درس ملكي في السياقة الحضارية:لست صاحب الأسبقية
رمضان مصباح الإدريسي
من يعتبر؟
في الأسبوع المنصرم،حدث أن مواطنا مغربيا اسمه محمد السادس كان يقود سيارته –كعادته التي أضحت مألوفة جدا لدى المواطنين- في شوارع مراكش ،المحروسة بسبعة رجال ،قبل شرطة الجولان.
وحدث أيضا أن شرطيا كان عليه ،بحكم مهنته، أن يقف في مفترق طرق لينظم السير، وفق ما تقتضيه المدونة الجديدة التي أرهبت ذات يوم السائقين ،دون أن تقلل من عربدة الموت ألعجلاتي في طرقاتنا؛وكأنها إذ أرهبت أذهبت بما كان متبقيا من رزانة السياقة ،و احترام الحق في الحياة والسلامة للجميع.
كان الشرطي ،وهو في مفترق الطرق،مسلحا بكل خبرته ،وبكل الصرامة السلطوية التي ترشح من الأوامر والتعليمات التي تتهاطل من أعلى ،أحيانا على هامش القانون. ولعله دأب على أن الأسبقية في عبور المفترقات- معززة غالبا بتحية رسمية – لرجال الدولة الكبار؛حتى دون أن يُسمعوا ويُظهروا ما يدل على الرسمية والاستعجال.
ولعله لم يراوده أبدا احتمال أن بكون وسيطا أمنيا، في درس ملكي يوجهه المواطن محمد السادس إلى كل المسؤولين والمواطنين؛وأركز على هذه صفته لأن قانون السير يجعل منه – خارج بروتوكول الموكب الملكي الرسمي- سائقا عاديا كغيره من السائقين.
حينما استجمع الشرطي وقفته،وهو يرى الملك، وأشار بالاستعجال و الإلحاح المعهودين،على السيارات بالتوقف ،توقفت السيارة الملكية لتفسح لذوي الأسبقية. حالة تناقض تام بين ملك وشرطي،وحيدة في بابها.
وأستعيد هنا – مكررا- حالة مماثلة رواها ميشال جوبير عن صديقه المرحوم الحسن الثاني :كان الى جانبه وهو يقود سيارته في شوارع الرباط ،وحينما فرمل امتثالا للضوء الأحمر،التفت إليه وقال: ها أنت ترى ملك المغرب يلتزم بالتوقف.أجاب جوبير: هذا امتثال عادي للقانون.
مدونة السير وثقافتها:
هي ترسانة قانونية قائمة وصارمة،لا تقل عن مثيلاتها حتى في أرقى البلدان ؛لكنها هناك حيث السلامة هي الأصل والحوادث استثناء ,توازيها ثقافتها ذات المفعول الأقوى من القانون .نعم ثقافة المدونة التي لا تكتفي بمعرفة النصوص المنظمة للسير ،بل تتمثل ثقلها القيمي والأخلاقي ،حضر الشرطي أو لم يحضر؛كان الساق أميرا أو وزيرا أو من عامة الناس.
لدينا مدونة تستحق أن يفخر بها المغاربة، لكن الأصل عندنا الموت في الطرقات، والسلامة استثناء ينحو ،عاما بعد عام ،صوب الندرة.سمعت أحدهم يقول:كلما هممت بالسفر بسيارتي إلا وبدا لي أنني أرى كل من حولي من الأسرة لآخر مرة ؛ويقسم أن هذا الهاجس يلازمه كلما هم بارتياد طرق الموت في بلادنا. كل الاحصايات تؤكد أنه أبعد من أن يكون هاجسا مرضيا فقط.
إن إرجاع أسباب الحوادث إلى حالة الطرقات والعربات مجرد لباقة، وسكوت عن غياب ثقافة السير كنتيجة لغيابات أخرى: المواطنة الراقية،احترام الآخر و تقدير حقه في الحياة والسلامة،التسامح ..
وتحضر ثقافة الفروسية لدى سائقينا بفعل رواسب أزمنة الفروسية الحقيقة التي ولت.
يكفي أن تشاهدوا ،في مواسمنا – حيث يحصل نوع من التطهير الروحي – كيف تنطلق « سربة » الفرسان،في تدافع هجومي ،وكيف « يصهل » الحادي ببحر طويل،ويهمهم الخيالة راجين الحفظ الإلهي ،وكيف تُمتشق بنادق البارود ،مُراقِصة بعضها البعض فوق الرؤوس ؛ثم كيف يعقب الدوي المحبوب ،أو قل الرعشة الكبرى،ارتخاء « يصغي » بخياشيمه، في خشوع ،لرائحة البارود ويَعُب منها عبا .
يكفي أن تستعيدوا لوحات الفروسية هذه وتقارنوها بلوحات سياقتنا،خصوصا في الشوارع المزدحمة،وفي ساعات الذروة،لتتأكدوا بأن أرواح أجدادنا الفرسان تتقمصنا حينما نهم بسياراتنا عَدْوا في الطرقات،وكأن تحتنا خيل حسان بن ثابت. فروسية بطعم خيل المتنبي وليله وبيدائه ،دون أدنى استحضار للقرطاس والقلم/للقانون ،و « تامغربيت » المهذبة التي تسود بيننا ونحن نمشي في الأسواق ،نتسامح لدى أدنى احتكاك، نتبادل السلام ،نوقر كبيرنا ونعطف على صغيرنا..
كل هذه الثقافة المغربية،والحس المدني، تُخَلِّفه سياراتنا في المرائب؛حتى يود الواحد منا لو كانت سيارته مما يَسُبُّ وبعض ويركل؛ولو سمحت المدونة بتجهيزها بقاذفات ورؤوس حِراب لشاهدنا حروبا « طائفية »حقيقية في شوارعنا ،تنضاف إلى الحرب الثقافية –وليس مجرد السيرية- القائمة بيننا ،بدون إعلان ولا هدف.
صدام حضارات أم صدام سيارات:
ان الحضارة التي أنتجت السيارة لم تصنع سيارة أخرى لتقتلها ؛فهي لم تفكر في الموت بل في الحياة ،في تحقيق رفاهية الإنسان التي جعلها العلم بدون حدود . ولم تصل الحضارة الغربية الى هذا الإنتاج ،وما في مستواه – خدمة للإنسانية – إلا بالإنسان ،حينما ارتقى تكوينه و حِسُّه المدني ونظرته الى المجتمع وتلاحمه الحيوي مع كل مكوناته.
من هنا – في نظري-الفرق الشاسع بين ما يقع من حوادث سير لدى الدول الغربية الراقية وما يقع في الدول المنتمية الى حضارات لم تنتج السيارة بل استوردتها فقط ،في ما استوردت.
تحضرني هنا حالة سائق سيارة أجرة خفيف الظل، ضاحك ومضحك؛بحيث كانت ضحكات الركاب تهمه أكثر من دراهمهم.كان يُردف غنغنة المحرك الهرم – اذ يهم بالانطلاق- بقافية من قوافي الحمير المعروفة: ايرَّرررا. وقبل
امتثال المحرك، تتعالى ضحكات الركاب ؛وكنا لا نصل باب فتوح- قادمين من تاهلة- إلا ونحن في انشراح كبير لم يطالبنا بثمنه أحد.رحم الله هذا الرجل فهو اليوم في برزخ من أمره..
كيف حولنا،في المغرب، وسيلة للرفاهية والمتعة الى وسيلة للموت ؟ هل صدام السيارات دليل على صدام أعم وأشمل لم يشرحه أحد كما شرحه الدكتور المنجرة شافاه الله؟
كاد السائق منا أن يجزم أن قاتله يوجد،مثله، في الطريق ،يقود سيارته وهو بدوره يفكر بأن قاتله يوجد داخل المدارات والطرقات ،لكن خارج مدونة السير.
رجاء فكروا في مدونة لثقافة السير ،لأنها ستحل حتى مشاكل اجتماعية أخرى عويصة.
هدية لروح أخي ضابط البحرية الشاب، عبد الحكيم مصباح ؛وقد قضى قرب جرسيف في حادثة سير – ثقافية- سنة 1995
لقد حرمه قاتله المتهور من مواصلة ابوته ،و تذوق معنى أن يكون جدا،بعد ولادة حفيده ريان – من بنته التي يتمت طفلة- السنة المنصرمة..هكذا تمتد مآسي حوادث السير في الزمن،بعد أن تلون المكان بالأحمر المرعب.
ورحم الله كل الآباء والأبناء والأمهات ..أولائك الذين كان قدرهم أن يموتوا لأن بعض الساقين تهوروا فحولوا وسيلة للرفاهية الى آلة للقتل. طبعا لموتهم امتدادات زمنية لا تستحضرها حتى شركات التأمين الربحية فقط…
Ramdane3@gmail.com
Ramdane3.ahlablog.com
Aucun commentaire