من يعيد الدفء إلى كراسي قاعاتنا السينمائية؟
« إلى روح الناقد السينمائي الفذ: مصطفى المسناوي »
خلال زيارتها الأخيرة لنا رفقة زوجها، أبدت ابنتي اشتياقها إلى الذهاب للسينما، لاسيما أن مدينتهما لم تعد تتوفر على قاعة سينمائية في المستوى اللائق. وكانت رغبتها تلك، كافية لتحفيز ذاكرتي على التحليق بي في رحاب ذلك الزمن الجميل، حيث ظلت السينما تشكل لجيلنا رافدا أساسيا للتكوين المعرفي، باعتبارها فضاء ثقافيا وترفيهيا.
كنا مجموعة من شباب المدينة القديمة بالعاصمة الاقتصادية، المؤمن بأن الطبيعة ترفض الفراغ، والحريص على حسن استثمار وقته الثالث، تفاديا للوقوع في هوة الضياع السحيقة. وكان من بين اهتماماتنا إلى جانب الدراسة، ممارسة هوايات أخرى يأتي في مقدمتها حب السينما. نترقب بلهفة شديدة نهاية الأسبوع وحلول مواعد العطل الدراسية والأعياد، للاتجاه إلى السينما في أجواء احتفالية، بحثا عن الفرجة والترويح عن النفس. واستمر الحال على نفس المنوال، إلى أن فرقت بيننا السبل وشغلتنا هموم الحياة اليومية، التي زادها فشل السياسات العمومية قسوة، من حيث تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية… لكن هذا لم يمنع بعضنا من البقاء وفيا لهذه « العادة » الطيبة، بل هناك من صار يصطحب معه ل »السينما » فردا أو أكثر من أسرته.
والسينما ليست كما يعتقد البعض، بكونها نوعا من الوجاهة الاجتماعية تخص نخبا بذاتها في المجتمع، بل هو فن جماهيري، يستهدف مختلف الطبقات الاجتماعية على اختلاف الأعمار والجنس والمستويات الثقافية، خاصة في أوساط الشباب. ويطلق عليها « الفن السابع »، لاعتماده على الصورة والصوت في إيصال رسائله المتنوعة، يأخذ المشاهد إلى ما خلف الشاشة من عوالم سحرية بديعة، مانحا إياه القدرة على تذوق لذة الحياة وإدراك حقائق ما يجري حوله من أحداث على أرض الواقع. وعلاوة على ما للمسرح والفيديو والتلفزيون والوسائط المتعددة من أهمية في حياة الناس، فإن السينما لا تقل عنهم شأنا، فهي بدورها أداة للانفتاح على الثقافات الأخرى ووسيلة حضارية للتنوير التربوي والفكري والتوجيه والترفيه والدعاية… ولها أهداف اجتماعية ودينية وسياسية، تساهم في تشكيل الوعي وبناء قيم المجتمع وتقاليده، وتساعد جمهور المشاهدين على تجويد نمط الحياة والتمييز بين الأشياء، وتجسد الأفلام جسورا للاتصال والتواصل بين الشعوب، بتجاوزها حواجز اللغة عبر الترجمة، واستخدام تقنيات الصورة المتحركة كطريقة حديثة للتعبير والتأثير، لما لها من وقع يجعلها تتفوق على الكلمة المسموعة أو المقروءة، ويقول مثل صيني: « صورة واحدة تعادل 10 ألف كلمة ». وبإمكان السينما إذا ما توفرت لها الإمكانات والشروط الضرورية أن تحدث تغييرا إيجابيا في المجتمع، عبر أفلام هادفة تعتمد على الإبداع الفني النقي، الذي من شأنه تحسين صورة المرأة والنهوض بمستوى الأفراد والمجتمع نحو الأفضل.
والسينما سلاح ذو حدين، فكما أنها تقدم أفلاما ذات جودة عالية، بمقدورها أيضا عرض أشرطة سينمائية سيئة وفاسدة، قد تسهم في هبوط الذوق وتسطيح العقل وإفساد الأخلاق وزرع بذور الكراهية والعنف بمختلف ألوانه… وبهذه المناسبة، لا يمكن إغفال الدور الريادي، الذي لعبته الأندية السينمائية في التربية والثقافة والفن والسياسة، بالمدارس والجامعات والمراكز الثقافية ودور الشباب والقاعات السينمائية، إن على مستوى انتقاء الأفلام وعرضها على الجمهور للنقاش، ما ساعد الكثيرين على تطوير مستوياتهم وتعميق أفكارهم، وأكسبهم القدرة على التحليل ودقة الملاحظة وحسن التعبير، أو على مستوى التعريف بالمنتوج السينمائي الوطني. وبفضل ما بذلته من جهود وتضحيات، استطاعت استقطاب الجمهور وإنعاش « صالات » العرض السينمائي، من خلال تكريس فن الفرجة السينمائية الراقية ، وجعل الناشئة تمتلك ثقافة سينمائية وحس جمالي ونقدي، تحولت معه القاعات إلى فضاءات واسعة للتفاعل التربوي والثقافي والتواصل الاجتماعي المثمر…
بيد أنه لدواعي خاصة، وحدهم القائمون على الشأن العام يدركون أبعادها، تم فجأة وفي غفلة من الجميع، إعلان حرب خفية على كل مصادر نشر الوعي في الفضاءات التعليمية والساحات الثقافية، كشفت عن رغبة الدولة في خلق جيل جديد من الشباب الهجين، وتحويل مناهل العلم والمعرفة إلى مستنقعات للانحراف وتعاطي المخدرات، والإجهاز على القيم النبيلة في المجتمع، ما قادنا اليوم إلى هذا الكم الهائل من الجرائم والاعتداءات وانتشار الشغب في الملاعب الرياضية… وبالموازاة مع ذلك، اتجهت فئات عريضة من المجتمع إلى قنوات فضائية « دينية »، وازدهرت تجارة كتيبات وأشرطة تتضمن « فتاوى » غريبة، من شأنها إطفاء نور العقل وكتم صوته من قبيل: إباحة معاشرة الزوج لزوجته بعد وفاتها، إرضاع زميل العمل، توسيع دبر المجاهد لوضع كبسولات متفجرة، تحريم جلوس المرأة على الكرسي، حتى لا تشعر بالهيجان والشبق الجنسي…
وهكذا، تراجع الإقبال الجماهيري على القاعات السينمائية، ورافقه تقلص مهول في أعدادها، إلى حد أمسى فيه بعضها لا يفتح أبوابه إلا خلال المهرجانات السينمائية على قلتها، بل هناك من اضطر أصحابها تحت الإغراءات المالية وفي ظل المضاربات العقارية، إلى إعدامها وتحويلها إلى محلات تجارية أو عمارات سكنية. ويعزو الكثيرون من متتبعي الشأن الثقافي بشكل عام والسينمائي بوجه خاص، مصدر هذا « الاغتيال » المباغت إلى عوامل شتى منها: الإهمال المفرط وانعدام الصيانة والمراقبة، حيث تحول جزء منها إلى أوكار للدعارة والفساد، ارتفاع كلفة التذاكر أمام ضعف القدرة الشرائية للمواطن، فضلا عن ظهور قنوات خارجية تبث أفلاما متنوعة، وما عرفته وسائل الاتصال من تطور تكنولوجي وتفشي ظاهرة القرصنة، ودخول التلفيزيون المغربي عبر قناتيه الأولى والثانية تجربة إنتاج أفلام وطنية، تعد بأي حال أجود بكثير من أفلام الخردة الأجنبية، التي تعرضها العديد من القاعات السينمائية… ما أصاب المشاهدين بنوع من التخمة، وجعلهم يبحثون عن فرجة مجانية دون تنقل وبأقل تكلفة، وأدى في الوقت ذاته إلى ضعف مداخيل قاعات العرض السينمائي، وساهم في فقدان إشعاعها الفني والثقافي، وأضر كثيرا بالاقتصاد الوطني.
ومن أغرب المفارقات، أنه في الوقت الذي تتطور فيه الصناعة السينمائية ببلادنا، جراء ما تقوم به الدولة من دعم للقطاع، لم نجدها تتجه بنفس الخطوات نحو تشجيع الاستثمار، كما لم يعمل المستثمرون أنفسهم على تطوير القاعات السينمائية، بما يلزم من مرافق تكميلية: مطاعم، قاعات ألعاب…
إن انصراف الجمهور عن القاعات السينمائية، وما تولد عنه من تداعيات رهيبة، وإحباط كبير في أوساط الفاعلين السينمائيين بشكل خاص، تستلزم من وزارتي الاتصال والسكنى والمقاولات السينمائية بشراكة مع الجماعات المحلية، تكثيف الجهود لوضع استراتيجية متكاملة ومندمجة، كفيلة بخلق تنمية ثقافية سينمائية تلامس أهم القضايا الوطنية، وتحترم التعدد الثقافي واللغوي في أفق تكريس الوعي بسينما قوية وفاعلة في التنمية الاجتماعية، بالسهر على محاربة ظاهرة القرصنة، إحداث سينما القرب بالأحياء السكنية والمراكز الثقافية ودور الشباب، الإسهام في إحياء الأندية السينمائية ودعمها ماديا، عصرنة قاعات العرض السينمائي ومساندة أصحابها…
اسماعيل الحلوتي
Aucun commentaire