ماذا بعد القانون الإطار؟
بسم الله الرحمن الرحيم
ماذا بعد القانون الإطار؟
كما كان متوقعا، تمت مصادقة البرلمان بمجلسيه، النواب والمستشارين على القانون الإطار للتعليم، الذي لم يأت بجديد ما عدى محاولته إصباغ نوع من « المصداقية » على المشروع الفرنكفوني الذي شرع السيد وزير التعليم في تنزيله من خلال سيناريو محبوك، حيث كما أشرت في مقال سابق أنه بعدما تم خلال الموسم الفارط تمرير إلزامية تدريس اللغة الفرنسية في جميع مستويات التعليم المدرسي من خلال الإصدار الصريح للمذكرة 123/18، استقر الأمر على أكل الثوم بأفواه مديري الأكاديميات بأمرهم إصدار مذكرات جهوية لجس نبض المجتمع المغربي من خلال تفاعله مع هذه المذكرات.
وعندما تم التأكد من أن التخدير بلغ مداه، وأن أنوف المغاربة خشماء (من الاخشم: وهو الفاسد حس الشم، وهو في الأنف: بمنزلة الصمم في الأذن) إلى الحد الذي تستوي لديها رائحة الثوم المنتنة ورائحة المِسك، ولعل أهم اختبار لهذا الصمم هو عدم إبداء أية مقاومة لهاته المذكرات على الرغم من كل الأخطاء المتعمدة الواردة فيها إن على مستوى الشكل أو المضمون، والتي لا يمكن فهمها إلا في إطار جس النبض وقياس عتبة الإثارة (seuil d’excitabilité) بسبب الأخطاء القانونية والمنهجية المتضمنة فيها كما أشرت إلى ذلك في مقال سابق بعنوان » أهي الجهوية الموسعة أم هو أكل الثوم بفم مديري الأكاديميات؟
إذن وبما أن اختبار جس النبض قد نجح، فلم يبق سوى المرور إلى المرحلة الموالية ليُستدعى مجلس النواب على عجل وتتم المصادقة على القانون بشكل لا يستسيغه أي منطق سليم، وإلا فما معنى أن يمتنع عن التصويت أعضاء فريق يُبدي معارضته للقانون؟ ذلك أنه إذا كان تصويت فريق أو فرق معينة لصالح قانون أو ضده ثم تكون الغلبة لهذا الفريق أو ذلك، فهذا أمر مقبول في إطار التدافع، بله مطلوب ديموقراطيا، أما وأن تمتنع عن التصويت شريحة من النواب المنتمين للفرق التي تبدي معارضتها للقانون، فهذا شيء غير مقبول مهما تكن الأسباب، ولا يمكن تفسيره إلا بمنطق التمثيل والالتفاف على مصلحة ألائك المغفلين الذين لا يزالون يعتقدون بمصداقية المؤسسة البرلمانية، وهنا لابد من عدم الخلط بين المؤسسة البرلمانية وبعض النواب الذين لا حول لهم ولا قوة.
بعد هذه المرحلة جاء دور المصادقة على القانون في الغرفة الثانية، وهذه المصادقة تعتبر لغزا في حد ذاتها ولا تقل غموضا عن المصادقة الأولى، وإلا فكيف نفسر حضور ما يقارب 50 مستشارا من أصل 120، ومعاودة لعبة الامتناع عن التصويت من قبل 9 أعضاء من المحسوبين على مناهضة القانون الإطار.
والآن وبعد المصادقة التي أخذت وقتا لا يستهان به ليس للإقناع والإقناع المضاد وإنما للتعرف على مختلف ردود الأفعال يبقى السؤال الطروح هو: ماذا بعد القانون الإطار؟
وعد المروجون له من علمانيين وفرنكوفونيين بأن مردودية تعليمنا سترتفع، وأنه سيتم إلغاء الفوارق بين أبناء الشعب وأبناء الأغنياء بمجرد فرنسة التعليم، ومن ثم يمكن أن نتوقع تكافؤ الفرص بين مختلف أطياف المجتمع في ولوج مؤسسات التعليم العالي، وفي الاستفادة من فرص الشغل اعتمادا على معيار الكفاءة ودون اعتبار للمحسوبية والزبونية، ثم قيل لنا بأن الفرنسية لا تعدو أن تكون مرحلة انتقالية، لتفسح المجال للغة العلم الحقيقية التي هي الإنجليزية. وهذا النوع من الكلام كان دائما يسبق كل « إصلاح »، ثم بعد الفشل تعطى التبريرات. وبما أننا استُغفلنا لمرات عديدة فإننا نطلب منكم إعطاءنا برنامج عمل دقيق يحدد مختلف المراحل بأهدافها ومددها الزمنية، وتوضيح مفهوم الرفع من مردودية التعليم، ذلك أنه إذا كان الأمر يتعلق بالأرقام فإن أرقام البكالوريا لهذه السنة على الخصوص لا يمكن أن نصبو إلى أحسن منها لو كانت هذه المردودية من صنف تلك المتعارف عليها في البلدان التي تحرص على تطبيق معايير صارمة في تسليم هذه الشهادة المهمة في حياة الفرد والمجتمع على حد سواء. كما نطلب منكم أن توضحوا لنا البرنامج العملي لإتقان اللغة العربية، ومتى سيتم الشروع في التدريس باللغة الإنجليزية؟…وكيف تنوون التعامل مع فشلكم الذي لا محالة أنتم بالغوه؟
هذه الأسئلة طرحتها قبل أن أطلع على قرار الحكومة برفض المقترح البرلماني الذي تقدمت به مجموعة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والداعي إلى تدريس أبناء المسؤولين المغاربة في المدرسة العمومية، خلال جلسة التصويت على مشروع قانون الإطار لإصلاح التعليم في جلسة عامة بمجلس المستشارين، حيث يقضي المقترح بما يلي: « يُلزَم المسؤولون المغاربة، وخصوصا أعضاء الحكومة والبرلمان ومدراء المؤسسات العمومية، بتسجيل أطفالهم للدراسة بالتعليم العمومي الإلزامي ».
لكن بعد هذا القرار، وبعد التدبر في عدم استجابة الحكومة لمطالب طلبة الطب في تحيز واضح لطلبة التعليم الخصوصي، وبعد تلك الفضيحة المدوية التي عجز خلالها وزير التربية الوطنية على قراءة جملة عربية مكتوبة قراءة صحيحة، في الوقت الذي يعدنا فيه بتحسين مستوى اللغة العربية لدى المغاربة، خرجتُ من الشك إلى اليقين مرة أخرى بأن حُكومَةً ترفض تسجيل أبنائها بالتعليم العمومي حتى مع تعميم الفرنسية التي كانت هي أهم عنصر تم امتطاؤه للدفاع عن القانون الإطار، في الوقت الذي تفرض فيه تدريس أبناء الشعب باللغة الفرنسية، لا يعدو أن يكون تكريسا لثنائية فرنكوفونية ،فرنكوفونية الشعب وفرنكوفونيتهم، بحيث تستهدف الأولى تنشئة أبناء الشعب عن احتقار اللغة العربية وعدم الاهتمام بها مما يؤدي حسب تقديرهم إلى سلبهم أهم وسيلة للتقرب من الدين وفهمه الفهم الصحيح، ذلك أنه إذا كان معروفا في الأدبيات التربوية بأن شخصية الطفل تتكون أساسا في السنوات الخمس الأولى من عمره، فإن حرص برامج التعليم الأولي على حذف كل ما له علاقة بحفظ القرآن، وإدراج اللغة الفرنسية وكل ما يمكن أن تحمله من قيم غربية، فإن علاقة هذه الطبقة مع لغتها ودينها لا يمكن أن تكون أحسن حالا مما سبق، بل حتى حال اللغة الفرنسية نفسها سيكون أسوأ، لأن اعتمادها في تدريس العلوم سيوكل لأساتذة معظمُهم لا يتقنونها، لذا فمن المنتظر أن تكون النتائج كارثية إن على مستوى الحفاظ على القيم والثوابت الوطنية وإن على مستوى اكتساب اللغات بصفة عامة، ولا يمكن أن تكون في أحسن الأحوال أرقى من النتائج المحققة في تونس حيث أنك إذا تتبعت بعض إذاعاتها لا يمكن أن تفهم ما إذا كان البلد عربيا وتَفَرْنَسَ أم أنه كان فرنسيا وتعرب، وهو أمر أصبحت بوادره ملموسة في عدة محطات إذاعية وتلفزيونية لدينا وفي عدد من مظاهر الحياة الاجتماعية.
أما في الثانية فالمنطلق هو أنه لا مكان لا للعربية ولا للدين الإسلامي بصفة عامة لأن الثقافة السائدة هي غربية بالأساس، لذلك يبقى المهم هو التركيز على ولوج أبنائهم للمدارس العليا ولأحسن الجامعات في الخارج، وهذا لا ُيتاح إلى بالدراسة في مدارس خصوصية داخل المغرب لا مجال لأبناء الفقراء لولوجها، حتى وإن أنفقوا غاليهم ونفيسهم لولوج مدارس خصوصية يحسبون أنها ستؤدي بهم إلى نفس المسار وهم في ذلك واهمون، فلا هم احتفظوا لهم بتلك الأموال « لدوائر الزمان » كما يقال ولا هم قاطعوا التعليم الخصوصي وركزوا اهتمامهم على إصلاح التعليم العمومي وعدم السير على خطى الحكومات المتعاقبة التي كانت ولا زالت تطمح إلى خوصصته.
ختاما أقول إن تعليمًا لا ينطلق من ثوابته الدينية واللغوية وإمكاناته الذاتية المادية واللامادية، لا يمكن إلا أن يكون تابعا لأُلائك الذين لا يدَّخرون جهدا في استدامة هذه التبعية حتى تصبح مزمنة وغير قابلة للعلاج. غير أن التاريخ برهن على أن حبل الكذب قصير وأنه لا بد للمجتمع أن يعرف الأهداف الحقيقية، وقد بدأت تظهر، من هذه المخططات التي تُطبخ في مطابخ الفرنكوفونية، وآنذاك ستستعيد الأمة عافيتها وقدرتها على التمييز بين ما يصلحها وما يفسدها.
الحسن جرودي
Aucun commentaire