قراءة في فرض الرسوم على الموظفين الراغبين في متابعة دراستهم الجامعية.
بسم الله الرحمن الرحيم
قراءة في فرض الرسوم على الموظفين الراغبين في متابعة دراستهم الجامعية.
لا أحد يجادل في أهمية العلم أكان ذلك العلم علما شرعيا أو دنيويا، فمن الناحية الشرعية نجد أول سورة نزلت تأمر بالقراءة التي هي مفتاح العلم حيث وردت مقرونة باسم الخالق « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ » ثم باسم الأكرم » اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ »، ولعل تكرار مادة « علم » أكثر من 580 مرة في القرآن تدل على أهمية العلم في حياة الناس وفي آخرتهم. فأما من الناحية الدنيوية المحضة فيكفي أن ننظر إلى المكانة التي تتبوؤها الأمم التي أخذت بناصيته، وكيف أصبحت تتحكم من خلاله في مصير الأمم التي حادت عنه أو اتخذت طُرقا ملتوية لتحصيله تتمثل في اعتماد سياسات ارتجالية مرتهَنَة للغرب وإملاءاته والتي لا يمكن إلا أن تخدُم مصالحه في المقام الأول ولا تسمح سوى بالقدر الذي لا يتنافى ومصالحة الحيوية.
وإذا علمنا أن الإسلام يحث على طلب العلم مصداقا قوله صلى الله عليه وسلم » منْ سَلَكَ طَريقًا يَبْتَغِي فِيهِ علْمًا سهَّل اللَّه لَه طَريقًا إِلَى الجنةِ » وأن لا يكتفي بقدر معين منه، وإنما يطمح إلى الاستزادة منه مصداقا لقوله تعالى الذي يخاطب فيه رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم « فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا »(الآية 114 من سورة طه)، وإذا علمنا أن طلبه لا ينحصر في مرحلة من مرحلة حياة الإنسان دون أخرى طبقا للحكمة القائلة » اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد » وطبقا لما روي عن الإمام أحمد عندما سئل عن وقت طلب حيث قال » من المحبرة إلى المقبرة » وأن العلم يُطلب حيث وجد ولو بَعد المكان، تبعا للمقولة المأثورة « اطلبوا العلم ولو بالصين »؛ إذا علمنا هذا كله لا يمكن إلا نندهش لما ورد في مقال لإحدى الجرائد الإلكترونية بتاريخ 5 فبراير 2019 في شأن إجبار من يرغب من الموظفين في متابعة دراسته الجامعية على تأدية رسوم مقابل الدراسة. وحتى تتهرب الوزارة المعنية من مسؤوليتها، صرح السيد وزير التربية الوطنية حسب نفس المقال بأن « هذه الرسوم تم فرضها في إطار استقلالية الجامعات » وكأن استقلالية الجامعة تعني خصصتها أو هكذا يُراد أن يُفهم، ويضيف السيد الوزير بأن « الدولة هي الضامن الأساسي للولوج إلى التعليم العالي بالنسبة للطلبة، وهم الفئة التي يجب أن نولي لها اهتماما، وهؤلاء الموظفون لما كانوا طلبة أعطيت لهم فرصة ».
وتعقيبا على هذا الكلام أقول للسيد الوزير أن الاستقلالية لا تعني الخصخصة، وإلا فإن ما ينطبق اليوم على الجامعة سينطبق غدا على الأكاديميات حيث سيصبح كل منقطع عن الدراسة بشكل رسمي لسبب من الأسباب وما أكثرها، مطالَبا بأداء الرسوم، وهو ما يضرب في العمق مبدأ المجانية وحق الإنسان في التعلم مدى الحياة الذي حسب علمي لا يُشترط فيه التفرغ للدراسة؛ ثم بعد هذا فالاستقلالية حسب فهمي البسيط نوع من التعاقد بين الوزارة أو الحكومة والمؤسسة المعنية على أن تتحمل هذه الأخيرة المسؤولية كاملة في التصرف في الميزانية المخولة لها وفي مجموعة من الآليات والسلطات التي يتم تفويضها إياها في أفق بلوغ الأهداف المتفق عليها، والتي يتم على أساسها مساءلتها ومحاسبتها، وإلا فلا يبقى على الدولة سوى إعطاء الاستقلالية لمختلف المؤسسات لإخلاء مسؤوليتها ومن ثم استقالتها.
لا يا سيدي الوزير، ما هكذا تؤكل الكتف، ولا هكذا تورد الإبل، فما دام هذا الموظف أو ذاك يتقن عمله ويؤدي الضرائب المفروضة عليه بلا تأخير، فلا يملك أحد أن يحرمه من حقه في التعلم ومن الترقي في السلم الاجتماعي، ذلك أن الذي غادر الدراسة في وقت ما، ليس لأنه زَهِد فيها وإنما اغتنم فرصة الشغل التي أتيحت له لضمان لقمة العيش، لكونه يعلم أنه لو ضيعها قد لا تتاح له مرة أخرى، ولعل مثال المتعاقدين خير دليل على ما أقول، وقد يقول قائل بأن متابعة الدراسة الجامعية قد تكون سببا في شغل صاحبها عن القيام بعمله على أحسن وجه، ولعل هذا الاعتبار هو الذي كان وراء عدم الترخيص للمدرسين لمتابعة دراستهم الجامعية في مرحلة سابقة، قد يكون هذا صحيح إلى حد ما، وقد يكون هناك دافع آخر يتمثل في الرغبة في الإبقاء على أبناء الشعب في الرتب الدنيا من السلم الاجتماعي، وهو ما يذكرني بأحد الاجتماعات خلال سنوات التسعينات من القرن الماضي الذي جمع المفتشين بالسيد النائب الإقليمي آنذاك حيث اقترح ما سماه بالمدارس المتنقلة التي يتعين على أبناء الجهات النائية أن يتعلموا فيها حِرف أبنائهم للحفاظ عليها ومن ثم عدم النزوح إلى المدن التي يتعين عليهم تزويدها بما تحتاجه من منتوجات الاعلم القروي.
وإذا أن الدافع الأول هو المعتمد أي انشغال الموظف بالدراسة عن العمل، فما الذي يمنع هذا الموظف من ممارسة مهام أخرى وهي كثيرة وأولى من أن تشغله عن العمل الذي يزاوله بشكل رسمي؟
للإجابة على هذا السؤال هناك مدخل قيمي وآخر زجري، فالأول عبارة عن إحساس الشخص بمراقبة الله عز وجل له، وهذا الإحساس يُكتسب عن طريق التربية والتعليم وعن طريق القدوة التي يتعين أن يتحلى بها المسؤولون من مختلف مستوياتهم، لكون إتقان العمل عبادة من أَجَلِّ العبادات، أما الثاني فيتعلق بتوفير آليات فعالة للمراقبة والتقويم تأخذ معيار المردودية أساسا لها، وبما أن الدندنة تدور بالأساس حول رجال ونساء التعليم فلا بد من إحياء دوْر التفتيش الذي غُيِّب من زاويتين، الأولى تتمثل في النقص المهول في عدد المفتشين الذين أصبحوا على وشك الانقراض في بعض التخصصات، والثاني يتمثل في المهام المتناسلة التي أصبحوا يُقحَمون فيها، والتي غالبا ما تخرج عن اختصاصاتهم.
في الأخير أقول للسيد الوزير أن حذف هذه الرسوم لمن يرغب في متابعة دراسته من الموظفين لا يمكن إلا أن يساهم في جعله صالحا لنفسه ووطنه، ذلك أن تحصيله لشهادة جامعية عن جدارة واقتدار، يمكن أن يكون سببا في الترقي في السلم الإداري والاجتماعي أو ربما تغيير وظيفته بأخرى أكثر ملاءمة لميوله وقدراته المعرفية، لا لكونه حصل الشهادة في حد ذاتها، ولكن لكون هذه الشهادة مكنته من تحصيل ما يكفي من المعارف ، حتى إذا أتيحت له فرصة الولوج لوظيفة جديدة، أو القيام بمهمة معينة أو الإشراف على مشروع معين عن طريق مباراة تسمح بالتعرف الدقيق على الخصائص المطلوبة، تبوأ الصدارة وحصل على الوظيفة أو المهمة أو المشروع عن جدارة واستحقاق، ومثل هذا الشخص لا يمكن إلا يكون صالحا لنفسه ومجتمعه، أما الاحتفاظ بهذه الرسوم وربما تعميمها على كل الجامعات سيكون وبالا عليه وعلى المجتمع ككل، ذلك أنه يجد نفسه بين اختيارين لا ثالث لهما، إما أن يعزف عن متابعة الدراسة وهو ما سيؤدي به حتما إلى الأمية وإما أن يغامر براتبه الذي غالبا ما يكون مثقلا بمتطلبات الحياة الأساسية، مما سيلجأ معه إلى الاقتراض في جل الأحيان ومن ثم ُيضيِّق عليه وعلى عائلته، مما سيجعل منه فردا ناقما على المجتمع، من خلال عدم إتقان عمله والتحلي بالأنانية التي بدأت بوادرها تلاحظ في جل شرائح المجتمع، وفي كلتا الحالتين فإن المجتمع هو الخاسر الأكبر.
أما فيما يتعلق بضمان الدولة ولوج الطلبة للتعليم الجامعي، فأعتقد أن الحق في التعلم يتجاوز مسألة ضمان الولوج ولو أن مسألة الولوج هذه فيها نظر، لأن عدد الذين يلجون سلك الماستر أو الدكتوراه ضعيف جدا بالنسبة للحاصلين على شهادة الإجازة، قلت إن المسألة تتجاوز ضمان الولوج، إلى تمكينهم بمنحة تسمح لهم باستقلالية ولو نسبية علما أنه من العيب أن يتكل الطالب الجامعي على أبويه حتى وإن كان في إمكانهما مساعدته بسبب الأضرار النفسية التي تصاحب هذه المساعدة، ثم الحرص على الرفع من مستوى التكوين من خلال توفير مؤطرين في المستوى، ومختبرات مجهزة، ثم لم لا خلق آلية لمراقبة جودة التعليم والبحوث على شكل هيئة تجيز كلا من الطالب الباحث ومؤطروه.
في الأخير أقول لك السيد الوزير بأنه يجدر بك، قبل فوات الأوان، أن تبذل كل ما في وسعك لتمكين الجامعات من الآليات التي تسمح لها بمنافسة جامعات العالم، من خلال تخريج أناس متمكنين من ناصية تخصصاتهم، وقدرتهم على الإبداع فيها، ومن يدري لعل الموظفين سيكونون أكثر إبداعا لأنهم احتكوا بالواقع اليومي وخبروه أكثر من غيرهم، عوض السير في هذا النوع من المقاربات التي لا تزيد الجامعة إلا تأزما من خلال تخريج أفواج متتالية من المعطلين، وذلك من موقعك كراعٍ مسؤولٍ عن رعيته، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم « كلكم راع وكلم مسؤول عن رعيته » ولأن العلم هو الذي يبوئ الأمم الصدارة والمراتب العليا مصداقا لقوله تعالى: « يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ » (الآية 11سورة المجادلة) صدق الله العظيم.
الحسن جرودي.
Aucun commentaire