مَـوقـعَـة “بَــابُ السُّــفـَــرَاء“ تخلفُ ضحَايا في صُفـوف حَـاملي الشهَادات العُـليا
بقلم: إدريس الواغيش
قد يُصبح “باب السُّـفـَـرَاء“ في مدينة الرباط أشهر من كُـل الأبواب التاريخية الجميلة في المغرب، يَـعرفه الناس ويُعَـرِّفون به مثل “باب منصور لعْـلج“ في مكناس أحد أكبر الأبواب وأجملها في العالم و“باب أبي الجُـنود“ المشهور بفاس، وقد يُصبح أيضا مكانا للزيارة في المُستقبل لأجيال بكاملها لما يحمله من تراكمَات وندوب في تاريخ الرباط المُـتأخر.
لم أكن أعـرفُ أن هناك بابٌ اسمه “بابَ السُّـفرَاء“ في الرباط، رغم اعتصامي في الرباط مرارًا كيساري مغربي سواء من أجل العراق أو فلسطين في زمن فائت، لكن حُصولي على “شهادة عُـليا“ جعَـلتني أتردَّدَ عليه في السنتين الأخيرتين مُـطالبا بالترقية وتغيير الإطار كباقي زملائي وزميلاتي من حاملي الشهادات العليا في المغرب، لكن في كل مرَّة أمر منه يترك بداخلي جُـروحـًا غائرة أكبر من تلك التي سبقتها. كما حدث معي يوم الاثنين 12 نونبر 2018 م.
يقول لي صاحبي من حاملي الشهادات العليا لاهثا، والألم يعتصرُ قلبه:
– “ والله لو كنت أعـرف أن بابـًا مثل “ باب السُّـفراء“ ينتظرني ويُـذلونني فيه، ما قرأت…!“.
هذا البَـابُ، جسْـرٌ مَـمنوعٌُ في وَجه العُـبُـور
هذا البابُ، طريق مفتوحٌ لتكسير أجنحَة الطيور
ونخيل شارع محمد الخامس بالرباط على بُعْـد عَـشرات الأمتار منه شاخ، أصبح طاعنا في السِّـن ولم يعُـد قادرًا على الوقوف أو الإدلاء بأي شهادة!. كل يَـوم فيه كـَـرٌّ وفـَـرٌّ، لم يعُـد مكانا للأماني الكبيـرة أو حتى الصَّغيرة، خُـطـوَة ناقصة فيه قد تفقِـدُك توازن رجليك أو تتخلى عنك أجنحة الرّيـح، وتصبح طريدًا على مَـرمى حَجَـر من فولاذ خـُوذات مَعدنية وأحذية ثقيلة أو تداهِـم جُمجُمـتك كل أحْجَـام الهَـرَاوات، لتصبح جريحا يُضاف إلى باقي الضحايا.
كـُل ُّ يَـوم تفقـَّد فيه لافتاتٌ رَمادَها، والناس زاحـفة نحو المَساء.
الشمـسُ تبخُـل عـلى الجُـموع بالشـُّروق، الأبواب مُـوصدة ودَمُـنا يسيل على الطريق في “باب السُّفـرَاء“.
لهم قطر الندَى والسيارات الفارهـَة التي تمُـرُّ بجُـنون نكاية فينا، ولنا ألـوَان السَّـراب.
لا تقل لي: “أنا قـارئ يا صاحُ بَعْـد اليَـوم“، لو قرأت لكان لي مَعْـنىً ها هُـنا.
(ما أنا بقـَارئ) يقول لي أستاذ خـَمْسيني من جَـنوب الـرُّوح
اقـرَأ رَمَـاد حُـروفك في صَـمْت وانصرف، وأنت في الطريق إلى مزرعَـة الشـَّوْك، ستقف أمامك أسـوارٌ وأشجَـار صُـمٌّ بُـكـْم ثم بَـابٌ وبَـابَـان، قبل أن تصل “بَـابَ السُّـفراء“، واسأل بَـختك.
هناك ستجدُ سفراء بخوذات الفولاذ لا يتكلمون لغة السَّلام، سيقولون لك:
– “أنت مَمنـُوع من عُـبُـور الجـِسْـر، ارجَـع من حيث أتيت، البَـاب مُفخَّخ بكل المَشانِـق“.
ويقول لهم كـَبيرهُـم: أوْصِدُوا هذه البَـاب، لأنها مَحظورَة على الفاتحين الجُـدُد، ولنا تصاريحٌ بسَحْـل كل نـَورس يحْمِـل معَـه “شهَادةٌ عُـليا“ في الطـُّرُقات!
البابُ مُـوصَـد ومَـرْصُودٌ للأسَـاطير والرُّؤيَـا من بَعيـد، ونصبٌ تذكـَاري للزيارة !.
في الجانب الآخر وعلى الشاطئ، يوجد بَحْـرٌ هَـادر أصَـمّ
للرِّباط جَـناحَـيْـن وزمَـنيْـن، ولي زمَـني
لا تـُضايقني الأبـوَاب المُوصَـدة، مَـلاذي شهَـادة ميلادي
وعلى بُعْـد أمتار منـّي، حَمامة تُسَـابق ظلها المَـكسُـور
كل يَـوم تخـرجُ علينا الحَـقيقة شبه عَـارية
نسرعُ الخـَطـو، تتبعنا الخـَيْـل المُسـوَّمة
نسرعُ في الكـَـرِّ والـفـرِّ بين إيّـاب وذهَـاب، تـُرفع العِـصيُّ، فإذا هي ثعَـابين تسعى
سَـرِّج رُكبَـتاك يا صديقي، وَحْـدَهُمـا من ينقذاك من خُـذرُوف المِـعْصَرة
فوق سَـماء رُؤوسنا مَـطـرٌ وتحت أقـدامنا جَـمْـرٌ، والدُّمُـوع المُنهمِـرة مضيعَة
تقول لي رفيقتي في الجَـرْي: انظـُر هُـنا، لا مكان رَخـْـوٌ في عَظـْمَة الرأس!
يقول لي صاحبي: أجْـري نعَـم، لكن لن أهْـزَم حتى النصر!
وأقول أنا: يا “حَـسَّان، افتح لي “أبواب السُّـفرَاء“ أو هات لي مفاتيحك!
لكن “أبواب السُّـفرَاء“ مَـزَّقـها الرّيح، يُخطئ “ التـُّرَام“ مَـوعده بعد وقت الزوال ثانية ويسقط مُصاب، يمضي الليل إلى حال سبيله، ويطلع النهَـار كئيبا ومعَه اسمٌ جَـريح.
لا أخبَـارُ في جَـرائد النهَـار، سـوى الغـُبار يا صاحبي.
ها قد عبرنا الأبْـوَاب، دَخـَّان السيارات يابـسٌ في حَـناجرنا، وهي لازالت تـردِّد نصوصًا وشعَارات الأمس، ينتهى نشيدُنا تحت نقـيع الانتظار ثم نمضي في كل اتجاه، ويبقي للأصوات صداهَـا المَـوسميّ، ولعصيّ الخَـيْـزران مَـواويل أُخـَر، وهَـراواتُ تُـحَـاصر ظِـلال النخيل في أكبر شوارع الرباط…!!
Aucun commentaire