العقل التربوي لا يقبل إلا القول العلمي الدال بحججه وموضوعيته وحياديته
العقل التربوي لا يقبل إلا القول العلمي الدال بحججه وموضوعيته وحياديته
في خضم قراءتي لبعض الآراء المنشورة على الشبكة الورقية للصحف الوطنية ورديفتها الشبكة العنكبوتية حول الخطاب الأخير لأميرنا المحفوظ بعناية الله تعالى الملك محمد السادس في موضوع التعليم نقدا وتوجيها؛ ألفت بعض الآراء وهي تنتمي إلى بعض نساء ورجال التعليم خاصة أولئك الذين يمثلون الأمة في مجلس تشريعها، وأصلهم العلمي يطلب منهم وجوبا لا ندبا التقيد بالأسلوب العلمي في التعليق على بعض معطيات الخطاب. لكن مع الأسف الشديد البعد السياسي طغى على آرائهم، وجنى علميا عليها في منحى الصدق العلمي المتعارف عليه في القول العلمي. وأنا أقر بداية بأن بعض القرارات الإدارية التي اتخذتها وزارة التربية الوطنية كانت جريئة واستباقية مقارنة مع سابقاتها. ولكن ليكون القول أكثر إنصافا وموضوعية فإن وزارة التربية الوطنية في بعض قراراتها ـ خاصة منها القرارات البيداغوجية ـ لم تكن موفقة ولا صائبة فيها. فمثلا؛ توقيف العمل بمؤسسات التميزالتي في الواقع المفترض فيها تكوين النخبة العلمية المغربية، وهذه التجربة ليست بدعة في النظام التعليمي بل توجد في كثير من الأنظمة التعليمية العالمية مدارس ومؤسسات خاصة بالنخب العلمية وبالموهوبين. ولا ترى فيها الأنظمة السياسية أي بعد مخل بقيم المساواة والعدل الاجتماعي لأنها مؤسسات تتعاطى مع الكفاءة العلمية للمتعلم لا موقعه الاجتماعي. ودائما هذا الذي أقوله هو على المستوى النظري، وما يجب أن تكون عليه هذه المؤسسات، وليس كما هي في واقع الأنظمة التعليمية المتخلفة. فالعقل العلمي يفيد الإبقاء على هذا النوع من المؤسسات وتحصينها من الوقوع فيما لم تضع أصلا له. وإحاطتها بالتقويم المستمر وبالمحاسبة والتحفيز وتوطينها بالأخلاق المهنية والإنسانية العامة، وإمدادها بكل ما تحتاج إليه لتستمر وتنمو وتحقق أهدافها.
كما أن توقيف بيداغوجيا الإدماج بشكل دبلوماسي ـ وأنا لست طبعا من المدافعين عليها هنا؛ وإنما قولي من باب القول العلمي وحسب ـ دون معطى علمي واقعي يثبت فشلها أو نجاحها في الميدان، واعتماد استمارة فقطـ فيها نقد علمي يقال ـ في تقويمها بناء على آراء مختلفة ـ قد لا تكون تعرف أصلا هذه البيداغوجيا ـ على معطى تجريبي ميداني مسحي يعد أكبر خطإ علمي ارتكبته وزارة التربية الوطنيةبحق عقلها العلمي وخطابها التربوي وبحق كفاءاتها العلمية. فالجميع يعلم أن هناك أدوات أقوى إحصائيا ودلالة من الاستمارة تعتمد في استنطاق الواقع خاصة إذا كان هذا الواقع يمس خطا منهجيا لم تكتمل صورته بعد وفق الطبعة المغربية. فكان الأجدر تجميع النقد النظري والعملي والميداني والتجريبي لهذه البيداغوجيا والاحتكام إليه وفق مبدأ النفعية من باب تحصيل النتائج. ثم الذهاب إلى الإلغاء مع تقديم البديل ودون الإبقاء في المنطقة الرمادية والفراغ البيـداغوجي ومنهجية البين بين ! علما بأن الجميع أقر بعدم صلاحية ما هو كائن من مناهج وبرامج وكتب مدرسية التي لم تترجم المقاربة بالكفايات حق الترجمة. فكيف نستمر بما ننتقده ونوجه سهام الفشل إليه والزمن يمضي وهو حاد يحز الرأسمال البشري حزا؟! أليس الأجدر أن يكون البعد البيداغوجي أولوية في التصحيح الذي تجريه وزارة التربية الوطنية؟ ألا يعد هذا من باب التسيب الذي تحاربه الوزارة ؟ فتصحيح التعليم يجب أن يكون سلة واحدة متكاملة مكوناتها، وليس سلال متفرقة غير متكاملة ولا متناسقة ولا منسجمة فيما بينها! فالتسيب ـ وأقر بوجوده في التعليم ـ ليس هو الوجه الأظلم في المنظومة التربوية والتكوينية المغربيةبقدر ما هو اختلال المنطلق السياسي والفلسفي والإجرائي في هذه المنظومة الذي يؤدي إلى التسيب! وكمثال على ذلك، سأقدم مثالا حيا من واقع هذه المنظومة؛ حيث أعلن أخيرا عن نتائج خريجي المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين؛ فأفادت بأن مجموعة من الخريجين ليس لهم المعدل المطلوب مهنيا وفي مادة التخصص، ورغم ذلك عينوا كأساتذة وعلى رؤوس الأشهاد! أليس هذا نوع من التسيب عند الوزارة؟ كيف تسأل الوزارة قوادرها الميدانيين غدا عن جودة التعليم وتحملهم مسؤولية فشل التعليم وهي ساهمت بمدخل الفشل بتعيين الفاشلين في مهنة التدريس؟! أليس من التسيب أن تكون الكفاءات العلمية والمهنية خارج دوائر القرار بالوزارة ؟! أليس تغييبها وإبعادها ولو استشارة يعد تسيبا في الإجراءوهدرا للرأسمال البشري والمادي والعلمي للأمة؟!والتسيب لا يطول فقط الحضور والغياب وإنما أبعادا أخرى لها أثرها الكبير على المتعلم أكثر من الحضور والغياب. وهذا لا يدل على أننيألغي قيمة الحضور ولا إجراءات محاربة التغيب غير الشرعي القاتل للفعل التعليمي. وإنما أذكر بأمور وأبعاد أخطر في المنظومة التربوية؛ ومنها مثلا محاصرة التكوين المستمر والبحث العلمي وعدم تفعيل الملاحظات العلمية والمهنية لبعض مكونات المنظومة، وتركها ميتا في التقارير والتوصيات واعتماد كتب مدرسية كلها أخطاء علمية، تجاوزها العصر والفكر، فيها من الخرافات الشيء الكثير الذي يفرخ الخرافة والخزعبلات في عقل الطفل بدعوى الأسلوبية وما جاورها دون تمحيص الحقائق العلمية التي تقدمها للطفل. فالتسيب في حقيقته قبل أن يكون تسيبا مؤسساتيا أو مرفقيا أو مهنيا أو إداريا، فهو تسيب سياسي بالدرجة الأولى، وخطاب أميرنا الحكيم أشار إليه إشارة صريحة حين قال: ( فإنه لا ينبغي إقحام القطاع التربوي في الإطار السياسي المحض، ولا أن يخضع تدبيره للمزايدات أو الصراعات السياسوية )، وهو ما يتم فعلا حين ينقض الوزير اللاحق ما فعله الوزير السابق! وقد ينسفه من أساسه. وهو ما أشار إليه الخطاب الكريم حين قال: ( فقد كان على الحكومة الحالية استثمار التراكمات الإيجابية في قطاع التربية والتكوين، باعتباره ورشا مصيريا، يمتد لعدة عقود . ذلك أنه من غير المعقول أن تأتي أي حكومة جديدة بمخطط جديد، خلال كل خمس سنوات، متجاهلة البرامج السابقة علما أنها لن تستطيع تنفيذ مخططها بأكمله، نظرا لقصر مدة انتدابها ). ومنه يكون الرجع كل يغني على هواه. لا يحكم غناءه أو هواه أي ضابط سياسي أو علمي أو التزام أخلاقي أمام المجتمع بالتدبير الحكيم والجيد لهذا القطاع الحيوي والرئيس في حياة المجتمع وتنميته البشرية والعلمية والحضارية بل وتنميته المستقبلية. ومنه ألا يرى معي زميلي أن التسيب السياسي حري به أن يضبط ويحاصر قبل ضبط ومحاصرات تمظهرات هذا التسيب في مختلف القطاعات بما فيها التعليم؟
فإذا كان المتدخل البرلماني يرى أن بيداغوجيا الإدماج فاشلة » لمجرد ضعف التكوين و التأطير الذي كان دون المستوى » فتلك طامة كبرى في عقلية يفترض فيهارجاحة العقل وحدته ووثوقية المنهج وصراحة الخطاب. فهذا الفشل هو فشل من خارج بيداغوجيا الإدماج. ولا يحسب عليها. وإنما الفشل الذي يجب اعتماده بحقها هو فشلها من داخلها بنية ووظيفة. وبالتالي كان الأجدر أن يوجه اللوم للوزارة التي لم تنتق الكفاءة العلمية والمهنية في التكوين والتأطير إن سلمنا بعمومية هذا القول الذي يدحضه الواقع والممارسة الصفية في وقتها. فالدفاع من منطلق هش أمام وقائع بل أمام حقائق علمية لا يمكنه أن يبرر قرارات متسرعة مبنية على قول عام أو موقف شخصي أو رأي جماعي مخالف أو مناهض لمعطى واقعي قائم في الميدان. هذا المعطى الذي يجب أن يدرس بشكل علمي وبعيد عن المزايدات كيفما كان نوعها. وهنا أجد الزميل المتدخل يلغي بعده العلمي لصالح بعده السياسي بما يوهم أننا نعيش إصلاحا حقيقيا للتعليم من خلال قرارات وزارة التربية الوطنية! وهو قول بالنسبة للعقل العلمي يطلب الدليل والحجة العلمية لا القول السياسي كما عشناه مع من مر من السياسيين على هذه الوزارة!؟ فبوصلة الوزارة في وقتها الراهن ملتبس مؤشراتها ووجهتها، وغير واضحة الطريق. لم تضع بعد يدها على الاختلالات الحقيقية التي تفضي إلى عدم جودة تعليمناإن لم أقل فشله؛ فهي مازالت مشدوهة إلى الماضي، ومازالت ترى في بعض الحقول العلمية سوى شطحات فكرية أو يدوية غير قائمة على الأصول العلمية. فالموسيقى عندها مثلا؛ سوى » دربوكة » مكانها الحقيقي خارج المؤسسة التعليمية، وقس على ذلك … !
إن النقد البناء مدخل التصحيح والتطوير لدى العلماء والمفكرين، وحتى عند السياسيين. ألا ترى المعارضات في الدول المتقدمة مطلبا سياسيا فيها؟ لأنها المرآة التي ترى فيها الأنظمة السياسية الحاكمة أداءها السياسي والتدبيري للشأن العام. فلم نعتبر نحن النقد سهما موجها إلينا دون أن نعتبره موجها لما يصدر عنا؟ ألا يشكل النقد البناء ركيزة أساسية في البناء الحقيقي لموضوع النقد؟ لهذا؛ فلا ضير من مراجعة الذات ومن النقد الذاتي ثم النقد الخارجي ومن طلب التصحيح عند الخطإ والاعتراف به لأنه مفتاح النجاح في معالجة موضوع النقد، وهو هنا: تدبير الشأن العام التربوي والتكويني المغربي الذي يجب القبول فيه بالرأي الآخر. وفي ظل النقد أجد المؤسسة التعليمية تعيش حالة سكونية في بعدها البيداغوجي، حيث يمكن طرح سؤال عريض وجوهري يفيد القول ب: ما الإضافات النوعية التي حققتها الوزارة ببعض قراراتها في البعد البيداغوجي؟ وأذكر هنا بأن الفكر الإداري يطغى على تلك القرارات ولا يستحضر البيداغوجي فيها. فقد وجدت هذا الفكر يكرس ضعف المستوى رسميا ورداءة الأداء التعليمي حين يقنن ويشرع رسميا مثلا عتبة النجاح في امتحان الشهادة الابتدائية بمعدل 3,5 على 10 ؟! فكيف سيكون رأسمالنا البشري معرفيا وعقليا ومهاريا؟ إن الاختلال يأتي من القرارات الخاطئة. فكيف القبول بنجاح متعلم بذلك المعدل؟ حيث لا مبرر لهذا النجاح سوى رفع نسبة التمدرس العامة والإدعاء بتعميم التمدرس. إن تحميل فشل البرنامج الاستعجالي عند البعض لقوادر الوزارة الميدانيين يجانبه الكثير من الصواب ويعمه الكثير من الخطأ والمغالطة. ومن باب المساءلة السياسية أقول للزميل البرلماني: ما السياسة التعليمية التي جاءت بها الحكومة الحالية؟ وما السترجة التربوية والتكوينية التي تعتمدها في الرفع من جودة التعليم؟ أو على الأقل ما رؤيتها لسحنة منظومة التربية والتكوين بمعنى جانبية المنظومة التي ترغب فيها؟وأي متعلم هو مطمحها؟
إن الأسئلة تتزاحم وتتبأر في البيداغوجي لأنه الحاضنة الرئيس لتربية وتكوين وتأهيل وتمهير المتعلم وأنسنته، فإن لم يعتبر الأولوية بالنسبة للوزارة، وتأخر التعاطي معه من منطلق العلم والدراية والمهارة، وفي الوقت المبكر. فما جدوى القرارات التي تهم الموضوعات المحيطة بالبعد البيداغوجي والتي هو جوهرها؟ للحقيقة وللتاريخ فإن خطاب أمير المؤمنين كان خطابا تاريخيا بامتياز، وقف على مكامن الخطإ في التدبير السياسي والمرفقي لمنظومة التربية والتكوين. وكان واضحا وصريحا وعميقا بعناوينه الكبرى التي يمكن تفكيك قضاياها في إطار المكاشفة من قبل أهل الميدان الذين يعيشون يوميا ألم التربية والتكوين. وهم أدرى بواقع حالهم؛ فالتقرير النهائي لتقويم البرنامج الاستعجالي مبني على أدوات عليها ملاحظات علمية. أدليت ببعضها في وقته وطلبت مراجعتها لكن لم تجد صدى! فانتظار التقرير النهائي لتقويم البرنامج الاستعجالي لن يغير من بعض الحقائق في الميدان كالفراغ البيداغوجي وتجميد البحث العلمي والتربوي والعمل بالكتب المدرسية المتجاوزة علميا وتاريخيا، والاستمرار في تغليب البعد الإداري على البعد البيداغوجي في المنظومة، ومخالفة بعض القيم التي تدعو إليها المنظومة التربوية والتكوينية كالشراكة والتشاور والنصيحة والعمل الجماعي والعمل بالمشروع والتدبير بالنتائج وتكافؤ الفرص والشفافية والمحاسبة والتحفيز … ومن باب الزمالة والأخوة أتمنى على زميلي قراءة المشهد التعليمي المغربي جيدا لكي يستطيع وضع يديه على مواطن الخلل الحقيقية في المنظومة التربوية والتكوينية التي تؤزمها ويتمركزها العنصر البشري،والنقد نقد للتصحيح وليس للتشهير.
والسلام
عبد العزيز قريش
Aucun commentaire