نماذج من الممارسات الإدارية والحزبية المنحرفة التي انتقدها خطاب العرش ( الحلقة الأولى الخاصة بالإدارة )
نماذج من الممارسات الإدارية والحزبية المنحرفة التي انتقدها خطاب العرش ( الحلقة الأولى الخاصة بالإدارة )
محمد شركي
لا زال الرأي العام المغربي يتداول مضمون خطاب العرش خصوصا النقد الذي وجه لبعض المسؤولين في الإدارة العمومية وللأحزاب السياسية . وتلتقي نظرة العرش مع نظرة الشعب بخصوص إدانة بعض تلك الممارسات الإدارية والحزبية والسياسية المنحرفة التي تصدر عن أشخاص وهيئات . وما كاد خطاب العرش يزيح النقاب عن بعض تلك الممارسات حتى انطلق الناس في أحاديث مستفيضة عنها انطلاقا من واقعهم المعيش ومن حالات عاينونها أو لا زالوا يعاينونها .
ومن نماذج تلك الممارسات في المجال الإداري أن يتعامل المسؤول في الإدارة العمومية وكأنه سيد أو رب معمل أو ضيعة ومن يعمل معه ومن يتعامل معه مجرد أقنان عليهم أن يظهروا له الطاعة العمياء في كل ما يصدر عنه ، ولا يصدر عنه في الغالب إلا الممارسات المنحرفة والخارجة عن إطار ما ينص عنه القانون، وإن حاول نسبتها تعسفا للقانون تتبرأ منها هذا الأخير . وهذه العقلية تجعل المسؤول متكبرا مستعليا يرى من حوله مجرد حشرات ويحرص على إظهار الصرامة والغلظة في القول ، ولا يتورع عن استخدام أساليب الوعيد والتهديد ، ولا يجد غضاضة في استعمال أساليب الشتم والسباب ، وقد ينحدر إلى الأساليب الساقطة مع صغار موظفيه ومع المواطنين أيضا ، وهو يعتبر كل ذلك من مقتضيات المسؤولية المنوطة به . وهو آخر من يلتحق بمقر عمله ويجد لذة في انتظار المواطنين له في طوابير طويلة الشيء الذي يوفر له فرصة إظهار جبروته فيصب جام غضبه على بوابه أوشاوشه ، وينهال عليه بالتقريع ثم يلتفت إلى طوابير المنتظرين منذ أول ساعة العمل ليصف انتظارهم بالفوضى ويصفهم بأقبح وأقذع النعوت، فهم في نظره بانتظارهم جهال بالقانون بل مجرد بهائم لا يعرفون أدب ارتياد الإدارات. ويدخل مكتبه الذي تكون المكيفات قد لطفت جوه قبل أن يغادر فراشه ،ويوصد عليه الباب ثم يضغط على زر جرسه ليهرول الحارس أو الشاوش أو البواب إليه منحنيا، فيسمع للمسؤول زئير وزمجرة يخرج البواب على إثر ذلك أشد انحناء مما دخل بدبره ثم يلتفت إلى طوابير المنتظرين يلومهم لأنهم تسببوا له في توبيخ أو » تمرميدة » و لا داعي لشرح دلالة هذه الكلمة المعربة والمقتبسة من لغة المحتل الساقطة ، ثم يزف إليهم خبر عدم استعداد المسؤول لاستقبالهم لأنه غارق في الشغل أو لأنه سيجتمع برؤساء أقسامه ومصالحه ومكاتبه وأنه لا وقت لديه ليضيعه مع المواطنين الذين يعود لأغلبهم أدراجه يجتر مرارة خيبة الأمل في لقاء المسؤول ، بينما يصر البعض الآخر على الرباط أمام إدارته، وقد طردوا من أمام مكتب سيادة المسؤول الغاضب والمزمجر . وقد يطلب لقاءه سيد محترم بهيئة تدل على اليسار والوجاهة، فلا يكاد البواب يبلغ المسؤول بحضوره حتى تتغير أسارير وجهه وتنبسط عكس ما كانت عليه حين خرج يخبر طوابير الحاضرين برفض المسؤول استقبالهم ، وقد يعرف من حركات البواب وقسامة وجهه مكانة الزائر المحترم ذي الوجاهة لدى السيد المسؤول .
وقد تحضر سيدة أو آنسة مفعمة بالجمال والرشاقة يفوح عطرها في أرجاء الإدارة ،ولا يكاد البواب يخبر بوقوفها بالباب حتى يخرج السيد المسؤول شخصيا ، ويبدو إنسانا آخر، تعلو وجهه البشاشة والابتسامة العريضة عكس ما واجه به طوابير المنتظرين من عبوس وتجهم وتقطيب جبين، فتدخل الزائرة الفاتنة المرحب بها قبل أن يتبعها المسؤول ويغلّق الأبواب، فيرن جرسه للتو عدة مرات فيهرول البواب ليخرج وهو يردد عبارة : حاضر سيدي ، ويعود بعض لحظات ومعه نادل يحمل صينية بقهوة وشاي وعصير وربما بقطع حلوى ومناديل وردية ومياه معدنية فيفتح الباب مرة أخرى ليغلق، ويتنهى بعد ذلك من داخل المكتب إلى أسماع المنتظرين حديث الود والمجاملة ، ولا تخرج السيدة أو الآنسة الفاتنة الأنيقة إلا ضاحكة مستبشرة، وتلغي زيارتها الطويلة اللقاء حتى مع المرؤوسين ويتعطل الشغل . وقد تطول مكالمات السيد المسؤول ،وكلما سئل بوابه قال بصوت خافت إن سيادته على الهاتف إنه في محادثة عمل مع المصالح المركزية . وقد يغادر إلى المصالح المركزية راكبا أو طائرا أو نائما على فراش القاطرة فإذا سأل سائل عنه قيل إنه في العاصمة في زيارة عمل أو إنه خارج الوطن ولن يعود إلا بعد مدة تزيد الزوار المنتظرين يأسا وخيبة أمل . وقد يبدو هذا المسؤول على شاشة التلفزة يتكلف الفصاحة إن تكلم بالعربية وهو لا يبالي بهفواته الصرفية والنحوية وذلك من كبريائه حين يتكلم لغة القرآن التي لا يرى عيبا في عدم إجادة التعبير بها بل يرى ذلك من علامات الرفعة ، وغالبا ما يتحدث بلغة المحتل ، وهو يحلكي أصحابها في لثغتهم وحركات شفاههم ليبدو فصيحا ، ولأن الحديث بلغة محتل الأمس هو الذي يفصله عن أبناء الشعب ويميزه عنهم ، ويضعه مع الطبقة الراقية في أعلى درجات السلم الاجتماعي ، وحاله لا يختلف عن حال محتل الأمس كبرياء بل قد يفوقه كبرياء كما يشهد بذلك شهود حقبة الاحتلال .
وتعتبر سيارة سيادة المسؤول التي تحمل حرف الميم باللون الحمر المركب الذلول للزوجة والأبناء المدللين تتردد بين مؤسسات تعليمهم الخصوصي ومقر عمل الزوجة أو بين حمامها المفضل وصالون حلاقتها حيث تصفف شعرها وتتزين وقاعة رياضتها حيث تتريض للمحافظة على رشاقة جسمها لتكون في مستوى مكانة زوجها السيد المسؤول المحترم . وتمر سيارة السيد المسؤول المحترم فتفسح لها كل الطرق والممرات شرطة المرور، فلا تكاد تمر حتى تنطلق صفارات الشرطة مدوية تنذر المارة والركاب بمرورها وتتابعها عيون المارة لكثرة ما أحدثته تلك الصفارات من جلبة وضجيج .والويل والثبور وعواقب المور لمن سولت له نفسه عرقل سير سيارة المسؤول المحترم راجلا كان أم راكبا فقد تسلب من المعرقل أوراق سيارته وقد تحجز، ويعاقب على ذلك بغرامة تنزل عليه كالصاعقة ولا ذنب له ولا مخالفة سوى أنه أزعج السيد المسؤول المحترم وعرقل مسيره الذي لا يمكن أن يعرقل وهو في مهمة علما بأنه دائما في مهمة سواء كان راكبا أو راجلا أو قائما أو قاعدا أو على جنبه أو مستيقظا أو قائلا أو نائما أو حتى مستحملا أو مستجما … وقد يبدأ السيد المسؤول المحترم عمله بارتياد مقهى رفيعا ليتناول فطور الصباح، وهو عبارة عن أنواع شهية من المشروبات والمأكولات مما لذ وطاب ثم يدخن سجارة أو سجارتين، وقد يتبادل حديث الود والمجاملة مع بعض معارفه ، وقد يلقي نظرة على بعض الجرائد التي يجلبها له النادل عند جلوسه في انتظار تلبية طلبه ، وقد يقضي بعض الوقت في تحريك أنامله على بلورة هاتفه المحمول لتتبع ما يتوصل به من نكت جديدة يتندر بها أو قد يجيب على بعض المكالمات، وتكون إجابته بطريقتين لا ثالثة لهما حيث يستقبل الواحدة منهما هاشا باشا بينما يستقبل الأخرى عابسا مكشرا ومزمجرا . ولا يلتحق بمقر عمله إلا بعد انصرام الضحى ليصب جام غضبه بعد ذلك على الطوابير التي تنتظره . ولتجلب له قهوة المكتب مصحوبة بماء معدني زلال وكأنه لم يعد للتو من مقهى . وقد يلتحق بمقر عمله قبل ارتياد المقهى في بعض الأحيان ليغادره إلى المقهى ، ومنه إلى بيته أو إلى مطعم فاخر لتناول ما لذ وطاب في وجبة غذاء دسمة ، و قد يقيل بعد ذلك، وقد لا يعود إلى مقر عمله بعد مغادرته ويترك خلفه تعليمات مفادها أنه في مهمة مستدامة ، وبطبيعة الحال لا توجد مهمة أكبر وأهم من نقل الأولاد والزوجة للدراسة والعمل واللهو أو أكبر من ارتياد المقاهي والمطاعم وأماكن الراحة و الاستجمام ؟ ويعلم الله وحده كم يستهلك السيد المسؤول المحترم من وقود سيارة، تقله أو ومن طاقة كهربائية تشغل مكيفاته ، أومن صبيب يحتاجه هاتفه المحمول أو هاتفه القار ؟ والله أعلم بتكاليف تنقله إلى المصالح المركزية وخارج الوطن إما جوا أو برا على متن أفخم سيارة أو على متن أفخم عربة نوم في قطار. و وهو حريص أشد الحرص على التعجيل بتعبئة مستحقات تنقلاته وهي كثيرة لا حصر لها . ويسكن السيد المسؤول المحترم في مسكن فخم إما في ملك الدولة أو تدفع الإدارة إيجاره الشهري، وقد لا يربط هذا المسكن أصلا بعداد ماء وكهرباء، ولئن ربط لا يبالي المسؤول أبدا بما يستهلكه من ماء وطاقة ، وهو أفظع استهلاك لأن كل ما في المسكن يحتاج إلى طاقة وما . ولا يشعر السيد المسؤول بحر أو قر ولا يميز بين صيف وشتاء، وهو في مسكنه تعدّل مناخه المكيفات حرارة وبرودة . ولا يعرف حالة الجو وهو في بيته أوفي سيارته أوفي مكتبه لأنه جو دائم التكييف حسب ذوقه وما يشتهيه . والسيد المسؤول المحترم دائم الترقية وتستحيل في حقه القهقرة التي تحل بصغار موظفيه الذين يتخذ في حقهم أشد القرارات، وينزل بهم أقسى العقوبات . ولا ينجو من بطشه الشديد سوى من يقربهم منه وعلى رأسهم سكرتيرته التي يشترط فيها أن تكون أنيقة وعلى جانب من الحسن والبهاء ، والتي يفوض لها جميع القرارات، فيجعلها ذلك ذات صولة وويل لمن شهدت ضده ، وطوبى لمن شهدت له ،وهي ذات شفاعة ووساطة لا ترد ، ولا يجرؤ على مراجعة السيد المسؤول غيرها ولو كانوا رؤساء أقسام أو مصالح. وعندما تستعرض الانجازات في المحافل أو عبر وسائل الإعلام الرسمية يقدمها السيد المسؤول وينسبها لنفسه بضمير الجماعة الدال على العظمة والأبهة والمكانة، ويقرأ على مسامع الحاضرين تقارير يعدها بعض العاملين تحت سلطته و الذين يسهرون الليالي لتدبيجها ،وويل لهم إن لم تخرج في الحلة التي يشتهيها .ويستأثر السيد المسؤول بنسبة كل ما تحقق لنفسه . أما إذا ما سقط القناع عن فضيحة أو سوء تدبير، فيتبرأ منهما براءة إبليس من معاص الخلق يوم الدين ، وويل لمن نسبتا إليه من صغار الموظفين .
هذا غيض من فيض الممارسات المنحرفة التي تصدر عن بعض مسؤولي الإدارة العمومية كما أشار إليها خطاب العرش، والتي أجمع العرش والشعب معا على إدانتها ،والتي لن تزول حتى تتغير العقليات والذهنيات ،ويصير المسؤول المحترم عندنا كأمثاله في دول العالم المتقدمة يراقب ويساءل ويحاسب ويمتطي المترو أو سيارته الشخصية أو حتى الدراجة الهوائية للوصول إلى مقر عمله في تواضع ، ولا يستعمل وقود الإدارة لتشغيل سيارته الخاصة ، ولا تصطف طوابير المنتظرين أمام مكتبه ، ولا يتخذ بوابا ولا يتناول قهوة أثناء عمله ، وهو أول من يحضر وآخر من ينصرف ، ويتفقد ويراقب من يرأسهم ، وتتابع مصالح الضرائب ممتلكاته قبل مزاولة مهامه وبعد تركها . فحين ننتقل من تلك العقلية المستبدة إلى عقلية مسؤولة حق المسؤولية سنخطو أولى الخطوات على نهج الدول المتقدمة التي نطمح أن نلحق بها في يوم من الأيام ،وهيهات أن يتحقق ذلك ما دامت العقليات المستبدة والمتحجرة تسود إداراتنا .ولربما كان خطاب العرش لهذه السنة بداية زحزحة تلك العقليات ، وذلك ما نتمناه .
Aucun commentaire