رسالة إلى المجلس الأعلى للتربية والتكوين / تدريس القراءة: عشرون عاما من العبث
رسالة مفتوحة إلى المجلس الأعلى للتربية والتكوين
تدريس القراءة بالمغرب: عشرون سنة من العبث
عبد الرحيم كلموني
السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للتربية والتكوين المحترم:
أكتب إليكم هذا الرسالة باعتباركم الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للتعليم الذي يُعد مؤسسة دستورية تملك صلاحيات واسعة منها الإسهام في تحسين جودة المنظومة الوطنية للتربية والتكوين، وضمان إصلاحها، والرفع من مردوديتها، وتطوير أدائها.
وكما تعلمون، لقد أصبح وضع التعليم بالمغرب وضعا مؤسفا بشهادة أعلى سلطة في البلاد، وقد تفاقم هذا الوضع بشكل ملموس خلال العشرين سنة الماضية كما نبه إلى ذلك الخطاب الملكي بمناسبة 20 غشت 2013. وإذا كان الأمر يستدعي إصلاحا شموليا يمس مختلف الاختلالات التي تعاني منها المنظومة، فإن إصلاح المناهج يعد أولوية لا تقبل التأخير والتأجيل لأنها حجر الزاوية في كل إصلاح. فقد كشفت نتائج الدراسات الدولية والوطنية، في مناسبات عدة، ضعف التحصيل الدراسي في المواد الدراسية الأساسية ( القراءة والرياضيات والعلوم)، على نحو ينذر بالكارثة، إذا لم يتم الانكباب، منذ اليوم، على المشاكل التي المرتبطة بهذا الاختلال الجوهري من أجل إيجاد حلول حقيقية لها يمكن أن تضع حدا للتردي المتنامي لجودة التربية والتكوين بالمغرب. ولا يمكن أن يتحقق ذلك دون تشخيص دقيق وصادق لأحوال المنظومة. وتدخل هذه الرسالة، ومن منطلقات وطنية ومهنية صرفة، في نطاق تشخيص مجال يتعلق بجودة التعليم والتكوين ألا وهو تدريس اللغة العربية والقراءة بالتعليم المغربي.
تضطلع القراءة بمكانة مركزية في الإصلاحات البيداغوجية. فقد صارت الأنظمة التعليمية في العالم تتجه أكثر فأكثر إلى الاهتمام بتعليم وتعلم القراءة التي لا تعد مجرد مادة تعليمية كغيرها من المواد، بل هي الوسيلة الأساسية التي بواسطتها يتم التعلم والاكتساب في المدرسة وخارجها أي في الحياة العامة. لذا تنصب الكثير من الدراسات التقييمية الدولية على تقييم مستوى الكفايات القرائية لدى التلاميذ، ومد الدول المشاركة فيها ببيانات ومعطيات يمكن الانطلاق منها لمراجعة الخطط والسياسات التعليمية، كما تقوم الكثير من الدول، بناء على نتائج هذه التقييمات بوضع استراتيجيات لتطوير تعليم القراءة، على صعيد تكوين المدرسين والمدرسات وعلى صعيد البرامج التعليمية والمقاربات البيداغوجية.
دوافع هذه الرسالة:
§ هناك دوافع وطنية لأن الوضع العام لمنظومة التربية والتكوين المتسم بتردي جودة التعليم، والوضع الخاص بتعلم القراءة المتسم بالإخفاق والعقم، يخاطب كل المواطنين المغاربة، من سياسيين ومختصين في التربية والبيداغوجيا، وجمعيات الآباء، وغيرهم، و مهما اختلفت مواقعهم وانتماءاتهم ومشاربهم.
§ دوافع مهنية، إذ إن المعاينة الصفية للممارسات المعتمدة في تدريس القراءة بالتعليم الثانوي بسلكيه لمدة تتجاوز 15 سنة في إطار التفتيش التربوي، والانشغال بالبحث البيداغوجي في تعليم اللغة العربية وضمنها القراءة في المدرسة المغربية بمختلف أسلاكها، مكنت من الاطلاع على واقع مترد يتسم بالارتجال والعقم وغياب أهداف واضحة والخلط وعدم الانسجام، وعدم أخذ آخر مكاسب البحوث والدراسات العلمية المتخصصة في الموضوع بعين الاعتبار في وضع برامج التدريس، واختيار المقاربات البيداغوجية وتكوين المدرسين والمدرسات.
§ النتائج الكارثية التي أظهرتها اختبارات بيرلزPIRLS لتقييم تقدم القراءة في العالم وخلال ثلاث دورات (2011،2006،2001)، وكذلك التقويم الذي أنجزه المجلس الأعلى للتعليم 2008، والتي للأسف الشديد لم تؤخذ بعين الاعتبار خلال محطات تغيير البرامج والتوجيهات التربوية التي لم تتضمن ولو تدبيرا واحدا مبنيا على نتائج هذه الدراسات. فقد تم تغيير البرامج التعليمية منذ بداية 2001، إثر انطلاق « عشرية إصلاح التعليم » دون الالتفات إلى نتائج دراسة بيرلز في دورتها الأولى 2001 التي شارك فيها المغرب وبوأته المراتب الاخيرة في تعلم القراءة، ودون اتخاذ أي تدابير في هذا الشأن، وتكرر الأمر نفسه حين اعتماد بيداغوجيا الإدماج، ومؤخرا حين تغيير برامج التعليم الابتدائي 2012، والتي لم تدخل حيز التطبيق بعد إذ لم تتضمن أي إشارة إلى نتائج هذه الدراسة الدولية الهامة، والتي أكدت من جديد مضي المغرب في مزيد من التدهور بخصوص جودة نظامه التعليمي.
عشرون سنة من العبث: تغييرات سطحية ومرتجلة ونتائج كارثية:
رغم توالي محطات ما سمي بالإصلاح، 1994(برامج التعليم الثانوي التأهيلي)، 2001 (عشرية الإصلاح وأجرأة الميثاق الوطني للتربية والتكوين)،2011 الشروع في تطبيق بيداغوجيا الإدماج قبل العدول عنها، 2012(منهاج التعليم الابتدائي الذي لم يطبق بعد)، ظل هناك ثابت واحد هو تهافت التصورات المتحكمة في تدريس القراءة في مختلف أسلاك التعليم، وارتجالها وافتقارها إلى الانسجام والتماسك واحتواؤها على أخطاء معرفية، وترسيخها لتمثلات خاطئة عن تعليم وتعلم اللغة والقراءة، نتجت عنها ممارسات منحرفة رسخت طرائق تدريسية تقوم على الاحتذاء وإعادة الإنتاج والنمطية. ومن أهم سمات واقع تدريس القراءة بالمدرسة المغربية:
§ أظهرت كل الدراسات المتخصصة بأن الوقت المخصص للقراءة، سواء في السياق المدرسي، أو خارجه، يلعب دورا أساسيا في اكتساب الكفايات القرائية الضرورية، يأتي، بعد ذلك، دور طرائق التدريس والمقاربات البيداغوجية. والملاحظ أنه في المغرب تعرض الوقت المخصص للقراءة في البرامج التعليمية المغربية تدريجيا إلى الاختزال والتقليص بفعل تقليص حصص اللغة العربية منذ ثمانينيات القرن الماضي، وإقرار مواد تعليمية وتخصصات معرفية متعددة عملت على إثقال محفظة التلميذ، وتشتيت ذهنه وجهوده، والأسوأ من كل ذلك، التضحية بالوقت المخصص للقراءة.
§ أما بالنسبة لطرائق تدريس القراءة فلم تشهد أي إصلاح إذ ظلت تتخبط في الارتجال والعقم في غياب شبه تام للبحث البيداغوجي عموما والديداكتيكي خاصة، وكذا عدم أخذ البحوث العلمية المرتبطة بتدريس اللغات وتدريس القراءة خصوصا بعين الاعتبار، سواء في تكوين الأساتذة أو في الممارسات المعتمدة داخل الفصول الدراسية.
§ كان الانتقال من بيداغوجيا الأهداف إلى المقاربة بالكفايات بطريقة يسمها الشطط والعجلة، وتم اعتماد نفس البرامج الموسوعية المبنية على المحتويات، ودون تمثل للمبادئ الأساسية العامة التي تحكم المقاربة بالكفايات وهي مقاربة صعبة وذات رهانات مركبة، والتي تقوم على المواءمة بين المعارف وكيفية استثمارها في وضعيات مركبة متجددة. وقد أبرز تقرير المجلس الأعلى للتعليم 2008 بأنه لم يتم وضع إطار مرجعي للكفايات التعليمية. لقد اكتفت لجان المناهج باستنساخ معظم مكونات البرامج السابقة مكتفية بتغييرات سطحية، واعتماد الكفايات الممتدة/الأفقية الواردة في الميثاق الوطني للتربية والتكوين وهي: الكفاية التواصلية والكفاية المنهجية والكفاية الثقافية والكفاية الاستراتيجية والكفاية التكنولوجية وتصدير الكتب المدرسية، ودلائل المصاحبة البيداغوجية بها، مما خلق وضعا بيداغوجيا سمته الالتباس وعدم وضوح الرؤية بالنسبة للممارسين من أساتذة ومفتشين ومؤلفي كتب مدرسية وهو أمر انعكس سلبا على الممارسات التعليمية بالفصول الدراسية.
§ وإذا كانت بيداغوجيا الإدماج التي تم اختيارها، في إطار البرنامج الاستعجالي، باعتبارها إطارا منهجيا لتشغيل المقاربة بالكفايات، قد عملت على مراجعة كفايات التعليم الخاصة بالتعليم الابتدائي والإعدادي، ومن ثم تدقيق أهداف هذين السلكين، فإنها لم تقترح أية مقاربات تدريسية ناجعة، واقتصرت كل إجراءاتها على التقويم مع ميل ملحوظ إلى التقنوية. كما أنها لم تعر تعليم القراءة الاهتمام الذي يستحقه ، بالإضافة إلى أن إفراغ نفس البرامج والمحتويات في قالب هذه البيداغوجيا أنتج، خصوصا في اللغة العربية، عدة ديداكتيكية هجينة تفتقر إلى الملاءمة والصلاحية.
§ القراءة المنهجية ممارسة في تدريس النصوص عرفها التعليم الثانوي المغربي منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي. تستعمل اليوم في التوجيهات الرسمية، والكتاب المدرسي، وموضوعات الامتحان، وتقارير التفتيش دون تفكير في تحديد المقصود بها ولا توضيح معالمها، فكأن مدلولها واضح وطبيعي، ولا يشكل معضلة حقيقية جديرة بالبحث والدراسة، علما بأنه في فرنسا، عُدَّت مفهوما مثيرا للجدل، وتم منذ سنة 2000 التخلي عنها، واستبدالها بمفهوم آخر هو « القراءة التحليلية » نظرا لما آلت إليه ممارستها من ابتذال وشطط وآلية غير منتجة. وقد اعتُمِدت تسميةُ « القراءة المنهجية » بالمغرب منذ الموسم الدراسي 1994-1995 بمناسبة التغيير الذي شهدته برامج اللغة العربية بالتعليم الثانوي التأهيلي. وترسخ كمفهوم وإجراءات، بشكل نهائي، حين إصدار منهاج اللغة العربية بالثانوي سنة 1996، واتسمت بالاختزال والنمطية وانعدام الانسجام لأنها خلطت بين تصورات ذات مصادر مختلفة، ولم تتمثل الأسس النظرية لهذه المقاربة وأبعاد التغيير الذي توخت إحداثه في تدريس النص الأدبي وغير الأدبي بالتعليم الثانوي، فأنتجت تصورا هجينا، أشبه ببريكولاج يجمع بين بعض مفاهيم « القراءة المنهجية » كما عرَّفَتْها الجريدة الرسمية الفرنسية للتربية ( عدد 05 فبراير 1987، وعدد 09 يونيو 1988) وبين تصورات مستقاة من مصادر مختلفة تم التلفيق بينها (مراقي صنافة بلومBloom لأهداف المجال العرفانيobjectifs du domaine cogniif ، التوجيهات الرسمية الواردة في الكتاب الأزرق 1990، الممارسات القرائية السائدة…). ومن تبعات ذلك ترسيخ ممارسات خاطئة في القراءة، تنبني على ابتذال الأنشطة، والفصل بين الشكل والمحتوى، والبحث عن مقصدية محددة سلفا للكاتب، وترسيخ تمثلات متجاوزة مثل كون المعنى يوجد داخل النص وليس موضوع تفاوض بين النص والقارئ، والاكتفاء باستخراج المعاني السطحية، وعدم العناية بما يقوله النص بطريقة ضمنية… إلخ.
لقد مكنتنا تجربة التفتيش التربوي، من خلال زيارتنا للأقسام لمدة تفوق 15 سنة، من الاطلاع على عمق الاختلالات التي تتخبط فيها القراءة، خصوصا، ودرس اللغة العربية عموما. فبفعل الإمعان في هذه الأنشطة الشكلية والنمطية التي يهدر فيها الكثير من الوقت لأجل إثبات أفكار ومعان معروفة سلفا لنصوص لا تتمتع بأية جاذبية، ومنها مؤلفات لم يستسغها حتى بعض النقاد، تَسقُطُ الممارسة القرائية في فعل تكراري آلي قليل الإنتاجية، ويتعمق نفور التلاميذ من القراءة ومن تعلمها، في ظروف تشهد تراجع القراءة، وتضاؤل القدرات الانتباهية للتلاميذ كما تؤكد ذلك الكثير من البحوث والدراسات، مما يفرض مراجعة دائمة للطرائق البيداغوجية قصد إيجاد أنجع الوسائل لجذب اهتمام التلميذ.
§ الحلقة المفرغة: الكتاب المدرسي، الممارسة الصفية، الامتحان الإشهادي، التكوين البيداغوجي:
يمكن إدراك التصور المتحكم في طريقة تدريس القراءة انطلاقا من الامتحان الإشهادي الذي يهيمن بشكل مطلق على العملية البيداغوجية برمتها. فالتوجيهات الرسمية، والكتاب المدرسي، وطرائق التدريس كلها تدور في فلكه. لقد تم، وبشكل تدريجي، إرساء صورة نمطية جامدة لما ينبغي أن يختبر فيه التلميذ، وترتب على ذلك ترسيخ صورة نمطية لما ينبغي أن يتعلمه داخل الفصل الدراسي. ولكي تكتمل الحلقة المفرغة تقوم مراكز تكوين الأساتذة بإعادة إنتاج هذا الابتذال عن طريق تقديم وصفات جاهزة للتنفيذ، تصل أحيانا إلى درجة تزويد الخريجين الجدد بجذاذات نمطية قصد تطبيقها حرفيا، مما ينتج دروسا متشابهة حد التطابق.
§ أما بخصوص التقويم، فيتحول الإنتاج الكتابي الذي ينبني عليه كل تقويم مرحلي أو نهائي (إشهادي) للتعلمات إلى مجرد إعادة إنتاج reproduction بليدة لصورة ترسخت إلى الأبد وأصبح من الصعب الانفلات من أسرها. ويكفي، لنقد التصور القرائي وممارسته العملية، فحص وثيقة الأطر المرجعية الرسمية التي تؤطر الامتحانات الإشهادية، فهي تستعيد التباسات التوجيهات الرسمية وأخطاءها. ففي المستوى السادس الابتدائي، تقتصر الأسئلة الخاصة بالقراءة التي لا تمثل سوى نسبة 40% من النسبة العامة لمكونات الامتحان، على شرح مفردات، وإعطاء عنوان لنص لا يتجاوز بضعة أسطر، ولا يلائم اهتمامات التلميذ وميوله، وأسئلة مرتبطة بالمضمون المباشر. والملاحظ هو عدم الاستفادة من التصنيف الذي تعتمده الاختبارات الدولية التي تتحرى الدقة بتصنيفها الكفايات إلى كفايات دنيا وكفايات عليا وفق سلم تنقيط مدروس ومعد بإحكام. ولا يختلف امتحان السلك الإعدادي كثيرا عن امتحان السلك الابتدائي حيث نجد ابتذال المطالب نفسه، مثل سؤال حول المجال الذي ينتمي إليه النص، والذي لا يتطلب من التلميذ أي قدرات خاصة. أما في السلك التأهيلي، فنجد التعدد المبالغ فيه للأهداف (37 هدفا)، هي خليط من الغايات والأهداف العامة والكفايات الأفقية/ المستعرضة، كما أنها غير قابلة لا للملاحظة ولا للإنجاز، ولا توائم المقاربة بالكفايات لأنها مرتبطة بمحتويات ذات نزعة شمولية لا تسمح برسم بروفيل تكويني واضح المعالم للمتعلم. وينجم عن هذا الوضع الإجهازُ على صلاحية التقويم حيث هناك هوة عميقة بين ما يتم التصريح بفعله وما يتم فعله في الواقع.
§ تتضح عدم صلاحية الامتحانات الإشهادية المرتبطة بالقراءة في ما تعرضت له مواضيع الامتحان من ابتذال وتنميط بعد التخلي عن « الإنشاء الأدبي » منذ إقرار ما سمي بالقراءة المنهجية أواسط تسعينيات القرن الماضي والاكتفاء بـ « تحليل النص » علما بأن الوثائق الرسمية تخلط بين « الإنشاء الأدبي » و »تحليل النص » حين تطلب من التلميذ كتابة موضوع إنشائي حول نص شعري مثلا، متجاهلة الفروق بينهما من حيث البناء الاستراتيجي، ومن حيث القيمة التقويمية والقدرات والكفايات المطلوبة. فالإنشاء الأدبي dissertation littéraireيختلف عن تحليل النصanalyse du texte في كون الأول أكثر صعوبة وتركيبا من الثاني. فهو لا يهدف إلى اختبار معارف التلميذ حول الموضوع بقدر ما يهدف إلى معرفة مدى قدرته على بناء استدلال واضح كامل ومتوازن إذ ينتظر منه أن ينظم نقاشا يلعب فيه عدة أدوار: فهو مشارك في النقاش، يمتلك وجهات نظر متعارضة، وفي الوقت ذاته فهو حكَمٌ يُنَشِّط النقاش، وينظم التبادل، ويستخلص ما ينبغي استخلاصُه في النهاية. أما في تحليل النص، فقد بينت الكثير من الدراسات أنه أقل قيمة اختبارية من » الإنشاء الأدبي » لأن التلاميذ غالبا ما يعتمدون، على النص، باستخدام موارده فيعيدون بواسطة الإسهاب paraphrase ، إنتاج أفكار النص، أو دلالاته المباشرة، أو محاكاة لغته. يحصل هذا في الوضعية السليمة لـ » تحليل النص » ، أما حين يكونون قد تعودوا على الكتابة وفق نموذج جاهز فإنه من الصعب الحديث عن بناء الكفايات وتقويمها. ومن المؤسف أنه تم التخلي عن الإنشاء الأدبي، في غياب أي تعليل لهذا التخلي وإن كان في الإمكان تفسيره بالصعوبات التقويمية المرتبطة بالإنشاء الأدبي واستبداله بشكل آخر يسمح بإمكانية أكبر لـ »الدقة » و »الموضوعية » في التقويم » حيث يُعمَدُ إلى سلم تنقيط واضح وعناصر إجابة مدققة منسجمة مع نموذج التعليم بواسطة الأهداف الذي لا يزال، خلاف ما يتم التصريح به، ساري التطبيق. وهكذا تتم التضحية، من أجل توحيد uniformisation معايير التصحيح وتيسيرها، بأهم شيء وهو تعليم استراتيجيات الفهم وتنمية الكفايات القرائية، وحل مشكلات بناء المعنى. ويعضد هذا التوجه الابتعاد عن النصوص التي تطرح صعوبات قرائية في امتحانات الباكالوريا، واستثناء محتوى مجزوءة كاملة هي » تجديد الرؤيا » الخاصة بالشعر المعاصر من التقويم بشكل نهائي وتام منذ إقرار نظام الباكالوريا الجديد، علما بان تنمية الكفايات واختبارها تستدعي وضع التلاميذ أمام وضعيات مركبة لمعرفة كيف يعبئون استراتيجيات الفهم ويستثمرون الموارد من أجل إيجاد حلول للوضعيات- المشكلات.
مداخل لأجل الإصلاح
أصبحت الحاجة إلى إصلاح برامج تدريس اللغة العربية، وضمنها تدريس القراءة، ملحة ولا تقبل التسويف والتأجيل وينبغي التركيز على ما يلي:
1) البرامج الحالية المرتبطة بتدريس اللغات وخاصة اللغة العربية تحشد محتويات متنافرة بطريقة غير ملائمة، ولا تناسب ميول المتعلمين واهتماماتهم. فهي مكتظة وتعاني من التفكك وعدم الانسجام، كما أن اختيارها لا يستند إلى نتائج البحوث والدراسات المرتبطة ببناء المناهج التعليمية. لذا فهي تستدعي مراجعة جذرية. و يمكن الاستئناس بتجارب الدول الرائدة في هذا المجال. والمؤسف أن البرامج الجديدة للسلك الابتدائي أعادت إنتاج الأخطاء والاختلالات السابقة باعتمادها المدخل الموسوعي ومدخل المحتويات، وفي غياب تفكير في الوضع الاعتباري للقراءة والغلاف الزمني المخصص لها، والأنماط الخطابية الأنسب للتلاميذ: السرد مثلا لجاذبيته وتشويقه وترويجه للمضامين والقيم الكونية وقدرته على تحبيب القراءة للأطفال.
2) الوقت المخصص للقراءة بالمدرسة المغربية قليل جدا، والطرائق المعتمدة في تعليم وتعلم القراءة متخلفة ولا تسمح بتنمية الكفايات القرائية. لذا يجب إيلاء تعلم القراءة منذ المدرسة الابتدائية الأهمية التي تستحقها عن طريق تخفيف البرامج ومنح وقت أكبر للقراءة، وجعلها الأداة التي تعلم بها اللغة، وترسخ بها المعارف المختلفة، وتمرر بها القيم، وذلك بواسطة نصوص تتمتع بالقدر الكافي من الجاذبية، والتشجيع على القراءة والاحتكاك بالنصوص لأطول مدة ممكنة. وإعادة النظر في الطرائق المعتمدة في التدريس.
3) على مستوى التكوين، يجب منح التكوين في استراتيجيات فهم المكتوب وتدريس القراءة مكانة أساسية ليس لمدرسي اللغات والقراءة فحسب، بل كذلك لكل التخصصات الأخرى باعتبارها مجالا لاشتغال القراءة إذ إن كل التخصصات التعليمية تضطلع فيها القراءة بدور متفاوت الأهمية في تعلم واكتساب المعارف والكفايات التخصصية والمعارف والكفايات الأفقية. كما يجب مراجعة شروط الدخول، وتوجيه تكوين مدرسي القراءة نحو البحث بتزويدهم بمناهج البحث التربوي وحفزهم عليه. إن برامج التكوين الأساسي للمدرسين تعتمد معارف غير ملائمة، متجاهلة المكاسب الكبرى التي تحققت في علوم التربية وفي ديداكتيكا المواد، وفي مقدمتها ديداكتيكا القراءة، وديداكتيكا النص الأدبي، هذا النص الذي أصبحت الحاجة إليه ملحة أكثر فأكثر كما تؤكد ذلك آخر البحوث والدراسات باعتباره وسيلة فعالة لتدريس اللغات، وتحصين التلاميذ ضد كل اشكال التطرف والعمى الإيديولوجي والمذهبي. وتجدر الإشارة إلى أنه من اللازم العودة إلى تدريس الأدب لتلاميذ الشعب العلمية والتقنية بواسطة نصوص تتمتع بالقدر الكافي من الجودة والجاذبية.
4) ضرورة أخذ نتائج الدراسات الدولية المتعلقة بتقويم السياسات التعليمية بعين الاعتبار في بناء البرامج والمناهج ومراجعة السياسات التعليمية في ضوئها، مثل دراسة تقدم القراءة في العالم بيرلز Pirls ، وضرورة الانضمام إلى دراسة البرنامج الدولي لتقويم التعلمات الخاص بالتلاميذ ما فوق 15 سنة بيزا Pisa والتي لا يزال المغرب غير منخرط فيه، والاستفادة من تجارب الدول الرائدة في مجال تدريس القراءة. ويمكن، في هذا السياق الذي يتسم بالتنافس والبحث عن الجودة والنجاعة في التربية والتعليم، الاسترشاد بالتجارب الدولية ومنها تجربة الاتحاد الأوروبي الذي انطلق من نتائج دراسات التحصيل الدراسي الدولية (بيزا، وبيرلز)، لبناء استراتيجية محكمة لتطوير تعليم القراءة بدوله، علاوة على الدراسات التقويمية الوطنية من أجل وضع تصور استراتيجي لإصلاح وتطوير تدريس القراءة استنادا إلى آخر البحوث المنجزة في المجال، بموازاة مع إصلاح أنظمة تكوين مدرسي القراءة بتوجيه هذا التكوين نحو البحث وربطه به. وعربيا يمكن الاستفادة من تجربة قطر التي حقق تلامذتها ( القسم الرابع ابتدائي) تقدما ملموسا في اختبار تقدم القراءة في العالم بيرلز Pirls إذ انتقلوا من 352 سنة 2006 إلى 465، متقدمين ب113 نقطة، ومقتربين من المعدل الدولي المحدد في 500 نقطة، مقارنة بالمغرب الذي شارك في ثلاث دورات محققا 350 نقطة سنة 2001 بفارق 150 نقطة عن المعدل، و323 نقطة أي بفارق177 نقطة عن المعدل سنة 2006، و310 نقطة فقط بفارق 190 سنة 2011، مسجلا تراجعا واضحا من دورة إلى أخرى، محتلا الرتبة الأخيرة بين مجموع الدول المشاركة في الدراسة.
5) مراجعة نظام التقويم والامتحانات بشكل عام، وما يتعلق منه بتقويم التحصيل القرائي مراجعة شاملة بناء على نتائج آخر البحوث والدراسات المتخصصة والمتعلقة بالميدان، وجعل التقويم في خدمة التعليم والتعلم، لا غاية في ذاته، وذلك بربطه بالبحث البيداغوجي، وجعله أداة لمعرفة مشاكل التحصيل الدراسي، ومدى ملاءمة الطرائق والمقاربات الديداكتيكية في تدريس القراءة. ويمكن توجيه تقويم القراءة في التعليم المغربي وجهة تساير متطلبات التحصيل الدراسي كما تجسده الاختبارات الدولية، وذلك بتدقيق الأهداف التعليمية ومواصفات التحصيل الأمثل باسترشاد بالنظريات العلمية المرتبطة بمجال اكتساب كفايات القراءة والفهم.
وتقبلوا السيد الرئيس فائق التقدير والاحترام.
عبد الرحيم كلموني
مفتش التعليم الثانوي التأهيلي
أكاديمية الجهة الشرقية
Aucun commentaire