة على هذه الأسئلة وعلى رأسها من أنا وماذا أريد.
وسأقتصر في هذا المقال على عنصرين أساسيين، أولهما عنصر العقيدة لكونه يُعبِّر عن تَمَثُّلِ الفرد للكون وللحياة الدنيا وما بعدها. لذلك وحتى يكون منسجما مع نفسه عقديا، وجب عليه استعراض مدى صلابة الأسس النظرية التي يحتكم إليها في اعتقاده من جهة، ومدى مسايرة ممارساته العملية لهذه الأسس من جهة ثانية. فالذي يحتكم في اعتقاده إلى الإسلام على سبيل المثال، لزمه أن يُعمِّق معرفته بالقرآن والسُّنَّة أساسا ويتدبرهما ليتأكد من صحة ووجاهة اعتقاده ثم يَعرض ممارساته العملية عليهما سواء تعلق الأمر بالعبادات أو العادات، وهو ما يسمح له بتثمين بعضها ومواصلتها بينما يضطر لمراجعة البعض الآخر بحثا عن الانسجام الذي بدونه لا يمكن لأي كان أن ينعم بالراحة النفسية التي تُعتبر بمثابة الأرض الخصبة التي تُنبت الممارسات السليمة التي تفيد الفرد والمجتمع على السواء، وهذا الأمر ينطبق حتى على غير المسلمين، ذلك أن انسجامهم مع معتقداتهم من شأنه أن يساهم في التقليص من ظاهرتي القلق والنفاق اللتان أصبحتا من مميزات العصر، وإلا فما معنى ادعاء عدد من المحسوبين على الطبقة المثقفة يا حسرتاه انتسابهم للإسلام في الوقت الذي يفتقرون فيه لأبسط الشروط والمبادئ التي ينبني عليها، مع الإشارة إلى أن من بينهم من له معرفة لا يستهان بها في ميدان العلوم الشرعية على المستوى النظري، في الوقت الذي يقل أو ينعدم فيه التزامه بتنفيذها على أرض الواقع، لذلك فإن فرصة الحجر مقرونة بالصيام بالنسبة للمسلمين منحة نادرة يتعين على كل من وجد نفسه في خضمها عدم التفريط في استثمارها لمعرفة نفسه أولا والتصالح معها ثانيا، ثم مع محيطه القريب والبعيد في جميع تجلياته بعد ذلك. ولنا في المُصارع النمساوي الذي أعلن إسلامه خلال هذه الفترة مثال حي على أهمية استثمار فترة الحجر التي أعطته الراحة اللازمة ليجد إيمانه مرة أخرى كما صرح بذلك.
ثاني هذه العناصر هو عنصر الوقت، باعتباره الوعاء الذي يستوعب كل حركات الفرد وسكناته، ذلك أن كل ممارسات الإنسان كانت مادية أو معنوية تحتاج إلى حيز زمني لتجسيدها، لذا اعتُبر الوقت أغلى ما يملكه الإنسان بل هو الإنسان نفسه كما قال الحسن البصري رحمه الله » إِنَّمَا أَنْتَ أَيّامٌ مَجْموعَةٌ ، كُلَّمَا مَضَى يَوْمٌ مَضَى بَعْضُكَ « . ومن المعلوم أن الوقت رأس مال يشترك فيه الجميع، إنما الاختلاف يكمن في كيفية التصرف فيه حسب اهتمامات وأولويات كل فرد، وهو ما عبر عنه أحمد الشقيري بما يلي: » الوَقْتُ مَا هوَ إِلَّا وِعاءٌ نَمْلُؤُهُ بِمَا نُرِيدُ وَ إِذَا أَرَدْنَا شَيْئًا أَوْجَدْنَا لَهُ الوَقْتَ »، ومعرفة الشيء الذي نريده ترتبط ارتباطا جدليا بمعرفة من نحن التي تتحكم فيها متغيرات ذاتية من مثل العادات الشخصية والمستوى الثقافي… وأخرى موضوعية من مثل الوسط الاجتماعي والتوجهات السياسية والثقافية السائدة… وإذا كانت هذه المتغيرات تتحكم في كيفية ملئنا لوعاء الوقت بشكل أوتوماتيكي فإن فرصة الحجر من شأنها أن تَحُول بيننا وبين مجموعة من هذه الممارسات الأوتوماتيكية لكونها وفرت لنا الوقت اللازم والكافي لتقييم مدى أهميتها على سُلَّمِ من أنا وماذا أريد؟ وبالتالي تعزيز الإيجابية منها كالقراءة بدءا بقراءة القرآن وتدبره وانتهاء بكل ما له فائدة دنيوية أو دينية عملا بأمر الله سبحانه وتعالى في مطلع سورة العلق » اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ » مع الحرص على مداومتها وعدم التوقف حتى تصبح من الممارسات الاعتيادية البديلة للممارسات الأوتوماتيكية السابقة علما أن » الوَقْتُ اَلَّذِي يَتَوَقَّفُ فِيه اَلْإِنْسانُ عَنْ القِراءَةِ هوَ الوَقْتُ اَلَّذِي يَموتُ فِيه » حسب سلمان العودة. وفي مقابل تثمين ودعم الممارسات الإيجابية فإن الوقت الذي وفره الحجر يتعين استثماره في التعرف على الممارسات التي تُضيع الوقت بل وتقتله وذلك بهدف تقويمها أو نبذها واستبدالها بأخرى ذات فائدة دنيوية أو أخروية أو هما معا. وفي هذا الصدد يرى فُولتير أن هناك أربع طرق لإضاعة الوقت وهي: « الفراغ، والإهمال، وإساءة العمل، والعمل في غير وقته » كما يُنبه الشيخ محمد الغزالي رحمه الله إلى أن الذهول عن اليوم وارتقاب الغد من لصوص العمر حين قال: » أَتَدْرِي كَيْفَ يُسْرَقُ عُمْرُ المَرْءِ مِنْهُ ؟ يَذْهَلُ عَنْ يَوْمِهِ فِي ارْتِقابِ غَدِهِ ، وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَنْقَضيَ أَجَلُهُ ، وَيَدُهُ صِفْرٌ مِنْ أَيِّ خَيْرٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ » أما مالك بن نبي فيرى أن كثرة الكلام الفارغ يؤدي إلى انفلات الوقت من بين أيدينا بصمت دون أن ننتبه إليه، وهو ما عبر عنه بأسلوب بليغ عندما قال « صعبٌ أن يَسمعَ شعبٌ ثَرثارٌ الصوتَ الصامتَ لِخُطى الوقت الهارب! «
في الأخير أقول أن الحجر فرصةَ من لا فرصة له، لِيَخْتَلِيَ بنفسه ويحررها من الأغلال التي كبَّلتْه بها العادة والاتِّباع الأعمى لبعض الإيديولوجيات، بالإضافة إلى الانغماس المفرط في متاهات الحياة وملذاتها، وذلك عن طريق التدبر في أسرار الكتابين المسطور والمنظور، مما يسمح بتحديد الأوليات ثم تجسيدها من خلال برنامج واضح المعالم في إطار خطة زمنية محددة، يكون تنزيلها على أرض الواقع مؤشرا على نجاح عملية التدبر وكسر الأقفال التي سُكِّرت بها القلوب. وبدون ذلك يكون الفرد قد عَقَّ أيامه خلال هذه الفترة مما يستوجب منه الحذر من أن ينطبق عليه قول الله عز وجل في الآية 24 من سورة محمد: « أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا »، خاصة و أن تزامن الحجر مع شهر الصيام حافز قوي ووجيه لتعهد القرآن الكريم بالتلاوة والتدبر والاستفادة من درره الدنيوية والأخروية.
وختاما أضم صوتي لصوت عبد الله بن مسعود لأقول للذين يُصِرُّون على تضييع هذه الفرصة دون عذر قاهر، ولم يعيدوا الاعتبار لأهمية الوقت وتمادوا في هدره » إِنِّي لَأَمْقُتُ الرَّجُلَ أَنْ أَرَاهُ فَارِغًا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ عَمَلِ الدُّنْيَا وَلَا عَمَلِ الآخِرَةِ « ، وأُذَكِّرُهُمْ بمقولة ابن القيم رحمه الله حيث قال: » إِضاعَةُ الوَقْتِ أَشَدُّ مِنْ المَوْتِ، لِأَنَّ إِضاعَةَ الوَقْتِ تَقْطَعُكَ عَنْ اللَّهِ والدّارِ الآخِرَةِ، والْمَوْتُ يَقْطَعُكُ عَنْ الدُّنْيَا وَأَهْلِها « . ومن انقطع عن الله فلن يكون معجزا في الأرض ولا في السماء، وإنما خَسر نفسه وضل عنه ما كان يفتري، مصداقا لقوله تعالى في سورة هود: « أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) » صدق الله العظيم وبلغ رسوله المصطفى الكريم.
Aucun commentaire