بين الاتعاظ والتمادي في زمن كورونا
بسم الله الرحمن الرحيم
بين الاتعاظ والتمادي في زمن كورونا
الحسن جرودي / وجدة سيتي
من المعروف أن الإنسان من أكثر المخلوقات تأقلما مع محيطه إيجابا وسلبا، حسب طبيعة المعطيات التي تؤطر سياق هذا التأقلم، والتي يُعتبر المُعتقد من أهمها، لذلك وبسبب اعتقاد المغاربة بأن كل ما يقع في الكون بما فيه وباء كورونا الذي تفشى في العالم كله، هو من عند الله طبقا للسنن الكونية التي أوجدها جل جلاله، سهُل تأقلم معظمهم مع الحَجر الصحي عملا بالتوجيهات العملية للرسول صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الطواعين بصفة عامة، والدليل على سهولة هذا التأقلم هو ذلك التغيُّر المفاجئ الذي حصل في مجموعة من العادات السلبية نحو أخرى إيجابية تَمتح من قيم التآزر والتعاون وتمحيص مفهوم العبادة التي خُلق الإنس والجن لأجلها، وذلك من خلال الرجوع إلى القرآن والسنة النبوية التي لا شك أنها الحافز الأكبر نحو إعادة النظر في علاقة الفرد المؤمن بنفسه وبغيره من محيطه القريب والبعيد.
من العادات السيئة التي كانت سائدة قبل الوباء على سبيل المثال، هروب الزوج أو الزوجة أو الابن أو البنت من مشاكله وبها إما إلى الشارع أو المقهى أو الحانة أو غيرها من الأماكن. وبما أن هذا الحل الهُلامي الذي سرعان ما تَكْبُر تداعياته لتؤدي في الأخير إلى الطريق المسدود، أصبح غير ممكن، فإن الحل الوحيد المتاح أمام مختلف الشرائح الاجتماعية هو التعامل الإيجابي مع هذه المشاكل، وضرورة العمل على إيجاد الحل الملائم لها داخل البيت وليس خارجه. وهنا تبرز أهمية التربية والتربية الإسلامية بوجه خاص التي تُحَلُّ في إطارها المشاكل والخلافات بناء على الحوار والجدال بالتي هي أحسن، مما يؤدي إلى تمحيص كل طرف لتقديره لطبيعة المشكل، من خلال التجرد من الأفكار المسبقة الناتجة أساسا عن عدم تقدير وغمط الطرف الآخر وعدم الإحساس به، ليتبين للطرفين أن استعمال العنف لا يجدي نفعا في حل المشاكل الأسرية بالخصوص، ولا يزيدها إلا تعقيدا وتأزما، خاصة في مثل هذه الظروف التي تَفرِض على المتخاصمين المواجهةً المباشرة، التي لا شك إن أُحْسِن استثمارها من خلال اعتماد الصراحة والليونة في نفس الوقت في إفصاح كل طرف عن تصوره لطبيعة الخلاف، سيتبدد هذا الأخير مع الأخذ والرد حتى يتضِح في النهاية، في أغلب الحالات، أنه عبارة عن سوء فهم لبعضهما البعض مما يؤدي إلى بناء علاقات يؤطرها الصبر والعفو على ما يمكن اعتباره تجاوزا من الطرف الآخر في إطار الثقة المتبادلة وحسن النية، ليتم غلق الباب أما تلك الأصوات النشاز التي تتظاهر بالنصيحة في الوقت الذي تعمل فيه على تأجيج الخلافات وتخريب البيوت عملا بقوله تعالى جل جلاله : » يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ » ( 6 الحجرات) تفاديا للندم الذي قد ينتج عن إصابة الآخر عن جهالة بعد فوات الأوان، ومع كل الأسف فإن كل ما يقع مما لا تحمد عقباه من تفريق الأخ عن أخيه والصديق عن صديقه والزوجة عن زوجها وتشتيت الأسر وتعريض الأبناء للضياع والتشرد، مرده إلى هذه الأصوات التي تعتمد التجسس والغيبة والنميمة وسوء الظن بالآخر وكل ما نهانا الله عنه في آيات عديدة أكتفي منها بذكر الآية 12 من سورة الحجرات حيث يقول رب العزة : » يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ.
ومن المعلوم بأن كل الأصوات الإنسية التي تسعى إلى التفرقة وزرع الشقاق وتدعو إلى الخروج عن الطريق المستقيم، تمتح من منهجية الشيطان الذي يجتهد ليُزَيِّن لصاحبه كل أشكال الغواية، حتى إذا بلغ به مبلغا يستحيل معه الرجوع أو يكاد، تَنَكَّر له وتركه يواجه مصيره بنفسه مصداقا لقوله تعالى: » وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ »( الآية 22 من سورة الرعد) وهو نفس النهج الذي يتصرف من خلاله المستكبرون مع الضعفاء الذين ألغوا عقولهم واتبعوهم في أهوائهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم مصداقا لقوله تعالى: » وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ » (21 سورة الرعد). لهذا نقول لإخواننا الذين ابتُلوا في أسرهم بأن يعملوا عل حل مشاكلهم بالتي هي أحسن كيفما كانت طبيعة هذه المشاكل وطبيعة الأطراف الداخلة فيها، وأن لا يفوتوا هذه الفرصة التي أكرمنا الله بها رغم ما توحي به من نقم، وأن لا يُنصتوا بالخصوص لتلك الأصوات النشاز التي تصطاد في الماء وتتحين الفرص للتفريق بين المرء وزوجه، كما هو الشأن بالنسبة للحركة التي تجرأت على أن تسمي نفسها بأنه حركة بديلة من أجل الحريات الفردية، والتي لم تراعِ إلًّا ولا ذمة في الأسر المغربية التي يتجسد همُّها الأساس في هذا الوقت العصيب في البحث عن لقمة تسد بها رمق أبناءها، لتزيد من نزيف الجرح وتضرب على أوتار العنف الزوجي الذي تعترف في شأنه بأن ليس له تعريف في القانون المغربي، ومع ذلك فهي تقترح على الحكومة المغربية « تخصیص میزانیة من الصندوق الخاص لتدبیر جائحة وباء كورونا المستجد لمكافحة العنف المنزلي، ووضع تدابیر استثنائیة لمعالجة أوجه قصور القانون المتعلق بالعنف ضد النساء، وإصدار توجیھات للشرطة حتى لا یتم إھمال أو رفض أي شكوى. كما دعت إلى « تفضیل » الاتصال برقم الشرطة 19 للتبلیغ عن حالات العنف المنزلي ». وفي هذا قالت إحدى عضوات هذه الحركة بأنه « لا یمكن أن نتكلم عن أولویات في حقوق الإنسان عامة وحقوق النساء خاصة » مضيفة أنه « يتعين ترحیل الرجل العنیف من المنزل لا النساء والأطفال في غیاب مراكز إیواء ضحایا العنف ثم أجملت قائلة: على الأمن أن یقوم بعمله في ھذا، لأن الشرطة ھي الحلّ ».
إن إصدار مثل هذا الكلام في هذا السياق بالذات يعتبر دعوة إلى اختراق عملية الحَجر الصحي، لكونه يدعو إلى الفتنة عوض أن يدعو إلى الصبر والرحمة والتعامل بالحسنى وتجاوز تلك الحسابات الضيقة الناتجة أساسا عن تضخم الأنا عند أحد الطرفين أو كلاهما، وعوض الانخراط في تقديم المساعدات المادية التي من شأنها التخفيف من الضائقة التي تعاني منها جل الأسر المعوزة.
عوض هذا نجد أن هذه الحركة تُحمِّل المسئولية لرجال الأمن، كأنهم في عطلة استجمام متناسية معاناتهم الجسدية والنفسية من جراء الضغط الذي يتعرضون له بالليل والنهار، وتطلب الاستعانة بالصندوق المخصص لوباء كورونا كأننا خرجنا من الجائحة وبقي الصندوق مملوءا لا ينتظر سوى توزيع موارده التي لا زالت في حكم الوعد.
ومما يدل على سوء طوية هذه الحركة مطالبتها بإخراج الزوج من المنزل عوض الزوجة، أليس من الإنصاف القول بأن الخروج من البيت إذا كان لا بد منه، يجب في حق المعنِّف بغض النظر عن كونه ذكرا أو أنثى انطلاقا من مبدأ المساواة الذي تطالب به الجمعيات النسوية المماثلة لها، مع العلم أن تعنيف الزوجات لأزواجهن أصبح يتزايد يوما بعد يوم. ومع ذلك نقول بأن الخروج إلى الشارع في هذا الوقت بالذات يتعين استبعاده وإلا فإن تواجد أحد الطرفين أو كلاهما في الشارع يُعتبر وصمة عار في جبين الأسرة المسلمة قبل أن يكون دعوة للمساهمة في نقل العدوى التي شُرع الحَجر للوقاية منها. ومن سوء الطوية هذه ورود إشارة مهمة في كلام إحدى عضواتها مفاده أن استهلاك الخمر بشكل سليم ليس من أسباب العنف الزوجي، والخطير في هذا الكلام لا ينحصر في العنف الذي يمكن معالجته، بقدر ما يتمثل في إيعازه إلى التطبيع مع استهلاك الخمر في البيوت في الوقت الذي تعتبر فيه الفرصة جد مواتية للإقلاع عن معاقرة أم الخبائث التي لا يجرأ على استهلاكها في البيوت حتى المدمنون أنفسهم، لأنهم يعلمون أن ليس هناك ما يسمى بالاستهلاك السليم للخمر. ذلك أن مجرد الشروع في استهلاكها يَفتح الباب على مصراعيه أما مختلف الكوارث والأخلاقية منها على الخصوص ، وإلا فما كان للإسلام أن يُحرمَ قليلَ ما يُسكر كثيره طبقا للقاعدة الكلية » ما أَسْكَرَ كثيرُه فقليلُه حرام ». وإذا كان لأحد أن يستهلكها بشكل سليم فلن يكون أحسن من الناطق الرسمي السابق باسم الحكومة الفرنسية Benjamen Griveaux الذي خسر بسببها كل مستقبله السياسي الواعد بين عشية وضحاها.
لا ينبغي أن يُقرأ كلامي هذا على أنني أنفي وجود العنف داخل الأسر المغربية، إلا أن المشكل الأساس يتمثل في كون هذا النوع من الحركات والجمعيات تريد أن تُطَبِّع المجتمع المغربي المسلم على مصطلحات وممارسات غريبة عنه وعن ثوابت الأمة وقيمها الأصيلة، من قبيل الاستهلاك السليم للخمر والحريات الفردية التي طغى أثرها السلبي على المستوى الأخلاقي والعملي في مرحلة ما قبل كورونا إن في مدارسنا أو في شوارعنا وأحيائنا، ومن قبيل العنف الزوجي الذي يُستغل لضرب الأخلاق التي بُنيت عليها أسس الأسرة المغربية، بالإضافة إلى عدم إحساسها بدقة المرحلة التي نمر بها والتي لا يعلم عواقبها إلا الله.
ختاما أقول إن الوقت وقت واجب قبل أن يكون وقت حقوق، وعلى كل من له ذرة من حبٍّ لهذا الوطن بالتخلي النهائي عن تلك الخلافات الهامشية والتي غالبا ما يتم استيرادها من الخارج بحجة الحقوق الكونية والتي لن يكون لها مكان بيننا بعد اليوم، والتحلي بقدر من الذكاء الذي يدفع في اتجاه لَمْلَمَة كل قوانا للحفاظ على مقومات الأسرة المسلمة التي تتميز عن غيرها بالصبر والرحمة والتجاوز، في الوقت الذي يتعين على الكل التنازل على تلك الحريات المستوردة والاحتفاظ منها بالحد الأساسي الذي يخدم المصلحة العامة للبلاد على أن يُلزَم الجميع بالعمل الجاد المُتقَن في كل المجالات وخاصة مجالي التعليم والصحة، ولا مجال بعد انجلاء الغمة إن شاء الله لأن يتغيب أبناؤنا عن الدروس مهما كانت الظروف ولا أن يتجاوزوا حدودهم مع أساتذتهم، ولا أن يحتج أساتذتنا بعدم توفر الظروف الملائمة ، ولا مجال لهم بالاشتغال بالساعات الإضافية خارج المؤسسات، كما لا مجال لأطبائنا أن يقتصروا على معالجة الأغنياء، ولا على موظفينا أن يغادروا مقرات عملهم دون استيفاء الوقت المحدد لهم على أن تتحمل الدولة مسؤوليتها كاملة في سلك كل السبل التي تُخرجنا من التبعية وذلك بتوفير كل مستلزمات العمل الجاد الذي يصالحنا مع هويتنا العربية الإسلامية والضرب بيد من حديد على أيدي كل المطبعين مع قيمٍ غير قيمنا ومع الذين يعزفون على وتر النعرات العرقية لزرع بذور اليأس والتفرقة. والله من وراء القصد وصلى الله وسلم على سيدنا محمد معلى آله وصحبه.
الحسن جرودي
Aucun commentaire