كيف شرح العلامة بنحمزة حديث « أمرت أن أقاتل الناس… »؟
أحمد الجبلي
لا شك أن هذا الحديث النبوي الشريف الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إلاه إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويوتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله » شكل ضربة قاضية للكثير من المسلمين قليل العلم والاطلاع، وقد تم استغلاله من طرف أعداء الإسلام أيما استغلال ليثبتوا، فرحين، بأن الإسلام حقا قد انتشر بالسيف وأرهب الناس وأن لا علاقة له بالتسامح والحوار وحسن الجوار.
وفي تفسير مثير ومقنع، يقف العلامة الدكتور مصطفى بن حمزة عند قول الحديث وهو حديث لا ينكر العلامة صحته بخلاف من لا يدري له تفسيرا ولا شرحا فيشكك فيه لخطورة ما يحمله ظاهريا، أو لصعوبة إيجاد مخرج من مأزق الدعوة إلى قتال الناس حتى يسلموا.
لكن العلامة بن حمزة بفطنته وحسن فهمه وإدراكه، يبدأ بطرح تساؤلات تنويرية من شأنها أن تجلي اللبس الحاصل وتزيل الغشاوة عن الأعين، فيقول: لقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي، ليطرح السؤال التالي: فكيف استمر هذا اليهودي على قيد الحياة حتى أدرك النبي أن يشتري منه طعاما بدين ويرهنه درعه إذا كان شأن النبي أن يقاتل كل من لم يسلم؟
ثم يقول: ألا يستفاد من رهن الدرع لدى يهودي أن فيه معنى آخر هو معنى الأمان وعدم الاستعداد والتهيئ للحرب ما دام المحارب لا يرهن سلاحه لأنه قد يحتاجه؟ وإن هو رهنه فإنه لا يرهنه لدى محاربه، لأن السلاح هو عنوان قتالية المقاتل.
ثم يسترسل قائلا: إذا صح أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتعامل مع غير المسلمين إلا من موقع القتال فكيف ينسجم هذا مع إيصائه باليهود والنصارى، ودعوته إلى حقن دماء الرهبان والعباد والمنقطعين في الصوامع في حالات المواجهة، مع أنهم الأصل في بقاء الدين المخالف بما يقدمونه من توصيات للاستمرار عليه؟ ولو تعلق الأمر باستئصال الدين المخالف لكان رجال الدين أولى بأن تتجه إليهم المقاتلة. ثم يستمر سائلا ومستنكرا: كيف يتفق موقف القتال المطلق للمخالفين مع ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عامل يهود خيبر على رعاية النخيل وإصلاحه، وبعث معادا إلى اليمن وأمره أن يأخذ من غير المسلم دينارا أو مقابله من ثياب؟
ثم يلفت النظر إلى مسألة غاية في الأهمية وهي لو أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتعامل مع غير المسلمين إلا بقتالهم، فكيف أسس أحكام المعاهدات والذمة، وأحكام الإبقاء على الكنائس وعدم مضايقة أهلها، والسماح للمسلمين بأن يتزوجوا بالكتابيات، بل ومن أين ستأتي الكتابيات أصلا في المجتمع المسلم حتى يتزوجهن المسلمون؟ ثم كيف له، والحال هاته، أن يوصي بالأقباط خيرا، بل وكيف يستمر الوجود الفعلي لليهود والنصارى في البلاد الإسلامية بكثافة قوية، وكيف استمرت معابدهم وكنائسهم القديمة ماثلة إلى اليوم حتى بلغت أحد عشر ألف كنيسة في زمن المامون كما يؤكد ذلك وول ديورنت وغيره؟
ويبدو أن العلامة بن حمزة قد اقتصر فقط هلى ثلة من الأسئلة التي يمكن طرحها، في الوقت الذي يمكن طرح أخرى، كما يقول، وذلك لكفايتها في التدليل على أن الإسلام في تعامله مغ عير المسلمين كان تعاملا متنوعا لا يتأسس على الرغبة في الاستئصال.
ليخلص، في الأخير، إلى أن الفهم الصحيح للحديث يتجه إلى أن النبي حدد الغاية من القتال حينما يقع، أي أنه بهذا الحديث إنما يبعد أن يكون القصد هو الاستيلاء على خيرات الآخرين أو إبادتهم للحلول مكانهم أو لإنهاء دورهم الحضاري، وهي الأمور التي طالما توخاها الغزاة الذين لم يحملوا إلى الآخرين رسالة أو قضية، وإنما سعوا إلى إزاحتهم عن بلادهم وإلى الاستيلاء على خيراتهم.
كما يخلص إلى أن الموقف الحقيقي والنهائي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من غير المسلمين لا يمكن استخلاصه من جملة من النصوص المتعلقة بالموضوع على طريقة المقابلة والترجيح بينها، بل يجب استخلاصه أيضا من الواقع العملي ومن المواقف المتعددة التي ترشد إلى الإطار العام للتعامل مع غير المسلمين.
وأما من حيث اختلاف التعامل مع غير المسلمين فقد كانت تمليه طبيعة المواقف والمعاملات التي كانت تصدر عن الآخرين تجاه الإسلام، ومن ذلك ما قاله ابن عباس في حديث للإمام البخاري: « كان المشركون على منزلتين من النبي ومن المومنين كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونهم ». ويذهب العلامة إلى تصنيف المحاربين إلى ثلاثة أصناف أملتها طبيعة مواقفهم والوضعية التي يكونون عليها: فمنهم أهل الذمة وهم الذين يساكنون المسلمين بصفة دائمة، ويوفر لهم المسلمون حقوقهم في ممارسة شعائرهم الدينية، ويهيئون لهم فرص المشاركة الاقتصادية والاجتماعية، ويتولون الدفاع عنهم ضد أعدائهم بموجب انتمائهم للمجتمع الإسلامي. ومنهم أهل هدنة: وهم الذين صالحوا المسلمين على أن يكونوا في ديارهم آمنين وتجمع بينهم وبين المسلمين مقتضيات المعاهدة وما تتضمنه من تعاون وتبادل للمصالح وللزيارات، ولا يشترط أن يكون من مقتضى المعاهدة دوما دفع مقابل مالي. ومنهم المستأمنون: وهم غير المسلمين من الوافدين إلى البلاد الإسلامية من غير أن يستوطنوها، ومن هؤلاء السفراء وحملة الخطابات الرسمية والتجار والمستجيرون وهم اللاجئون الفارون من حرب أو ظلم، ومنهم طالبو الحاجات كطلب العلم والسائحون.
وهكذا، وبهذا الشرح المستنير، ولو كان مختزلا ومقتضبا، يكون العلامة مصطفى بن حمزة قد أزاح ثقلا كبيرا من فوق ظهور المسلمين الذين قد أشكل عليهم الحديث إشكالا كبيرا، كما أنه دحر أطروحات كل الذين كانوا يمتطون ظاهر الحديث ليثبتوا بأن علاقة الإسلام بجيرانه من أصحاب الديانات الأخرى كانت عدوانية قتالية وصدامية.
Aucun commentaire