متى كان الرقص بالثانويات فجورا؟ !
في سابقة عجيبة وغريبة، نخشى أن تتلوها خطوات أخرى أكثر غرابة واستفزازا، ما لم يتم التصدي لها بما يلزم من حزم. أقدم أعضاء مكتب جمعية لآباء وأولياء تلاميذ إحدى الثانويات التأهيلية التابعة للمديرية الإقليمية بمدينة برشيد، على تدبيج بيان شديد اللهجة، يستنكر أصحابه فيه ما يعتبرونه « تسيبا » داخل المؤسسة، ويدينون بشدة رئيسها، مطالبين الجهات المسؤولة بالتدخل العاجل، وفتح تحقيق نزيه، لاتخاذ قرارات رادعة ومناسبة لحجم « الفاحشة » ضد المتورطين فيها !
ويشار في هذا الصدد إلى أن مدير الثانوية تعرض بشكل فظيع إلى ضغوطات نفسية جد رهيبة، جراء ما لحقه والطاقمين الإداري والتربوي من اتهامات دنيئة، بدعوى تواطؤه في نشر الفجور، بسبب لوحة فنية راقصة، عرضت نهارا جهارا بساحة المؤسسة من قبل مجموعة من تلميذاتها وتلاميذها.
ذلك أنه في إطار الأنشطة التربوية والثقافية والرياضية الموازية، ووفق ما دأبت عليه المؤسسة من برامج ترفيهية وتثقيفية، نظمت الجمعية الرياضية « دوري في كرة القدم المصغرة » خلال شهر أبريل 2018، وكانت تتخلل أشواط المقابلات لوحات فنية راقصة من أداء تلاميذ مختلف المستويات بتأطير من أساتذتهم، تابعها باهتمام بالغ إلى جانب تلاميذ المؤسسة، عدد من السكان المجاورين لها وبعض فعاليات المجتمع المدني، تحقيقا لمبدأ انفتاح المؤسسة على محيطها الخارجي.
بيد أن المربك أحيانا لسير الدراسة الطبيعي والنظام العام ببعض المؤسسات التعليمية هنا وهناك، هو ظهور متطفلين وخاصة من دعاة الإسلام، الذين باتوا ينصبون أنفسهم أوصياء على العملية التعليمية وحماة للأخلاق والفضيلة، ممن لم يعد يكفيهم الانخراط في جمعيات مشبوهة، يتخذون لهم من أعمال البر والإحسان أقنعة لبلوغ أهداف أخرى غالبا ما تكون « سياسية »، حيث يعملون بشتى السبل والوسائل مشروعة كانت أم محرمة، للتسلل إلى قلب المدارس العمومية عن طريق رئاسة جمعيات آباء وأولياء التلاميذ أو العضوية بمكاتبها، ليس فقط لاستغلال ميزانياتها كما يفعل الكثيرون، بل لجعلها كذلك مصدر استقطاب التلاميذ والأمهات والآباء وتحويلهم إلى مجرد أصوات انتخابية، وفي ذات الوقت ترصد « هفوات » بعض العاملات والعاملين بالمؤسسات، من الذين يخالفونهم الرأي ويتصدون لألاعيبهم.
ثم من أدرانا أن هؤلاء المتطفلين الذين أجازوا لأنفسهم التدخل في شؤون مؤسسة تعليمية، وتحريم رقصات فنية بريئة بدون موجب حق، قد يتجرؤون غدا على منع الاختلاط بالفصول الدراسية، فالمؤسسات التعليمية، والأسواق والحافلات العمومية…؟ ألا يعلمون أن جمعية الآباء وأولياء التلاميذ تعد شريكا أساسيا للمؤسسة في النهوض بالعملية التعليمية-التعلمية، سواء عبر مساعدتها في تحقيق أفضل النتائج، أو تيسير مهامها ماديا وتربويا وثقافيا، وربط جسور التواصل الإيجابي بينها وأسر المتعلمات والمتعلمين؟ فالجمعية لم تكن يوما سيفا مسلطا على الرقاب، بل هي أحد أبرز مكونات النسيج الجمعوي بالمجتمع، ويفترض فيها أن تلعب دورا محوريا داخل وخارج المؤسسة، وتحرص على خلق فضاء متميز من التعاون المتواصل مع الإدارة التربوية وهيئة التدريس، المساهمة في توعية الأمهات والآباء ودعم الحياة المدرسية للتلميذات والتلاميذ، ومحاولة إعادة الاعتبار لنساء ورجال التعليم وترسيخ ثقة الأمهات والآباء في المدرسة العمومية. وهو ما يتطلب بناء ميثاق تعاقدي وفق مقاربة تشاركية، تحدد بموجبه مجالات تدخلها، ونسج علاقات شراكة ميدانية حقيقية، تخدم مبدأ التكامل الوظيفي بين الأسرة والمدرسة كشريكين استراتيجيين، في ظل أجواء تربوية نظيفة يسودها الوفاق والتضامن والاحترام المتبادل والاستقلالية، لخدمة مصلحة المتعلمين والمصالح العليا للوطن، وليس السعي إلى بث سموم التوتر ومحاولة التشكيك في أخلاق المربين وقدراتهم المهنية.
فالرقص الفني الذي جعلوا منه فاحشة وفجورا، جنس من الفنون الراقية وذات الأهداف السامية، التي تساهم في تربية الذوق وتهذيب النفس البشرية، وقد كان لها شأن عظيم في الحضارة الإنسانية والإسلامية خاصة. ويندرج الرقص المدرسي في إطار الأنشطة التربوية باعتباره تعبيرا جسديا بعيدا عن إثارة الغرائز وهدم القيم الأخلاقية. ثم كيف للإسلام أن يعادي الأعمال الإبداعية الجميلة، وهو دين الفطرة التي تنجذب إلى روعة الخلق وتتناغم مع ألحان الطبيعة؟ وهناك معيار إسلامي للحكم على أي فن من الفنون، ذو قاعدة تقول: « حسنه حسن وقبحه قبيح ».
ومن هنا يتضح أنه بإصدار تلك الجوقة من المتأسلمين بيانا استنكاريا ضد رقصات فنية بديعة، يكشفون عن معاداتهم للحرية والديمقراطية، وجهلهم التام بأهمية الأنشطة التربوية والثقافية والرياضية، وما تلعبه من أدوار طلائعية في إنعاش المنظومة التعليمية، لاسيما أن الميثاق الوطني للتربية والتكوين شدد على إيلائها العناية اللازمة، باعتبارها ركيزة أساسية في إصلاح المنظومة التعليمية والارتقاء بمستوى الناشئة. فهي تساهم في تنمية شخصية المتعلم وصقل مواهبه وتعميق روح الانتماء لديه، وإعداده ليكون منسجما مع ذاته ومجتمعه. لذلك يستدعي الأمر تعبئة الطاقات البشرية، من علماء النفس والاجتماع والتربية وفنانين ومبدعين ومنشطين، قصد وضع برامج تربوية مدروسة ومتشبعة بمبادئ المواطنة والسلوك المدني، وتوفير الإمكانات المادية واللوجستيكية لتيسير تفعيلها من أجل امتصاص العنف المدرسي والحد من الانحرافات المتفشية، وتحقيق تنشئة اجتماعية سليمة ومتوازنة لبناتنا وأبنائنا.
إننا بأمس الحاجة إلى جمعيات آباء تكون شريكا أساسيا لا عنصر إزعاج، لأننا نتوخى خلق مدرسة حديثة وذات جاذبية وفاعلية، تكون نابضة بالحياة ومفعمة بالإبداع، وقادرة على تكوين مواطنين متنورين، يواجهون باقتدار التحديات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية، وليس مجرد جحافل من العاطلين الساخطين. مما يستوجب تكثيف جهود كافة الأطراف المعنية بالتربية والتكوين…
اسماعيل الحلوتي
Aucun commentaire