من يعيد لفاتح ماي إشراقته وبهجته؟
مرة أخرى، يكشف رئيس الحكومة السيد: عبد الإله بنكيران، عن أنانيته وتعامله الاستفزازي، بجره النقابات الأكثر تمثيلية إلى مقاطعة احتفالات فاتح ماي. ناسيا أن هذا اليوم ليس موعدا لاستعراض العضلات، بقدرما هو لقاء سنوي للاحتفال والاحتجاج. وهو عيد عالمي ذو أبعاد إنسانية عميقة في حياة الشعوب والأمم. ويعد محطة تتوقف عندها شغيلة العالم أجمع لتقييم المكتسبات، ومناسبة لإسماع صوت العمال والأجراء والتذكير بواقعهم. ويفترض أن يأتي محملا بمظاهر البهجة والسرور، جراء ما تحقق من إنجازات، قصد إسعاد الطبقة الكادحة وتحسين أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية، باعتبارها شريكا أساسيا في خلق التوافق الوطني والسلم الاجتماعي، وإنتاج الثروة وتنمية البلاد وازدهارها.
والدول الديمقراطية العريقة، التي تحترم شعوبها وتقدر جهودها في بناء حضاراتها، كثيرا ما تتسع صدور حكوماتها لشركائها السياسيين والاجتماعيين، والإصغاء إلى آرائهم بعيدا عن التشنج والتسلط. بينما نعاني نحن الأمرين في ظل حكومة يكفر كبيرها بالعمل الديمقراطي، ويدعي بأن حزبه هبة من الله، جاء خصيصا لإنقاذ البلاد وتجنيبها التطاحن والغرق في حمامات الدم، كما يحدث بدول الجوار وفي المحيط الإقليمي. وأنه اضطر إلى اتخاذ قرارات مؤلمة لضمان الأمن والاستقرار، في حين أن ما يتبجح به من تدابير ترقيعية، ليست إلا حبوبا مهدئة، لن يطول مفعولها في تسكين الآلام وتأجيل الغضب، الذي نخشى أن ينسف يوما كل ما بنيناه عبر سنوات طوال من الكفاح.
ففي سابقة لم يعرف لها تاريخ العمل النقابي مثيلا، حتى في أحلك الظروف إبان سنوات الجمر والرصاص، حل فاتح ماي هذا العام 2015 كئيبا بلا ملامح، وعم الشارع المغربي سكون المقابر، شعرنا إثره بحزن شديد وألم يعتصر القلوب. إذ نزل قرار المركزيات العمالية، كصاعقة فوق رؤوس المغاربة أجمعين: عمالا، وفلاحين، وتجارا وصناعا وحرفيين، ومأجورين ومياومين، وأطباء، ونساء ورجال التعليم، وقضاة، ومحامين وكل النساء والرجال في سائر القطاعات والميادين. ثم كيف يستقيم الاحتفال في ظل ظروف يسودها التوتر والاحتقان، بفعل تغافل الحكومة الاستجابة لمطالب الشغيلة الملحة وتحسين أوضاعها، لانشغالها منذ تنصيبها في سنة 2012 بمراكمة الخيبات والفضائح…
ووحده الذراع النقابي للحزب الحاكم « الاتحاد الوطني للشغل »، خرج يتيما في مدينة الدار البيضاء معوضا ضجيج السيارات ورافعا شعارا غريبا: « النضال والصمود، والإسلام سيعود » تحت ذهول الملاحظين، الذين استعصى عليهم فك طلاسمه، وزادهم استغرابا ما حملته كلمة السيد بنكيران بهذه المناسبة، من هجوم على قادة المعارضة ونقاباتها، حيث وصف خصومه بالمرتزقة وأشياء أخرى، وعلق على عدم خروج النقابات بالقول: « هناتنا وهنات الناس… » ونعم التعليق !
وفي هذا الإطار، طرح موقف النقابات تساؤلات عدة حول مدى نجاعته، وفي ما إذا كان تم بروية ووفق دراسة دقيقة، أم اعتمد فيه على الارتجال والعشوائية كما هو الشأن بالنسبة لقرارات رئيس الحكومة المزعجة والموجعة؟ ألم يكن ممكنا اللجوء إلى خيارات أخرى، دون المساس بحق الطبقة العاملة في الاحتفاء بعيدها الأممي؟. وهناك من اعتقد أن إلغاء الاحتفالات يدخل ضمن المزايدات السياسوية، لإرباك الحكومة وعرقلة مسارها « الإصلاحي ». فيما ذهب آخرون إلى كون النقابات، تخوفت من عجزها عن حشد أعداد غفيرة من المتظاهرين، وهو ادعاء خاطئ إذا ما استحضرنا المحطات النضالية السابقة. بينما نراه من وجهة نظرنا، قرارا صائبا وشجاعا، يهدف إلى التنبيه بخطورة الوضع، ووضع رئيس الحكومة أمام مسؤولياته التاريخية والسياسية…
فالمركزيات كانت متأهبة كعادتها لتخليد عيد الشغل، بتحضيرها الملصقات واللوازم الضرورية، ولم يكن في نيتها إلغاء الاحتفالات، واضعة نصب عينيها أن هذا النوع من الاحتجاج الصامت، قد يسيء إلى صورة المغرب ويمس بمصداقيته أمام المنتظم الدولي، أكثر مما يخدم مصالح الطبقة العاملة، سيما أنه ظل يشكل الاستثناء ويعتبر نقطة الضوء الوحيدة بعد ثورات الربيع العربي. لكنها أمام استهتار رئيس الحكومة بجهودها وإصراره على إهمال ملفها المطلبي، وفي ظل تراجع حكومته على عديد المكتسبات، والإجهاز على القدرة الشرائية للبسطاء والمسحوقين، وإفراغ الحوار الاجتماعي من مضامينه الحقيقية، وبعدما أمهلته كثيرا لمراجعة الذات وإعادة النظر في مقارباته التسلطية وانفراده بالقرارات الجائرة، بدءا برفع أثمان المحروقات، وما نجم عنها من إلهاب جيوب المواطنين وضرب صندوق المقاصة، واعتماد نظام المقايسة، وتجميد الأجور والتعويضات، والاقتطاع من رواتب المضربين عن العمل، وعدم الالتزام بإتمام ما تبقى من اتفاق 26 أبريل 2011، والتضييق على الحريات النقابية والمحاكمات الصورية، وتمديد سن التقاعد قسرا لفئة من أطر التعليم، ومواصلة العمل بالفصل 288 من القانون الجنائي، وإغراق البلاد في مستنقعات المديونية، والخضوع إلى إملاءات صندوق النقد الدولي…
وبعد استنفاذها كل السبل والوسائل الممكنة، في محاولات جادة لإقناع الحكومة بالعودة إلى طاولة المفاوضات، وفتح حوار حقيقي ومسؤول لتجاوز دقة المرحلة وصعوباتها، وحيث أن المبادرات النضالية لم تجد نفعا، بدءا بمسيرة 6 أبريل 2014 مرورا بالإضراب الوطني العام ليوم 29 أكتوبر، وبعد أن رفض رئيس الحكومة تجشيم نفسه عناء الرد على مذكرة 2 أبريل 2015 أو القيام بأدنى إشارة، فإنها وجدت نفسها مضطرة إلى اتخاذ هذا القرار التاريخي، الذي يعد في حد ذاته إدانة صريحة لسلوكه الاستعلائي، ورفضه القاطع الانخراط الكامل في تفاوض ثلاثي هادئ، للتداول في أهم القضايا المطروحة بكل جدية وحس وطني صادق، وتخطي الانحباس القائم اجتماعيا وسياسيا.
إن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للجماهير الشعبية، أصبحت جد مقلقة ومرشحة للمزيد من التدهور والانفجار في أي لحظة وحين. وبات لزاما على السيد بنكيران، بدل الانبهار باستطلاعات الرأي المخدومة، الخروج من دائرة شد الحبل مع الفرقاء الاجتماعيين والانكباب على معالجة الملفات الكبرى: تعليم، صحة، قضاء، سكن، تشغيل، تقاعد، قانون الإضراب والنقابات… ولتكف حكومته عن التستر على تبذير ونهب المال العام، وحماية المستفيدين من اقتصاد الريع، والتعجيل بإحالة ملفات المتورطين في جرائم مالية على القضاء.
فلا أحد ينكر ما قدمته الحركة النقابية من تضحيات جسام، في سبيل تحرير البلاد من قبضة المستعمر الغاشم، وما حققته من تراكمات مميزة وانتزعته من حقوق ومكتسبات لفائدة الشغيلة. بيد أنها تعيش اليوم وضعا حرجا أمام تعنت رئيس الحكومة، وسعيه المكشوف إلى محاولة تفتيتها وإضعافها، ما يستدعي مضاعفة الجهود ورص الصفوف، في اتجاه توحيد الرؤى ومواصلة النضال، وخلق وحدة نقابية قادرة على التصدي لمناورات الحكومة، وإرغامها على مراجعة نظرتها الضيقة ومقاربتها العدائية للمسألة الاجتماعية. وعوض الاستمرار في التفرج والاستنكار، وإلقاء اللوم على المركزيات النقابية، على كل المؤمنين بقيم الديمقراطية والحداثة، أن يهبوا لدعم المشروع المجتمعي وحمايته من الارتداد والرجعية، حتى تكون بلادنا قادرة على تذليل الصعاب وكسب رهانات المستقبل المشرق… فمن يا ترى يعيد لفاتح ماي عافيته وبسمته؟
اسماعيل الحلوتي
Aucun commentaire