رُكوحٌ مُتعَبَة ـ شعر ادريس الواغيش
قلم: إدريس الواغيش
ذكرَياتٌ من إيقاعَات العَدَم
تدُقُّ بلطفٍ بابَ بَيْتنَا الخلفيّ
تُوصِلني خَشخشَة الخَلاخيل في رُكوح مُترَبة
قد أتعبَها الرَّقص
تنسَابُ أمامَ عينيّ رَمْزيّاتُ صُوَر قديمَة
أساورُ لجَيْن تلمَعُ في مَعاصِم العَذرَاوَات
أَرْمِي بقُبلتين
يَبسُط النَّدَى جَنَاحَيْه، يلتقطهُمَا
ويُوصلهُما طَوْعاً إلى وَجنَتيْ حبيبَتي
فوق السَّطح، امرأة مُسِنّة لم تسْتَسلم بَعدُ لليَأس
تشحَذُ هِمَمَ العاشقين المُبْتدئين
تطلقُ زَغْرُودَة ادَّخَرَتها في حُنجرتها من زَمَن الطفولة
حبيبَتي الصّغيرةُ جالسَة تلعبُ بضَفيرتها
نَسَت أنّي كنتُ مثلهَا تمَاماً
أحِبُُّّ أن أطيرَ مثل فراشَات المَطر!
يطلُّ قمَرٌ خريفيُّ خَجول
يقطف من وجنتيْهَا قُبَلا وَيَختفي
تذوبُ النُّهود المُتعبة في مَواويل أعْرَاس الصَّيْف
تختفي العيونُ العاشقاتُ في سَراديب الغيَاب
تعبرُ الهَمَسَاتُ خلسَة إلى جُزُر الصَّمت في داخلي
يُحَرّضُ شُروق الشَّمْس وَميضَ النَّهار
تُصِرُّ الشفتان على الكلام
وَيَذوبُ الصَّمْتُ في الصَّمت
ليَعبُرَ إلى مِنَصَّة الكلام
كمْ هُوَ شاسِعٌ هَذَا الحُزْنُ فيك يا وَطني
من وَريد الحُبِّ إلى زمن الكريهَة
القنديلُ الخافِتٌ يا أُمّي
كانَ يَسْتنزفُ نورَ القمَر
ماذا لوْ لمْ يُطاوعْني قلبي وَبقينَا هُناك؟
أكانَ بإمْكَاني مُلامَسة قُرْصَ القمَر؟
أو أفرَحَ بدَمي حينَها
وقد تَحَوَّل إلى زُجاج مُنكسِر؟
ماذا لو كنَسَت أشجارُ العُليق والعَوْسَج طُرُقاتنا؟
كي تسْلمَ أقدامٌ الأطفال الحُفاة من وَطئِ أشْوَاكها
وَيَعْبُرونَ بسَلام نَحْوَ أمَانيهم
كيْ تعيدَ البَنادقُ ثأر السِّنين إلى فوْهَاتِها
وتعودُ العَصَافيرُ إلى أعشاش قد هَجَرَتها صَيْفًا
خوفًا من عُنف الشتاء
أمّا وقد غِبْت يَا أُمّي
الضَّبَابٌ يَهْرُبُ من آلام بيَاضه
والمَطَرُ يَسْتعصمُ على الأرض في عزّ الشتاء !!
كم يلزمُني الآنَ أنْ أقطعَ من كيلومترات أخرى
لأَصِل سَهواً إلى:
– صَرْخَتي الأولى في قصيدتي
– مُحاولاتي الفاشلة في الحَبْو
– صُوَرُ الغَدير الذي مَنَحَنا السَّكينَة والأسْمَاك
– أصْوَافُ الضَّفادع والأحْجَار المَلسَاءَ في الوَادي
– الخُبزُ اليابسُ والقدّيدُ المُمَلح
– رقصاتُ النَّحْل فوْقَ زَهْر الصُّبار
– الأطفالُ البرمائيّون
– رَعْشَةُ الأرَامِل الأخيرة
– الجُثثُ التي مَرَّت أمَامَ ناظريَّ إلى المَقبَرة
– شَتاتُ أصدقائي المُغتربين بلا هويّة
– جدّي الذي مات، قبل أن أتسلم أول شهادة في الحياة
– مَلامحُ جدَّة التي لا أعرفُ شَكلها
حَكت لي أمّي عنها طويلا
وحين كبرت…
كلما حاولتُ أن أتذكرَ مَلامِحَها
يُباغِتني النسيَان!!
حين تقتربُ هذه الأشياء كلها من ذاكرتي
تتوقفُ الأرضُ لحظةً عن الدَّوَرَان
يَسْتظل النَّهارُ بقبَّعتي من هَجير شَمْسِه
فيَغمُرُني الحَنينُ إلى الصِّبَا
أنتهي أخيرًا من عَدِّ الرُّموز و العَلامَات
فتبدأ شهرزادُ في سَرْدِ آخر الحِكايَات
ماذا أفعل الآن إذن؟
وإطلالة التجاعيد تفضحُ وَهْنَ الطفولة فيّ
حين يَملؤُني النَّبيذ
أصيرُ شفَّافا كرَذاذ المَطر
أو جَسَد راقصَة بَاليه، خانتها رُكبتاهَا العَاريّتين
جُدْرَانُ المَدينة عاريَة هذا الصَّباح
وَجَبَل « زَلاغ » اعتلتهُ، على غير عادته، عمامَةٌ بيضاء
المَطرُ القادمُ من جِهَة الغرب جافاهُ
وَمُكبر الصَّوت في أعلى الصَّوْمَعَة
يرفعُ الأذانَ في المسجد المُجاور
تحُط الموسيقى أوْزارَها
فيُزْهِرُ في بيتنا صَمْتٌ بَليغ
غادَرْنَا أنا وأبي مَعاً قريَتنا
فتفرَّق دَمُنا على القبَائل
ولم تعُد أمّي تضعٌ يَديْها النديَّتين على صَدْغَيّ
كلمَا امتلأ رَأسي بالصُّداع
أمَّا وقد تركتُ ظلي هُناك
تَحْتَ شَجرة خرّوب عاقر
فَقَدَت الصَفصَافةُ التي كانت تقف كراهبَة قرب بيتنا
لونَها ونامَت
شَجَرَةُ الزَّيتون اسْتراحَت هيَ الأخرى من ثقل حَمُولتها
أبحثُ عن جَسَدي كرَاع قرَويّ
يَسْتمتعُ بقيْلولتِه تحتَ شَجَر السّدْر
أمْشي كل يوم مُقتفيًا خُطاي
علي أرَى صَوْتي على سَطح المَاء
وحينَ أقتربُ مني
أهربُ إليّ مثل حَشَرة خَائفة
جَدَّتي كانت بارعَة في حَلب المَاعز والأبقار
وَجَدّي كان يَسْتحضر المَلائكة في كل صَلاة
قبل أن يَذوبَ في مَرايَا الأمْكِنَة
أمَّا الآنَ، وقد أعْيَاني السّفر
صورَةُ أبي تُحاصرُني، كلمَا خَانتني الرُّجولة !!
Aucun commentaire