من مؤشرات فساد القيم: طغيان المصلحة الشخصية على المصلحة العامة
بسم الله الرحمن الرحيم
من مؤشرات فساد القيم: طغيان المصلحة الشخصية على المصلحة العامة
إذا كانت المجتمعات الإنسانية والشعوب تَشترِكُ في عدد كبير من الخصائص الخِلفية والخُلقية على اعتبار وحدة الأصل، فإن الواقع يُبرهن على وجود فروق ومميزات تختص بها مجتمعات دون مجتمعات أخرى، وما يهمنا في هذا المقال هو بعض الفروق المرتبطة بثقافة وبيئة هذه المجتمعات، والتي يمكن على العموم تصنيفها إلى مجموعتين متباينتين، بحيث تتميز الأولى بعدد من الخصائص والصفات الإيجابية كضبط الوقت، وحفظ الأمانة، والصدق، وإتقان العمل، والإبداع، وإصدار الأحكام عن علم، وعدم الخوض في الأمور التافهة، وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة…فيما تتميز الثانية بخصائص وصِفات سلبية مناقضة لخصائص المجموعة الأولى كالاستهتار بالوقت، وعدم الإتقان، والتقليد الأعمى، وعدم حفض الأمانة، والنفاق، والخوض في كل شيء بعلم وبغير علم، والحرص الشديد على المصلحة الشخصية مقابل الاستهتار بالمصلحة العامة…
واعتبارا لطبيعة النفس البشرية التي يتدافع فيها الخير والشر منذ أن خلق الله الإنسان وإلى أن يرث الأرض ومن عليها، فإنك لا تكاد تجد مجتمعا أيا كانت تربيته وبيئته ومعتقداته يخلو من إحدى هذه الخصائص والصفات إيجابية كانت أم سلبية، لكن التوجهات العامة للمجتمعات هي التي تعطي الغلبة لهذه الصفات أو تلك.
وإذا كان المجتمع المغربي إلى عهد قريب تُميزه مجموعة من الممارسات الإيجابية كالصدق، والوفاء، والكرم، والإيثار، والحياء…وهي ممارسات مستمدة في جزء كبير منها من قيم التعاليم الإسلامية، فإننا بدأنا نلاحظ البروز العلني لعدد من التوجهات المَرَضية التي أصبحت تُروِّج لمجموعة من القيم الغريبة عنا باسم القيم الكونية التي تندرج ضمنها الحريات الفردية، في غياب تام لمراعاة خصوصياتنا الدينية والثقافية، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام طغيان ظاهرة إيثار المصلحة الشخصية على حساب المصلحة العامة، ومن ثم أصبحت كل الأساليب المؤدية إليها مباحة لدى هذه الشريحة التي لا تراعي إلاًّ ولا ذمة كلما تعارض الأمر مع مصلحتها الشخصية.
ومع الأسف فإن هذا الداء أصبح ينخر أغلب الحرف والمهن إن لم تكن جميعها ولو بنسب مختلفة، ولنا في مهن التدريس والتطبيب والصيدلة على سبيل المثال لا الحصر أكبر شهادة على ذلك. فمهنة التدريس التي لا تخلو من شرفاء يبذلون كل ما في وسعهم لتربية وتعليم الأجيال، لا تخلو في نفس الوقت من أصحاب الجشع الذين يُهملون واجبهم داخل الأقسام في الوقت الذي يحرصون فيه على إنجاز الساعات الإضافية بمقابل مادي قد لا يكون في متناول شرائح كبيرة من أفراد المجتمع، ومع ذلك فهم يبررون عملهم هذا بأنهم يخدمون المصلحة العامة بمساعدة التلاميذ على استيعاب دروسهم وتحضيرهم للامتحانات، والأمر نفسه ينطبق على مهنة التطبيب التي لا شك أنها تحتضن أطباء يحرصون على صحة المرضى أكثر من أي شيء آخر، في مقابل أولئك الذين يحرصون على تبرير الزيادة في قيمة التعريفة المرجعية الوطنية للعلاجات والتدخلات الطبية، بأنها تخدم مصلحة المرضى، وأي مصلحة هذه، خاصة بالنسبة لأولئك الذين لا يتوفرون لا على المال ولا على التغطية الصحية. وما قيل على مهنتي التدريس والطب يقال على مهنة الصيدلة، حيث رفض العديد منهم تخفيض الدولة لأسعار بعض الأدوية من خلال تبريرات تافهة تحاول أن تُفهمنا بأنها تُدافع بذلك عن المصلحة العامة، بينما الأمر واضح ولا يعدو أن يكون محاولة لاسترجاع هامش الربح الناتج عن تخفيض الأثمان في حالة الاحتفاظ لهم بنفس النسبة المئوية.
إذا كانت هذه التصرفات تدخل في إطار الحرص على المصلحة العامة، ففي أي خانة يمكن إدراج تعاملات أولئك الأساتذة الذين كانوا إلى عهد قريب يستدعون الفقراء من التلاميذ، بل وحتى الأغنياء منهم إلى منازلهم والاشتغال معهم لوجه الله، ثم يقدمون لهم ما توفر من الطعام ويزودونهم ببعض الكتب شريطة قراءتها لا غير، وأي صفة يمكن إطلاقها على أولئك الأطباء الذين كانوا يمتنعون عن أخذ أجرة الفحص بمجرد أن يشموا في المريض رائحة الفقر وقلة اليد. وبماذا يمكن أن نصف الصيادلة الذين كانوا يقدمون الدواء مجانا لذوي الحاجة في الوقت الذي أصبح البعض منهم لا يتورع عن التصريح بعدم جواز التخفيض في ثمن الأدوية، وهو أمر شاهدته بأم عيني في إحدى الصيدليات.
لا شك أن ضرر طغيان المصلحة الشخصية على المجتمع كبير، لكنه يصبح أعظم وأكبر عندما يتم تغليفها بالمصلحة العامة، لأن الأمر يتجاوز الأثرة إلى النفاق والخبث اللذان يعتبران مؤشران قويان على انهيار القيم والأخلاق التي بدونها لا يمكن لأي مجتمع أن يستمر في البقاء ولا أن تقوم له قائمة أمام المجتمعات والأمم، مصداقا لقول أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت —- فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
نسأل الله أن يرزقنا الإيثار وأن يعافينا من طغيان المصلحة الشخصية الضيقة ويدخلنا في زمرة الذين وصفهم بأنهم يوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. والله من وراء القصد.
الحسن جرودي
Aucun commentaire