كرم ومعاناة
محمد شحلال
رغم أن بلدة ،،سيدي لحسن،،تتكون من حوالي عشرين ،،دوارا،،موزعة على نفوذ الجماعة المترامية الأطراف،فإن السكان يتقاسمون خصلة تكاد تكون أهم ما يعتزون به بشهادة الصديق والخصم،ألا وهي الكرم الذي لا يسوغ أن نغفل بعض تداعياته المرة.
وهكذا، وبالرغم من وضاعة الدخل،فإن الأهالي قد ورثوا عن أجدادهم أن يكون المرء أجود ما يكون حين يحل به الضيف،ولاسيما إن كان من خارج المنطقة.
كان سلوك أهلنا يفاجئنا عند حلول الضيف،حيث يكون هذا الأخير طالع يمن لنا،إذ نتمكن من ،،إصابة،، حظنا من أطعمة غير مألوفة،لأنها مدخرة لتصريف،،العار،، كما اعتاد الناس يقيسوا الموقف، ذلك أن إكرام الضيف يجب أن يعبر عن أوج الأريحية بغض النظر عن التكلفة، باعتبار الكرم هو الورقة الوحيدة التي تشفع لصاحبها عندما تقوم قيادة الجماعة بمراجعة الملفات.
أما إذا شاع في الناس بأن فلانا،،ذامرذول،،(بخيل)،فإنه يصبح شخصا لا يعتد بكلامه،ولا يستشار في الأمور الهامة.
كان جل الأهالي يوفرون مؤونة السنة من الحقول،وكان إنتاج الشعير يفوق إنتاج القمح الصلب واللين بسبب طبيعة التربة من جهة،ولتعدد استهلاك الشعير من جهة ثانية،إذ يتنافس فيه الإنسان والحيوان،حتى أننا قد روضنا أجسامنا على هذا النوع من الخبز الذي كان بدون مرففات في جل الأوقات عدا تعريضه لحرارة الجمر أملا في انسيابيته.
كانت الأمهات يولين عناية فائقة لحبوب القمح،حيث يحرصن على تنقيتها ثم غربلتها قبل تخزين جزء منها في،،ثييلوين،،ج.،،ثايلوث،،
وهو المزود.
كانت هذه الأوعية الجلدية تتوزع بين دقيق القمح الصلب واللين،وتحفظ بين نظيراتها فوق المنتضد(الرحل)المنتصب غير بعيد عن مكان ربة البيت في الزاوية المخصصة للطبخ.
لكن دقيق القمح وحده لا يستجيب لمقومات الإكرام إلا إذا كانت هناك جرار يحفظ فيها السمن بأنواعه:،،المسوس،،أو ثلوسي،،التي تطلق على الطازج منه،ثم الذايب الذي يقطر مع إكليل الجبل،وهو أرقى الأنواع ،ويليه السمن الحار الذي يعد ليغطي سنوات عديدة،حيث يعتبر الناس بأن جودة هذا النوع،إنما تقاس بمدى أقدميته،وكأنهم يحيلون على المعتق من النبيذ وهم لا يعلمون !
غير أن بعض العائلات كانت تحرص على امتلاك بعضا من العسل الذي يخضع لتحصين محكم بسبب ندرته،لذلك لم يكن يظهر إلا في حضور ضيف عزيز،أو مرض طارئء.
أذكر كيف أن جل الأهالي كانوا يجمعون نصيبهم من القمح بنوعيه،ومع ذلك فإن خبز الشعير هو الذي كان يسد الرمق كقاعدة،بينما ظل خبز القمح استثناء لا يظهر أثره إلا إذا استنبح الكلاب ضيفا !
وربما كان هذا سببا في اعتزاز،،الواشون،، بحلول الضيوف ليكون لهم نصيب في طعام اشتركوا جميعا في توفيره عبر كل المراحل،مما يجعل الكرم من الفضائل التي تلزم صيانتها لتصبح من الثوابت في أعراف البلدة.
لن تغيب عن الذهن مشاهد الأم وهي تنزل ،،ثايلوث،، من على المنتضد،ثم تشرع في إعداد،،بوشيار،،القمح،وهو خبز رقيق بالغ اللذة تتعدى روائحه أطراف الخيمة ليلتقطها الراعي وهو على مشارف الخيمة.
كان الضيف يجلس في وسط الخيمة الذي سماه الأجداد،،ثيسي،، حيث يقوم مقام الصالون،قبل أن يعود لاحتضان الراقدين جماعيا تحت رحمة قطيفة تشبع الحاجة في الدفء لتعود إلى حاملها بين دعامتي الخيمة.
يحرص صاحب البيت على توفير جو من الدعة للضيف بدعوة بعض الجيران لتأثيث فضاء المأدبةوكذلك لتوفير وقود الحديث عبر انتقاء أخبار عفوية قد يتجاوز مداها محيط الدوار أو الدواوير المجاورة ، حيث يتحول أدنى حدث إلى سبق مميز، يتفنن كل واحد في روايته في غياب وسائل التواصل.
كنا نتابع وقائع الضيافة لحظة بلحظة،حيث نراقب الأم وهي تصفف ،،بوشيار،،في صحن خزفي مزركش ،ربما انقرض جنسه،و كان في حاشيته ثقب مربوط بخيط يسمح بتعليقه لضمان سلامته،ثم تفتح الجرة لتغطي صفحة الخبز بكمية معتبرة من السمن ،قبل أن تعززه بعسل ينطق فطرة وصفاء،بينما رب البيت يراود البراد ليخرج شايا يسيل له اللعاب.
كانت مراقبة الضيف تتم خلسة، وكلنا أمل أن يعود الصحن وفيه بقية مما أثارة المدعوين، علها تنسينا في خبز الشعير اليتيم، والذي لن نعرف قيمته إلا بعد عقود،حين أقر العارفون بأن طعام ،،المزاليط،،وفي مقدمته الشعير،هو البلسم لكثير من أمراض العصر،جازمين بأن الدواب إنما تستمد قوتها من هذا الشعير الذي حولته تخمة الجبابرة إلى مصدر للجعة ومنتوجات أخرى عديدة.
ظل،،بوشيار،،وجبة أولية للضيف،قبل أن يأتي الدور على ديك أو رأس من النعم حسب الحال والمقام،وإذا كان الفصل ربيعا،فإن الضيف سيتوج مقامه بوجبة الجبن المحلي الذي لا نظير للذته إذا صنع من حليب الماعز.
كان يوم حلول الضيف بمثابة عيد لمكونات الأسرة التي تختفي نمطية غذائها فجأة التي تستأنف في اليوم الموالي مباشرة،وفي النفوس سلسلة من التساؤلات السوريالية حول أولوية الاستحقاق في هذه الأطعمة التي تحصل بالمشاركة الجماعية، لكنها تخضع لحيف في التوزيع.
لقد كانت التساؤلات مشروعة،خاصة حينما يؤدي ادخار القمح إلى فساده دون أن يستفيد منه ،،الوا
الواشون الذي أدى ثمنا غاليا في جمعه، وقس على ذلك ما كان يحصل مع السمن بأنواعه،عدا زيت الزيتون الذي كان يظل رهن الإشارة باعتباره يحتل درجة متواضعة بين الأغذية المصنفة !
لم يقتصر تذمر ،،الواشون،، على التقصير في نصيبه من الخبز والسوائل المصنفة، بل كان يشتد أكثر إذ تضمنت المأدبة شي خروف أو جدي، ذلك أن هذا النوع من الوجبات ،لم يكن ترفاد فالشواء الذي يقتصر على جزء من الشاة،و،،لمصور،،الذي تطهى فيه الشاة بأكملها،كان أكلة تذكي الشراهة،مما يحصر نصيب المنتظرين في استنزاف ما استعصى على الضيوف في بقايا العظام ليتأجل أمل التعويض إلى حلول عيد الأضحى الذي يتحول إلى مهرجان للتزود استعدادا لحرمان الأيام الموالية.
كانت هذه التقاليد هي القاعدة العامة التي تشذ عنها بعض الأسر بطبيعة الحال،ولكن ذلك لم يحل دون تمسك الناس بالكرم كواحدة من الفضائل التي يجب أن تظل متوارثة.
إن فضيلة الكرم التي تغنى بها العرب في الشرق منذ القدم،والأمازيغ في الغرب،حتى صار ،،حاتم الطائي ،، مرجعا في الكرم الفطري إلى درجة أنه كان لا يرضع حتى يكون إلى جانبه رضيع يقاسمه لبان أمه،كما خلد التاريخ أسماء رجال ونساء هنا وهناك بسبب تضحيتهم بآخر ما كانوا يملكون،حتى رق أحد الشعراء لكريم بخيل ،حيث قال:
لو لم يكن في كفه غير راحته
لجاد بها،فليتق الله سائله !
أما الملك الضليل،،امرؤ القيس،،فقد نحر ناقته وجاد بها على العذارى اللواتي استوقفنه عند الغدير !
ومع كل ماقيل عن الكرم، فإن بعض المفكرين ،يعتبرون الكرم حاجة فرضتها طبيعة الصحراء الشحيحة،حيث كان الناس يكرمون عابر السبيل خوفا عليه من الهلاك، لا ترفا !
ولازال سكان البوادي عندنا يهتمون بعابر السبيل تحسبا لحاجته للطعام والراحةد لذلك مازال الأهالي عندنا يبادرون إلى مفاتحة عابري السبيل ،ودعوتهم لتناول،،كأس الشاي،،كما اعتادوا أن يخاطبوهم .
وكيفما كان دافع الكرم،فإنه من أسمى الخصال التي أتمنى أن تظل سائدة في بلدتنا ولو تراجعت كل الفضائل الأخرى التي كانت تعززه !
Aucun commentaire