قراءة سياسية لحراك الجزائر الرافض للعهدة الخامسة
القراءة السياسية لحراك الجزائر ضد العهدة الخامسة، تتطلب تسليط الضوء على المؤسسة العسكرية كفاعل رئيسي في رسم السياسة العامة للبلاد و دورها في هندسة باقي المؤسسات على مقاسات لا تخرج عن دائرة سلطة الثكنات، وبالتالي يجوز طرح سؤال حول ما إذا كان ما يقع من تظاهر عبارة عن رد فعل شعبي عفوي، أم أن الشعوب وبحكم سيكولوجيتها الرافضة للوضع هي مجرد آلية يستعملها الجيش لترتيب الأوضاع من جديد داخل منظومة يراد لها أن تبقى على نفس النسق وإن تغير الأشخاص، فالراجح أن المؤسسة العسكرية تتقن لعبة تطويع المشهد السياسي، فاللاعبان الأساسيان في الحقل السياسي هما الجيش وجبهة التحرير، وإذا كانت سياقات بناء الدولة ترتبط بحرب تحريرية تأسست على عمل سياسي ممثلًا في جبهة التحرير الوطني، كجناح سياسي، وعملٍ مسلح وعسكري ممثلًا في جيش التحرير الوطني الجناح العسكري. فقد وقعت خلافات حادة بين الطرفين خلال صيف عام 1962، بموجبها حسمت قيادة الأركان الصراع لصالحها، وتكرست هيمنة العسكر على الحكم الذي مارسه عبر جبهة التحرير باسم الشرعية التاريخية والثورية وتمكن من استقطاب الطرف المدني في خياراته السياسية والاقتصادية.
الشرعية التاريخية التي اعتمدتها المؤسسة العسكرية استثمرتها ضمن شرعية شعبية مكنت من قبول جماهيري « نسبي » للحكم العسكري إذ لا تزال في المخيلة الشعبية صورة الجيش الوطني كجيش تحريري، وهذا الإستثمار تكرس حتى من خلال أفلام الثورة الجزائرية التي وإن تطرقت لبعض رموز التحرير، إلا أنها نجحت في تثبيت فكرة الجندي المحرر، و »الفلاكة » و ثوار « الجبل »، الأمر الذي جعل الجيش يحظى بمكانة سهلت عليه مخاطبة المشاعر الوطنية بالأدبيات الثورية.
ومن خلال قراءة مسار الحراك الجزائري الرافض للعهدة الخامسة، وبرغم المسيرات المليونية والحماس الشبابي الذي وظف الشعارات السياسية لملاعب كرة القدم في خرجاته، يبدو أن بصمة الجهات النافذة في الجيش حاضرة، من خلال ترجيح فكرة أنه –يعني الجيش- هو الذي روج لفكرة التظاهر في غياب جهة معينة تتحمل مسؤولية الدعوة للتظاهر، وأنه سمح بتداول الفكرة على نطاق واسع عبر شبكات التواصل الإجتماعي بعد أن كان صبيب الانترنيت يكاد يكون مقطوعا خاصة في ظل بعض الظروف، كما يضاف إلى ذلك فرضية توجيه كل شعارات التظاهر نحو هدفين رئيسيين، أولهما التركيز على رفض العهدة الخامسة وهو ما يعني ضمنيا رفض التجديد لبوتفليقة و ليس رفض المنظومة التي ينتمي لها بوتفليقة، وثانيهما طغيان شعار « بوتفليقة يا المروكي ماكانش عهدة خامسة » كمحاولة لتصريف الأزمة نحو المغرب كعدو، والقفز على المشاكل الإقتصادية والإجتماعية التي عرفتها 20 سنة من حكم بوتفليقة، بمعنى أن هفوات هاته السنين وكأنها ترتبط بالمغرب وليس بجبهة التحرير ومن ورائها الجيش الوطني الشعبي.
التظاهر الذي تعرفه شوارع مدن الجزائر، رغم سلميته وحضاريته وبرغم بعض الانفلاتات المسجلة، لا يحمل مشروعا مجتمعيا يتجاوز العهدة الخامسة نحو إقرار نظام سياسي أكثر انفتاحا وأكثر توزيعا لثروة البلاد التي راكمت ملايير الدولارات من البترول وتعيش وضعا اقتصاديا مزريا، جعلها ترفع نسبة التضخم برفع سقف طبع العملة، في وقت تشكل فيه شبيبة البلد أكثر من 54% من الساكنة بآفاق مستقبلية مسدودة
والوضع والحالة هاته، يبدو أنه يسير في ضمان استمرار نفس المنظومة التي يمكن للجيش أن يضحي من خلالها بآل بوتفليقة، وكسب تعاطف الشارع، و استغلال الفرصة لضرب المعارضة الضعيفة أصلا بتوسيع هامش شعبية بعض المرشحين المستقلين كرشيد نكاز، الذي حتى في حال وصوله لن يخرج عن مسار ما بناه الجيش من خطط طريق، إذ معضلة الجزائر ليس داخلية فحسب، بل إقليمية ودولية يصعب على أي رئيس محتمل تغيير مسارها على الأقل في الأمد المتوسط.
فتجربة الجهات النافذة في الجيش، يبدو أنها هي التي تقف وراء رسم هذا السيناريو الذي يجعل الشعب يرفضه و هي القادرة على كسر نفس السيناريو لكسب تعاطف هذا الشعب وضمان استمرار نفس النسق السياسي.
وحتى في حال انفلات الوضع على الشكل الذي لا يريده الجيش، فمثل هاته المنظومة تكون لها خطط بديلة تراهن فيها على نظريات المآمرة وتوسيع مجال الإعتقالات، أو إحداث تفجيرات مرعبة و كمائن مزورة تعزف على وتر عودة الإرهاب، وهو ما لا نتمناه لشعب الجزائر الشقيق، الذي فعلا ضحى بملايين الشهداء حتى تعود الجزائر مستقلة.
فالجيش يعتمد آلية حزب جبهة التحرير الوطني كحزب إيديولوجي للنظام في الجزائر، ويخلق أزمات داخلية بالحزب كلما كانت الجزائر على موعد مع انتخابات جزائرية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر لترتيب الأوضاع، آخرها ما نسبه ولد عباس لبوتفليقة يوم 30 ماي 2018 من عزل 15 عضواً من المكتب السياسي للحزب من أصل 19 عضواً، وتعيين 15 عضواً جديداً مكانه، الأمر الذي جعل الحديث عن خلافة بوتفليقة تتوقف و سار النقاش في اتجاه الأزمة التنظيمية للحزب، وهذه الهزات يعرفها الحزب قبل كل الرئاسيات منذ 1995 السنة التي رفض فيها الأمين العام الراحل، عبد الحميد مهري، دعم مرشح السلطة حينها لانتخابات الرئاسة الجنرال ليامين زروال، وفي أكتوبر 2003 شهد الحزب أزمة جديدة قبل الانتخابات الرئاسية التي جرت في إبريل 2004، بعد انقسام الحزب بين مؤيد للمرشح علي بن فليس، الذي كان يشغل حينها منصب أمين عام الحزب، وبوتفليقة كمدعم من طرف الجيش، وتواصلت أزمة الحزب نهاية العام 2008، قبيل الانتخابات الرئاسية التي جرت في إبريل 2009، إذ شهد الحزب صراعاً حاداً على قيادته، وفي 2013 تجددت أزمة الحزب بفعل حالة تمرد على أمينه العام السابق، عبد العزيز بلخادم، الذي أطيح به في اجتماع عاصف، وتولى عمار سعداني قيادة الحزب حتى أكتوبر 2016، والذي استخدم للتشهير والإطاحة بالقائد الأسبق لجهاز الاستخبارات، الفريق محمد مدين المعروف بتوفيق، قبل أن يتنحى سعداني من منصبه في اجتماع مثير ووسط فوضى واحتجاجات وصدامات بين قيادات الحزب. ولم تتح مجمل الأزمات الداخلية التي عاشها الحزب الحاكم بناء أية تصورات سياسية أو مرجعيات فكرية، مما يسهل من مأمورية تهييج الشارع واستثمار هيجانه في فك وإعادة تركيب رقعة البلاد السياسية من طرف الماسكين
الحقيقيين بخيوط اللعبة في البلد.
Aucun commentaire