رحلة عبر ذكريات ثانوية عمر بن عبد العزيز*
عند تصفحي كعادتي صفحات هذ ا الموقع ، استرعى انتباهي أهازيج حفل أرغمني على فتح باب هذه المؤسسة العتيقة التي لم تساهم فقط في تكوين أجيال إنتشرت في جميع جهات الوطن من أجل البحث عن العيش و القيام بالخدمات المختلفة، بل وحتى في صنع أطباء ومهندسين كبار تحملوا مسؤوليات عظمى ف تنمية البلاد والعباد وأساتذة جامعيين بالداخل والخارج.
فاستضفت لمشاركة حضورها الكريم فوجدت ٱنذاك تلامذة يشرفون ويقومون بحفل إختلطت عند اختتامه نشوة الحفاوة و دموع العاطفة. حينئذ تذكرت القصيدة المشهورة لأحمد شوقي والتي يحفظ الجميع البيتين المشهورين في مطلعها
قُـمْ للمعلّمِ وَفِّـهِ التبجيـلا
كـادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا
وذلك اقتناعا بتلك الفضيلة الإنسانية ألا وهي الرسالة التي حملها المعلم لإيصالها إلى الٱخرين، وعلى إثرذلك نادى أمير الشعراء بتكريم المعلم، رسالة تنير العقول وتستيقظ لها الضمائر. ولا ننسى تلك الرسالة الربانية التي جاءت لتكرم الإنسان والتي تخشع لها القلوب حين أرسل الله تعالى سيدنا جبريل إلي نبيه محمد (صلعم) ليرغمه على القراءة حيث أجابه النبي الأمي أنه ليس بقارئ ثم ألح عليه ثانية وثالثة إلى أن بدأ المصطفى الكريم بتلاوة تلك الآية الكريمة والتي تليت عند افتتاح هذا الحفل .
هكذا قام تلامذة هذه المؤسسة العتيقة إجلالا لأساتذتهم المحالين على التقاعد إعترافا لهم بما قدموه لهم ولغيرهم من تدريس ومن معرفة وتأطيرخلال تكوينهم، وذلك تكريما لهم..
لا شك أن هؤلاء الأساتذة الذين أقيم على شرفهم هذا الإحتفال ومنيوا بهذا التكريم سوف يستسيغون حلاوة ما أنجزوه خلال مسيرتهم المهنية ويسعدون عند رؤيتهم للأجيال التي شاركوا في تكوينها ويفتخرون حينما يجدونها تتمتع بآلمعرفة التي لقنوها إياهم و قاموا بتنميتها وتطويرها. أوليست تلكم هي أقصى حدود سعادتهم؟
فبهذه المناسبة أشكر السيد قدوري الحسين على استضافتي لهذا الحفل بهذه المؤسسة عبر هذه التكنولوجية الحديثة والمتطورة عند مشاهدتي لفيديو هذا الحفل ، و قد كانت زيارتي بمثابة حج قمت به إليها بعد مغادرتي لها إذ مكثت بها فترة خلال متابعة دراستي الثانوية في أواخر الستينات
كانت مناسبة لإسترجاع ذكريات مر عليها الزمن لكنها مازالت راسخة في ذهني، وبهذه المناسبة أغتنم الفرصة لأهنئه ومساعديه في تدبير شؤون الموقع وذلك بمناسبة حلول السنة الميلادية الجديدة ونحن على عتبتها، كما أهنئ رفاقي القدامى بثانوية « عمر بن عبد العزيز »، المؤسسة الموروثة من المستعمر الفرنسي التي كان إسمها : »لو ليسي دو كارصو » لأنه كان هناك « لو ليسي دو جون فيي » المسمى بثانوية زينب النفزاوية ، والتي تتلمذنا فيها على يد أساتذة فرنسيين سبق لهم أن درسوا بها إلى أن نالوا شهادة البكالوريا وبعدها تابعوا دراستهم بمدارس تكوين الأساتذة بفرنسا، كانوا مقيمين بمدينة وجدة ،منهم فاك أستاذ مادة اللغة الفرنسية و الذي كان أبوه صاحب سينما لوباري، كان يردد ذلك النداء بعد الاستراحة للمتفرجين قائلا عبر مكبره الصوتي : »ميسيو ميدام ميدوموازيل روكانيي فو بلاس لوسبيكتاكل فا كومونصي » أليس كذلك يا من واكب منكم ذلك الزمن ؟
كانت الثانوية في بداياتها مخصصة للبعثة الفرنسية فقط، حيث كانت تضم أبناء الفرنسيين المقيمين بالمدينة، و الأطر العاملين بمنجم مدينة جرادة و تويسيت وسيدي بوبكر، كان أبناؤهم يتنقلون عبر الحافلات صباح مساء لمتابعة دراستهم ب »ليسي دو كارصو »، كما كان ضمنهم عدد ضئيل جدا من أبناء الأعيان المغاربة أو الأغنياء و أبناء الجزائريين. و بعد ذلك، فتحت أبوابها لاستقبال التلاميذ الراغبين في التوجه للشعب العلمية و التقنية إبان بداية مغربة المناهج التربوية سنة 1959
كان هؤلاء الأساتذة و الحراس العامون و المعيدون صارمين معنا في الدراسة و الانضباط ، كانت شخصيتهم قوية و مؤثرة علينا ، كانوا محنكين في كيفية تعليمهم و كان تكوينهم البيداغوجي و ثقافتهم عاليين، و كانوا ذو ضمائر حية حيث كانوا لا يشفقون و لا يرحمون إذا ما لاحظوا تهاونا أو غشا في عملنا.
من جملة الأشياء الغريبة آنذاك، كان أستاذ لمادة الفلسفة اسمه « دوديكير » عندما يدلي له أحد التلاميذ بآية قرآنية لإيصال فكرة ما، كان هذا الأستاذ يجيبه بأنه حافظ للقرآن الكريم بلغته، و يقول للتلميذ هل لك من مزيد؟ في يوم من الأيام، لاحظ التلاميذ أستاذهم بحناء في كفه و خاتما حول أصبعه، فسألوه عن ذلك فأجابهم أنه قد أسلم و تزوج بفتاة مسلمة وجدية. و بعد مغادرته لمدينة وجدة ليستقر بفرنسا، أخبرنا بعض من زاره ببلده أنه قد أصبح طبيبا بعدما استأنف دراسته من جديد بالطب بالرغم من تقدمه في السن، و كذا موسيو نيوكسي أستاذ مادتي التاريخ و الجغرافية الذي أصبح وزيرا للثقافة و التعاون في حكومة فرونسوا ميتيران الأولى غداة مغادرته . ففي زيارة إلى مدينة وجدة في إطار شراكة ثقافية، اقترح أن تحول هذه الثانوية إلى مكتبة، تكاليف تهيئتها و تجهيزاتها تتحملها الدولة الفرنسية لكن ذلك لم يتم ، كان ذلك سيشكل إحدى أدوات ترسيخ الفرنكفونية بالمدينة و ببلادنا.
كانت الثانوية تتوفر على جميع المرافق من قاعات مناسبة للدراسة ومدرجات مجهزة للعلوم وملاعب لأنواع الرياضات المختلفة التي كانت تحتضن الألعاب المدرسية و التي كان يشارك فيها تلامذة وجدة وتاوريرت وبركان وفيكيك وفاس ومكناس وذلك ضمن نصف الأدوار النهائية ،وقاعة صغيرة مغطاة ،ومساكن جماعية لإيواء التلاميذ الداخليين الذين كانوا يقبلون عليها من جميع المدن الشرقية حيث لم توجد لديهم وقتها مؤسسات السلك الثاني، ومطعم يجمعهم ونادي ومصبنة تضم رفوفا مرقمة لكل واحد منا وقاعة للتمريض تشرف عليها ممرضة .
كما كانت الثانوية مجهزة بقاعة واسعة للمداومة تتسع لحوالي مئة تلميذ كانت تجمعنا خلال الساعات الفارغة أو عند غياب أستاذ ما، و كان يحرصنا معيد يراقبنا في هدوء و نحن نراجع دروسنا و نقوم بإنجاز واجباتنا، عكس ما يجري الآن، إذ نجد أبناءنا في مثل تلك الأوقات يجولون عبر الأزقة و الشوارع مهددين بالتصعلك و الانحراف.
كنا نحن الداخليين نستفيد من رؤية أشرطة سينيمائية ثقافية بالمركز الثقافي الفرنسي بحي لمحلا والذي كان يشرف عليه وينشط حصصه الفرنسي مسيو كيلبو أستاذ الأدب الفرنسي بثانوية عبد المومن أو بسينما لوباري.
وللإشارة فإن المرحوم جدايني بن مدينة وجدة ، الذي توفي في ريعان شبابه على إثر حادث ،كان أول من التحق بهذه الثانوية كأستاذ مغربي في أواخر الستينات لتديرس اللغة الأنجليزية بها حيث تلقى تكوينه البيداغوجي بابريطانيا.
وكان رحمة الله عليه متمكنا من اللغة الأنجليزية و ذو حنكة في تدريسها حيث أنه قام بتشكيل مجموعة مكونة من تلامذته المتفوقين في هذه اللغة لتقديم مسرحية خلال حفل نهاية السنة و التي كنت ضمن أعضاءها، و قد لعبت دور « ميستر وايت » صاحب مطعم بلندن يرتاده سواح مغاربة.
كما لا يفوتني أن أذكر أنه كان لاعبا ماهرا في لعبة الريكبي بجانب أساتذة فرنسيين في صفوف فرقة « ليشو » أذكر منهم جانيك و كيلوز وأورتيكا، إلى جانب البطل السويلمي الذي كان أستاذا للرياضة البدنية بإحدى ثانويات المدينة ثم مفتشا والذي أحييه متمنيا له الصحة والعافية. وقبل اعتزال هذا الأخير للممارسة أختير مدربا لناديه وللفريق الوطني . وبالمناسبة، كانت لعبة كرة اليد ٱنذاك جد متطورة بالمدينة حيث كان لاعبوها جلهم أساتذة فرنسيين، بعضهم بثانوية عمر بن عبد العزيز، منهم كويو،وأكوستيني،ومارتينيز…كان أصغرهم بنزكري الذي كان تلميذا بهذه الثانوية. ومن المغاربة وجديون كانوا أم أ بناء المنطقة الشرقية الذين التحقوا ٱنذاك كأساتذة المواد التقنية أو مساعدين بالثانوية التقنية هم ذ.صايم للمحاسبة، جانب بوحسون رحمه الله، أستاذ مادة الترجمة، وقدوري، وبوكنانة ، وبلمختاروالذين سبق لهم أن تتلمذوا بها في أوائل الستينات.
كما أهدي هذه المعلومات لهذه البراعم الناشئة وأهنئهم بالمبادرة النبيلة التي قاموا بها لتكريم أساتذتهم مانحين لي فرصة إحياء تلك الذكريات، والتي أتمنى لها النجاح والتوفيق.
وفي الأخير هنيئا للأساتذة المتقاعدين ، أتمنى ألا يخلدوا للراحة و ألا يستجيبوا للركود ويقعدوا قاعدين لممارسة حياة روتينية مؤدية إلى الملل والانعزال، بل أتمنى أن ينخرطوا في مجمتعهم الذي لا يزال في أمسِّ الحاجة إلى خدماتهم ، أتمنى لهم في الأخير التمتع بصحة جيدة كما أتمنى لهم سنة جديدة مليئة بالسعادة والهناء.
ڤيڤ التقاعد!!!
1 Comment
ô charlie is my darling
واحد من الأناشيد العديدة التي لقنها لنا أستاذ الإنجليزية الفاضل السيد اجدايني رحمه الله في بداية السبعينات ، بالإضافة إلى أناشيد أخرى ، وحوارات ، لا زلت أتذكرها إلى يومنا هذا
رحم الله أساتذتنا المتوفين ، وأطال عمر الباقين ، ونشكرك أستاذ بوعصابة على نبشك لجزء من تاريخ هذه الثانوية العتيدة