مهرجاناتنا: مرآة هويتنا الثقافية والحضارية، فلا تحطموها بغلوكم..
بمساهمات مالية قليلة، استطاع أبناء حينا إقامة حفل بهيج، استمر من الثامنة مساء إلى غاية الساعات الأولى من صباح الغد، معتمدين في ذلك على معدات بسيطة تتمثل في أشرطة من قماش باللونين الأحمر والأخضر، بالونات هوائية ومصابيح كهربائية ملونة، يافطات وشعارات، قمصان رياضية وأشرطة غنائية… ولم يكن الحفل مقتصرا على أنصار فريق الوداد الرياضي البيضاوي، المتوج بدرع البطولة الوطنية للموسم الرياضي: 2014/2015 في كرة القدم، بل شاركهم فرحتهم محبو الغريم التقليدي الرجاء البيضاوي وسكان الحي.
والمتأمل في مثل هذه المظاهر من البهجة والفرجة، وغيرها من طقوس الاحتفال لدينا في الأعراس و »المواسم »، سيدرك لا محالة مدى حاجتنا إلى أجواء السعادة، في ظل ما بات المواطنون يعيشونه من احتقان اجتماعي ومعاناة يومية، أمام تفاحش الغلاء وتدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية…
ومن هذا المنطلق، يتضح ارتباط المغاربة بالمناسبات السارة والسعيدة، وبكل ما له صلة بالعادات والتقاليد العريقة، والقيم والقناعات التي تغني التراث المؤسس لهويتهم الثقافية والحضارية. ولا أدل على ذلك أكثر من كون المغرب يتصدر الدول العربية والإفريقية في مجال التظاهرات الثقافية، لما يعرفه من حركية ثقافية وفنية متواصلة. وفي هذا الإطار يندرج المهرجان، باعتباره تظاهرة فنية متنوعة، تعكس شغف المواطن بالترويح عن النفس، الانفتاح على الآخر والرغبة الجامحة في التعبير والتواصل. فالمهرجان رابطة اجتماعية وفرح جماعي، يشجع الطاقات الشبابية على المزيد من الخلق والابتكار، وتطوير مستوى إنتاجها الفني واكتساب القدرة على التنافس. فضلا عن الارتقاء بالتراث الثقافي والفني للبلاد والنهل من ينابيع ثقافات البلدان الأخرى، عبر استقدام فنانين أجانب للمشاركة في إثراء المجال الثقافي الوطني، وخلق فضاء رحب للتلاقح الفني وتبادل الخبرات، يساعد على التنمية الثقافية وتحرير الطاقات الإبداعية والفنية الجديدة… ولنا خير مثال على ذلك المهرجان الشهير « موازين ».
والمغرب كما هو معلوم، يزخر بعديد المهرجانات الفنية، التي قد يصل عددها إلى حوالي المائتين، منها الذائعة الصيت وذات السمعة العالمية، تساهم جميعها في إنعاش السياحة وتقوية الاقتصاد الوطني. بيد أن قياديي الحزب الحاكم ذي المرجعية الإسلامية، الذي اعتمد أساليب التضليل والعزف على أوتار المستضعفين، لتحقيق مقاصده الانتهازية الخسيسة، والاستحواذ على مراكز السلطة بشتى أنواع المكر والخديعة، لهم وجهة نظر معاكسة للأهداف النبيلة من تنظيم المهرجانات والتظاهرات الموسمية.
ذلك أن أعضاء وقياديي حزب « العطالة والتعمية »، لم يكونوا إبان فترة وجودهم في المعارضة، يتوانون لحظة في مهاجمة المهرجانات بشراسة قل نظيرها، لاسيما مهرجان « موازين »، بدعوى أنها تسهم فقط في تبذير أموال الشعب والمس بأخلاق المواطنين، ويعتبرونها فضاءات موبوءة لنشر الرذيلة والتحريض على الفساد وممارسة الدعارة والتشجيع على السياحة الجنسية، مناهضين كافة أشكال الفنون والثقافة وحرية الإبداع، سواء تعلق الأمر ببرامج غناء أو رقص أو عرض شرائط سينمائية حتى في القنوات التلفزيونية الوطنية، رافضين القبول بالرأي الآخر والاختلاف في الرؤية الفنية والثقافية والأذواق والاتجاهات الفكرية، لا يؤمنون بالنهج الديمقراطي أسلوبا في الحياة، ويحاولون بإصرار شديد صهر أذواق المجتمع واختيارات أفراده في بوتقة واحدة وعلى شكل قالب فريد وفق مقاسهم…
وبالنظر إلى ما يميزهم عن غيرهم من دهاء ونفاق مكشوفين، عادوا اليوم من موقعهم الحكومي إلى مهاجمة مهرجان موازين، تحت ذريعة غياب الحكامة، من حيث ترشيد وتدبير ميزانيته وتزامن توقيت إقامته مع فترة استعدادات التلاميذ والطلبة لاجتياز امتحانات آخر السنة الدراسية والجامعية، مما قد يعرضهم ل »التشويش » والتأثير على مستوى التحصيل. فيا سبحان مبدل الأحوال ! أين نحن مما كانوا يروجون له من مغالطات حول إفساد الشباب ونشر الخلاعة وما إلى ذلك من خزعبلات؟ ثم، ألم يظهر لهم سوء التدبير المالي وانعدام الحكامة إلا في تنظيم المهرجانات؟ وإذا كانوا يهتمون فعلا بمصلحة المتعلمين، فماذا أعدوا لهم من إصلاحات حقيقية، ترقى بمستوياتهم المعرفية؟
نعم هناك تظاهرات شبه فنية، ذات هاجس انتخابي واقتصادي. لكن المغاربة يدركون جيدا بأن المهرجان الحقيقي غير ذلك، فهو مكسب ثقافي وتنموي، ينقسم إلى ما هو تراثي وترفيهي وإبداعي. لذا لا ينبغي أن يغيب عن أذهان المتأسلمين، أن المغرب لا يتميز فقط بجمال طبيعته الخلابة، بل أيضا بتنوعه الثقافي والفني، في الموسيقى والغناء والرقص والشعر والنحت والفنون التشكيلية، وغناه التراثي المختلط بالفولكلور. والتنوع يلعب دورا أساسيا في إثراء هويته وتعددها، ويشكل له حافزا قويا للانفتاح على ثقافات البلدان الأخرى، بما يساعد في تطور ثقافته وتفاعلها الإيجابي، وضمان إشعاعها في الفضاء الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والإعلام الوطني والأجنبي. مما يفرض علينا جميعا، بغض النظر عن اختلاف رؤانا الثقافية وتياراتنا الفكرية، احترام هذا الزخم من التنوع والتعدد الهوياتي، والسهر على صيانته في اتجاه الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي.
وفي هذا الإطار يتعين علينا اعتناق الديمقراطية منهجا حضاريا، في تكريس خاصية التنوع والتعدد الثقافيين المميزين لتراثنا الإنساني، في ظل سيادة قيم التسامح والحرية والعدالة، والعمل بما تنص عليه المواثيق الدولية من أن: « لكل شخص الحق في التعبير عن نفسه، وإبداع أعماله ونشرها باللغة التي يختارها، وخاصة بلغته الأصلية ». ويبدو أن المغاربة حسموا في اختياراتهم منذ أمد طويل، ولم يعودوا في حاجة إلى أي جهة من شأنها فرض الوصاية على عقولهم ونمط عيشهم، ومن يريد ممارسة سلطة الرقابة على الآخر، فليبدأ بنفسه حتى يكون قدوة حسنة. وتجدر الإشارة إلى أن المغرب صار قبلة لآلاف السياح، جراء ما أكسبه موقعه الاستراتيجي، وجمال طبيعته، وغنى تراثه وتنوع مكوناته الثقافية، من قوة وجاذبية.
أما بخصوص مهرجان موازين الغنائي الدولي، الذي سيرفع الستار على نسخته الرابعة عشرة في العاصمة الرباط يوم 29 ماي 2015، وتستمر فعالياته إلى غاية يوم:6 يونيو 2015، والذي يثار حوله جدال عقيم من قبل « حراس المعبد » كلما أوشك موعده على الحلول، فإنه يشغل ما يزيد عن أربعين مقاولة ومئات الشباب، وتعمل جمعية « مغرب الثقافات » على تأمين ما يناهز 3000 منصب عمل مباشر وغير مباشر، من أجل بلورة تنظيم محكم وضمان الجودة على مستوى تجهيز منصات العروض وربطها بالتيار الكهربائي والإنارة، والتوضيب الموسيقي، وتوفير شروط الأمن والسلامة ومعدات النقل واستقبال الزوار… وهكذا، نجد أنه يساهم في إحداث مناصب شغل لآلاف العاطلين، وازدهار أنشطة المطاعم والفنادق والمقاهي وسيارات الأجرة، ودعم السياحة وتلميع صورة مغرب الحضارات. كفى هرطقة، فمن عاش بوجهين، مات بدون وجه.
اسماعيل الحلوتي
Aucun commentaire