أفنٌّ هذا؟
أَفَنٌّ هذا أمْ ماذا؟(خَرْبيطو زَرْبيطو )
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
أولا: موهبة الفن بين فلسفة الإبداع والجمال
حديثي عن الفن حديث ذو شجون ،وهو إما يدخل في تسعيرة أن نكون أو لا نكون ،كما قيمة كل حضارة بقدر مستوى فنها ،ونوعه وكمه ،جماله وإبداعه ،تعبيره ورمزيته،تجسيده وتساميه،واقعيته وطوباويته…
وللفن مفاهيم متعددة وأنواع متولدة بين الماضي والحاضر ،حتى إن كلمة فن قد أضيفت إلى كثير من العلوم المحدثة في الأمة مثل :فن النحو والصرف والبلاغة ،وفن الأصول وفن المنطق ،وفن الشعر والقصص…وذلك لما لهذه العلوم من قواعد ومصطلحات جديدة ومتميزة عند التوظيف.
وملازمة كلمة فن لمثل هذه العلوم في ثقافتنا العربية والإسلامية لها دلالات وإيحاءات في ضبط المفهوم الصحيح للفن وحصر أهم مكوناته وهما :الإبداع والجمال.
وهذا الاستخلاص قد يتطابق مع التعريف السائد للفن وهو: » قدرة لاستنطاق الذات بحيث تتيح للإنسان التعبير عن نفسه أو محيطه بشكل بصري أو صوتي أو حركي، ومن الممكن أن يستخدمها الإنسان لترجمة الأحاسيس والصراعات التي تنتابه في ذاته الجوهرية، وليس بالضرورة تعبيرا عن حاجته لمتطلبات في حياته رغم أن بعض العلماء يعتبرون الفن ضرورة حياتية للإنسان كالماء والطعام.
فالفن هو موهبة وإبداع وهبها الخالق لكل إنسان لكن بدرجات تختلف بين الفرد والآخر. بحيث لا نستطيع أن نصنف كل الناس بفنانين إلا الذين يتميزون منهم بالقدرة الإبداعية الهائلة، فكلمة الفن هي دلالة على المهارات المستخدمة لإنتاج أشياء تحمل قيمة جمالية، على تعريفة فمن ضمن التعريفات أن الفن (مهارة – حرفة – خبرة – إبداع – حدس –محاكاة.
إذ حينما يذكر الفن يذكر معه الإبداع ومتى ظهر الإبداع لازمه الجمال ،والجمال دليل الكمال،حتى قد صاغ عنه فلاسفتنا عبارات وجودية « ليس في الإمكان أبدع مما كان » و »نقصان الكون عين كماله »و »لولا اعوجاج القوس لما صلح للرمي ».وهاتان القاعدتان فيهما إيحاءات نحو فن التشكيل الذي يتم به الاختراع والتنوع والتفرع.
والتشكيل قد يحتل الدرجة الثالثة في قائمة الغرائز الإنسانية من حيث اعتبار التعقيد وهي :غريزة أولية وغريزة ثانوية وغريزة تشكيلية.فالأولتان مشتركتان بين الإنسان والحيوان وحتى النبات بينما الثالثة تختص بالإنسان وحده باعتباره كائنا مفكرا ومختارا.
وهذا الاختصاص التشكيلي قد نجد الدلالة عليه في القرآن الكريم من قول الله تعالى « ّلقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ».حيث يبدو ذلك الكائن المبدَع الجميل،وهو بهذا يكون قد ارتقى وتطور وتشكل وتصنف وتلون ،ظاهرا وباطنا ،لغة وفكرا،سعيا وإنتاجا.
والإبداع بالمفهوم العقدي هو الخلق على غير مثال سبق،وهو صفة من صفات الخالق سبحانه في إبداعه لهذا الوجود بكل أشكاله: »بديع السموات والأرض ».
وبما أن الإنسان يمثل أرقى الكائنات الأرضية من حيث الجمال والتقويم فإنه لا بد وسيكون متميزا عنها تميز رؤية وذوق وشعور ،وتصور وتشكيل.إذ المتميز يضع نفسه دائما فوق المميَّز عليه ،وصاحب الفوق هو من تكون له الأهلية والحرية في اختيار الاتجاهات بغير قيود وتغيير المسارات والحدود ،وهذا هو مبدأ الفن ومنطلقه لدى الإنسان ،باعتباره حامل الأمانة وغير مقيد بفلك ضيق في توظيفها لا يمكنه الخروج عن مداره.
ثانيا:دور الأدب في تشخيص اختلال الفن وتداعياته
فموضوع الفن كما رأينا مسألة عقدية وفلسفية جد معقدة لا يمكننا طرح كل جوانبها في هذه العجالة، ولكن حسبنا هذه الإشارات للدخول مباشرة في معالجة الإشكال الفني المطروح بحدة في زمننا وثقافتنا المعاصرة ،وفي أوطاننا العربية والمغربية خصوصا.
بحيث قد يلاحظ انحدار للفن وانعطاف له في أغلب شعبه وأقسامه نحو الابتذال والوهن وفقدان الجمال والإبداع والذوق ،حيث تضعضع الحقل المعرفي (الإبيستيمي)ومعه القيمي(الأكسيومي) وجفاف المرتكز النفسي والوجداني (السيكولوجي) وتهميش المطلب الاجتماعي(السوسيولوجي) باعتباره مختبر القبول أو الرفض التفاعل أو التغافل ،الاستساغة أو العزوف والمقاطعة.
وهذه الصورة القاتمة ليست مجرد انطباع شخصي أو هي من بنات النزعات الذاتية والمذهبية،وإنما هي ناتجة عن استقراء شبه جماعي وشامل لموقف الجمهور بجل مستوياته الثقافية والاجتماعية والمادية، المتعطش بغريزته التشكيلية إلى الاستمتاع بكل جديد ورفض كل مبتذل وغث إضافة لما فيه من تقليد.
فالعلة في هذا المطبّ من الصعب جدا استخراج جوهرها وخلفياتها كلية ولكن يمكن استقراء بعض أعراضها بناء على التعريفات السابقة والعوارض المستجدة إذا استعملنا أفكارنا ومنهجيتنا النقدية بشكل إبداعي مناسب لموضوع الفن، وليس بأسلوب متعصب ومتطرف يزيد الموضوع تعقيدا وتبليدا وغثيانا وقزازة. إذ لا يمكن تخليص الإبداع من غيره إلا بواسطة مصدره ومغذيه الرئيسي ،وهذا المغذي لن يكون سوى الإنسان نفسه،مركز الإبداع ومحوره،لأن قيمة العلم به من قيمته،حيث يشرف العلم بشرف المعلوم.بمعنى أن العلوم الإنسانية هي الوحيدة الكفيلة والمؤهلة لتقييم أعماله،وأعماله من إرادته،والإرادة باعثة للقدرة المنبعثة عن المعرفة.وفي هذا ربط الحلقة بين العلم والعمل والسلوك من باب الدافع الوجداني كقوة مبدعة وباعثة للفن والتشكل ،كما يقول الحارث المحاسبي ومعه الغزالي ورواد الإبداع في الحضارة العربية الإسلامية: »لو صح منك الهوى أرشدت للحيل »والحيل هاته نظيرة الإبداع والتكنولوجيا واستخراج ما قد يبدو مستحيلا استخراجه.
فالعلوم الإنسانية ستكون دائما ملازمة للآداب عطفا أو إضافة،والأدب يمثل مرتع الإبداع وميدان التباري،بينما العلوم الإنسانية هي بمثابة مختبر توظيفها والاستفادة منها وتحليلها على قواعد منهجية دقيقة تضمن للإبداع براءة اختراعه والحفاظ على القيمة الجمالية الموَشّح بها عبر الزمن.
وحينما تنتهك حرمة الآداب ويستنقص من قيمتها ودورها التنموي والحضاري في الأمة ،وفيما تكسر قوارير الفنون الواحدة تلو الأخرى بالخروج عن النص وجمال العبارة، شعرا ونثرا، والمحلاة بالنحو والصرف والبلاغة وفقه اللغة وتاريخ العلوم والفكر والفلسفة ومناهج السرد وأخلاقيات المحاورة،وعندما تنهار لغة القصة والمحاورة وتختلط الرواية بالقذاعة وزبالة الألفاظ والحوارات الهابطة والأحلام السفيهة،حينذاك يكون الإبداع قد أُعدم والجمال قد لُطخ فينتج عنه التقزز والنفور إلى غير رجعة والسعي الأهوج في طلب البديل.
إذ كل جميل فهوممتع،وكل ممتع ملذوذ،وكل ملذوذ مطلوب.ولذة الفن من أعظم الملذوذات والممتعات لوجدان الإنسان الحي الراقي ،وهي دليل شعوري على الشخصية السوية عكس المريضة كما يقول الغزالي: » من لم يحركه الربيع وأزهاره ، والعود وأوتاره ، فهو فاسد المزاج ليس له علاج »وأيضا الشيخ محيي الدين ابن عربي الحاتمي : »من لم يطربه تغريد الطيور ويحركه خرير المياه فاستدل بذلك على سوء مزاجه ».لغاية أن ذكر هذا الأخير بأنه كان يتم علاج المرضى بالموسيقى.
وحينما يغرد بعض المسؤولين خارج الصرب هذا ،بنعيق مزعج،معتبرين فيه أن مراكز الآداب والفنون والعلوم الإنسانية ،معاهد كانت أو كليات،هي عبارة عن مؤسسات لتفريخ العاطلين والبطالين فتلك إذن هي الطامة والكارثة الإنسانية التي ليس لها مثيل،وهي تمثل إبداعا بالمقلوب وجهلا مركبا بخصائص الإنسان وغرائزه النفسية والاجتماعية:
قال حمار كيما يوما لو أنصف الدهر كنت أركب
لأني جاهل بسيط وصاحبي جهله مركب
بحيث إن مثل هذه التصريحات غير المسؤولة قد تعود بالحضارة الإنسانية إلى مستواها البدائي والهمجي ،حينما لم يكن حلم أهلها سوى تحصيل القوت المتفرد وأكله حَبًّا وعَبِّ السوائل عِبًّا،ومن ثم لم يبق فائض للتشكيل والعمران كما حلل واقعهم كبار المفكرين الحضاريين كابن خلدون في المقدمة وديورانت في قصة الحضارة.
لأنه إذا بقي الإنسان واقفا مع الفلاحة وقضم القوت وهضمه ولم يسع إلى التفنن فذلك هو الهمجي ،ولكن إذا انتقل إلى مرحلة العمران والتشييد بتنوع فإنه هو المتحضر بل هو الإنسان فعلا وعملا.
وعلى رأس مقومات الحضارة مظاهر رقي الأدب في الأمم، باعتباره العاكس لكل معطياتها ومنتجاتها وهياكلها حيث التصوير لها لغة بالنثر والشعر والقصص والرواية والملحمات والمقامات…كما أنه لا يمكن الإبداع في علوم ما ،ولو كانت فيزياء وكيمياء وطبا محضا ،من دون دراسة تواريخها من حيث مصدرها ومصطلحاتها وتطور تقنياتها وترجمتها ،وهذه الإجراءات كلها تدخل خصائص العلوم الإنسانية والآداب لا غير.
ومثل هذه الخرجات غير الحضارية ،وغير الفنية بتاتا ولا ذوقية ،من طرف بعض المحسوبين على السياسة عنوة ،وهي براء منهم ،لدليل على أنهم يحاولون أن يمسكوا العصا من الذيل الضعيف والقصير الهش،أي بالنكوص نحو الوراء والسقوط في هاوية الظلام الحالك، حيث كان البعض لا يميز بين الشِّعر والشعور والشَّعير ولا بين البعرة والبعير.
ثالثا: إحباطات الفنان بين مقتضى الموهبة والظروف المرعبة
فالعيب في زماننا هذا ليس في الفنان كشخص شعوري ووجداني، له قدراته ومواهبه الذاتية للعب دوره الإبداعي الجمالي،لأنه أولا وأخيرا إنسان ،وهو إبداعي بطبعه وغريزته التشكيلية التي وهبت له في تكوينه،ولكن العيب في العارض والمعارض الجاهل الذي يجعله يتغذى ويقتات بمواد لا تليق برسالته وطموحاته ،فيصير بهذا المنطق السوقي مرتهنا في فنه بمشاكل المعاش وضيق السكن وفراغ الجيب وزحمة التنقل ،أي معاناة في معاناة تنحو به نحو التمثيل الساقط والغناء السافل والرسم البذيء، والذي جله درامي وتراجيدي وخليط ،يخرج في شكل ناقد وحاقد أو شاذ ومارد.فكيف حينئذ يمكن أن ننتج كوميديا هزليا ومفرحا في مثل هذه الظروف بينما نفسية الفنان تعاني من المأساة والويلات بحجم الجبال وعلى الدوام؟
فالفن الحقيقي هو الذي لا يباع ولا يشترى ،ولا يمكن رهنه باقتصاد السوق وعالم السمسرة والاحتكار والمضاربة ،لأن له قيمة معنوية إنسانية راقية،وهو رأسمال لا مادي يتميز بحرية مطلقة في حدود الجمال والذوق الرفيع والجاذبية.فالفنان إذا انتَقد انتقد بجمال وإذا أيّد أيد بمثال،ولا ينبغي أن يصير أسير الحسابات الضيقة ،سياسية كانت أم اقتصادية وإشهارية إعلامية .كما أن الفن يحتاج إلى دعم شامل وكامل من غير محاسبة ولا مقايضة ولا شروط ،ولو كان ذلك من طرف الدولة وأعلى هرمها.
ولا يستساغ أن يصبح الفنان مرتزقا وتابعا ذليلا بعدما كان متبوعا ومطلوبا وممتعا ،ولا غرابة إذا رأينا في تاريخنا العربي وحتى العالمي كيف كان الأمراء يغدقون الهدايا على فرسان الشعر والأدب من دون أن يطلبوا منهم التقيد بخط تحريري معين،علما منهم بخطر وقيمة الدور الذي يمكن أن يلعبوه في الدعم أو المعارضة،حتى إن بعضا من أولئك الشعراء والأدباء من كان ينتقد الأمير ودولته وهم في حضرته ،أو قد يمرر له خطابا ساخرا كوميديا هادفا ربما تفطن له الأمير وحده أو ذهب سهمه نحو رجال البلاط ،ومع ذلك فقد كان يقبل شعره ونثره وقصصه هذا فيصبح مضرب الأمثال ونموذجا يحتذى في التأليف والرواية ،ككليلة ودمنة وألف ليلة وأشعار المتنبي والأصمعي وأبي نواس والفرزذق وجريروغيرهم من الشعراء والأدباء المعروفين بالمجون والجنون وما هم كذلك فعلا.
فمن أهم الفنون عرضة لمثل هذا السلب هي تلك الثلاثية التي استقر عليها التقسيم الحديث بعدما كانت سباعية المواضيع ،وتتمثل في: الفن الصوتي والذي قد يعبر عنه السمعي البصري والفن الحركي والتشكيلي.
والفن الصوتي قد يتداخل ويختلط مع الفن الحركي عند الأداء، وخاصة حينما يكون غناء ورقص ومسرحية صاخبة وهكذا ،وربما تجتمع الفنون جميعا في حبكة واحدة،إذ الحبكة هي رأسمال كل عمل فني دراميا كان أو مبثوثا وبسيطا ،كوميديا أم تراجيديا.وهذه الفنون وخاصة الصوتية من سيناريوهات ومونولوجات وغناء وسماع وترانيم وحكايات قد ترتفع قيمتها أو تهوي بحسب المادة المؤلفة لها كنص أدبي نثري أو شعري،حر أو عمودي…
وفي هذا تمحيص ميداني لقدرات الفنان على الإبداع أو الانصياع ،فهو إما أن يندمج مع المشهد بالنص أو يكون متكلفا ومتصنعا يخرج صوته من حلقومه وترقوته بدل صدره ومشاعره ووجدانه،ويظهر هذا جليا حتى في التراجيديا وبالأحرى الكوميديا حيث يريد أن يضحِك فيُضحَك عليه ويريد أن يسخر فيُسخر منه.أما الغناء فهو أيضا يخضع إلى هذه المقاييس وأكثر ،وخاصة عند النص العاطفي الذي يتطلب جمالا في الصوت والإيقاع والكلمة ،ومع كل هذا الموهبة،فإن لم تتوفر الشروط خرج الغناء عبارة عن صوت زَمَّارة لا مزمار قد لا تفي بالفن ولا تنسب إليه إلا بالشبه.
فقد يحكى أنه لما توفي الموسيقار فريد الأطرش وصل الخبر إلى أحد المزمّرين(الغَيَّاطين) فعبر بحرارة وأسف: »آه حْنا الفنّانة ماكَدْجي غَافِيهم ! » أي أن الفنانين مثلنا معرضون دائما للمصائب،حاشرا أنفه في قائمة عمالقة الفن لأنه يزمّر ويطبل…
ونفس الشيء قد يحدث عند أهل السماع والمديح الصوفي ،وغيرهم من الروحانيين، وذلك حينما يصبح الجانب الروحي لديهم غير ذي أولوية ويمسي السماع عملة استثمارية تحت الطلب ،من غير مراعاة لاختلاف المقاصد والمنطلقات، فيخلطون ألحان فيروز وصباح فخري بقصائد المديح النبوي وأبيات ابن الفارض وابن عربي والشيخ الحرّاق… لأن القصد لدى هؤلاء غير ما هو لدى أولئك، وحينذاك يقع الخلط بين العاطفي والروحي وتضيع النتيجة في الدوران مع المواويل التي لا تغني من جوع ولا تحرك ساكنا، لأن الفن قد وضع في غير محله وخرج عن نصه وفلكه،حتى قد أصبحت المزايدة قائمة بين الطوائف والطرق لتطال المزج بين سماع المسلمين وترانيم المسيحيين واليهود والسيخ، مما قد ينعكس سلبا على الفن ومعه حتى العقيدة إن لم تستدرك…
أما الفن الثالث فهو الرسم والتشكيل: والفنان التشكيلي هو الذي يحترف هذا الفن والمبدع فيه، ويقوم بأخذ التفاصيل المستوحاه من الواقع الذي يعيشهُ والمحيط الذي يمر بهِ وينقلها بصورة وبطريقة رؤيتهِ للأمر والمنهجيّة التي يتبعها ويصيغها بفكرة جميلة تجعلهُ مميزاً عن غيره.والفن هذا قد يصنف إلى الواقعية والتعبيرية والرمزية ،وهذه المصطلحات تعبر عن المنحى الإبداعي نحو أقصى مداه ،وهي منتهى غايات الفنان وخاصة الشاعر الحر كما يصطلحون عليه ،لحد أن الشاعر السوري أدونيس قد تحول مؤخرا من شاعر عملاق إلى فنان تشكيلي !.
لكن هذا الفن قد أصبح مرتعا لكل من يريد أن يلعب على الحبلين، ويدغدغ المشاعر ،ويخبط خبط عشواء بألوان لا توحي بأي معنى ولا ترمز إلى أي جهة، سيعجز عن قراءتها المتخصص والمفكر فما بالك بالجمهور العادي الذي تعرض من أجله هذه اللوحة أو تلك، حتى قد يقال أن من بين أشهر اللوحات التشكيلية كانت بسبب ذيل حمار،لأن الرسام وضع ذيله في سِطل من الصباغة ووخزه فتحرك بعفوية وضرب بذيله اللوحة فتشكلت فنا !…
وهذا هو ما يعرف عندنا نحن المغاربة ب »خَرْبيطو زَرِبيطو »كتعبير عن السخرية من أعمال كهاته.وهذا المصطلح الذي ذيلت به العنوان لم يأت من باب الدعابة الثقيلة ولكنه مستوحى من واقعنا الاجتماعي ونظرة الجمهور إلى هذا الغارق في الرمزية التضليلية،وذلك أنه ذات مرة كنت بصدد تأليف كتاب فأردت أن أجمِّله برسم أو صورة رمزية فدلني أحد المكتبيين على رسام كان يوجد في سوق باب النوادر بمدينة تطوان المغربية.وبعد البحث والسؤال أجابني أحد التجار: »إنك إذن تبحث عن خرْبيطو ! » فدلني عليه .فلما رأيت شكله وتحدثت معه وجدت أن الوصف ينطبق عليه فعلا، من شعر رأسه حتى أخمص قدميه.
إن مشكلة الفن عندنا نحن العرب ،والمغاربة خصوصا،هي أنه حينما يفقد الأدب والفكر دوره واستقلاليته ونظرة العامة والخاصة إليه سيصبح بلا قيمة ولا رأسمال ويتحول حينها الفنان المسكين والمبدع المحقور (المحكور)من عمل قائم على لغة المشاعر وصحة الهوى وقوة الإرادة إلى صورة جسدية تعبيرية قاتمة ، فيها تكلف وتصنع وتخبط ،وتخَرْبط،لا يحترم النص ولا ينسجم مع مقتضيات الجمال والذوق الذي هو أس الفن ومحوره.وهذا بطبيعة الحال قد يؤدي إلى العزوف والنفور ودق ناقوس الخطر بأننا قد صرنا أقرب الناس إلى البعد عن الحضارة ومذاهبها !.
Aucun commentaire