نضح الرماد في عين من نفى العصمة لأهل الرشاد
نضح الرماد في عين من نفى العصمة لأهل الرشاد
من المؤسف حقا أن المسلمين اليوم يقلدون غيرهم من أعداء الإسلام والمسلمين في مناهج التعليم وطرقه ، ويأخذون عنهم أساليبهم التربوية والفكرية مأسورين بشدة التقدم المادي الذي حققه أولئك الأعداء.
هؤلاء المسلمون مفتونون بالمناهج الغربية مغترين بها مدعين أنها منهجية موضوعية ،وبحث علمي رصين ، ولكن هو في الحقيقة هدم للحقائق العلمية ، وإبطال للموازين الدينية ، وتشكيك للمسلمين في دينهم.
و لا يظن المسلم الفطن أن الشبهات التي تتعرض لها الدعوة الإسلامية اليوم هي شبهات محدثة جديدة لم تتعرض لها الدعوة الاسلامية من قبل ، بل نفسها الشبهات لم تتغير إنما الذي تغير الأسلوب والكيفية ،إنه أمر تواصى به أعداء الإسلام وتوارتوه عبر تاريخ البشرية ومضت به سنة الله في العباد. إن ما يقوله هؤلاء هو زور وبهتان وحسبان عاطل عن الحجة والبرهان و أنهم يتقيؤون من غير شبع، ويطمعون في غير مطمع.
والمنهج العلمي يقتضي للرد على مثل هؤلاء تقييم أصولهم العلمية والفكرية، ومعرفة مواردهم العلمية والعقدية ، والمعرفة التامة بأقوالهم وتفصيلات مسائلهم و الأوجه المتفق عليه والمفترق فيها ، لكن أريد أن أشير إلى أن هذا المقام لا يتسع إلى استعراضها فإن ذلك يطول ، إذ البسط له مقام آخر.
و سأكتفي بالرد على تلك الشبهات واحدة تلو الأخرى وعلى الله الاعتماد.
اعلم أن الاختلاف في مسالة عصمة الأنبياء واقع في أربع مواضع على ما حرره الفخر الرازي في كتابه (عصمة الأنبياء).
الموضع الأول : ما يتعلق بالاعتقادية ، فالأمة الإسلامية مجمعة على عصمة الأنبياء من الكفر والبدعة.
الموضع الثاني : ما يتعلق بجميع الشرائع والأحكام من الله تعالى ، وهذا كذلك فيه إجماع ، فلا يجوز على الأنبياء التحريف والخيانة لا عمدا و لا سهوا ، و إلا لم يبق الاعتماد على شيء من الشرائع .
الموضع الثالث : ما يتعلق بالفتوى ، فالأمة مجمعة على أنه لا يجوز على الأنبياء تعمد الخطأ فأما على سبيل السهو فقد اختلفوا فيه .
الموضع الرابع : ما يتعلق بأفعالهم و أحوالهم ، وقد اختلفوا فيه على خمسة مذاهب ، و أصح الأقوال ما رجحه الفخر الرازي أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون في زمان النبوة عن الكبائر والصغائر ، أما على سبيل السهو فهو جائز.
حجج وجوب العصمة للأنبياء
يدل على وجوب العصمة للأنبياء والرسل حجج أذكرها باختصار:
الحجة الأولى : لو صدر الذنب عنهم لكان حالهم في استحقاق الذم عاجلا والعقاب آجلا أشد من حال عصاة الأمة وهذا باطل ، وصدور الذنب أيضا باطل ، ويدل على هذا العقل قبل النقل، فمن كانت له نعمة أعظم كان صدور الذنب عنه أفحش ، والنقل يؤكده قال تعالى :( يا نساء النبيء من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ) الاحزاب(30) فإذا ثبت هذا كان عقاب الأنبياء يوم القيامة أشد حال مع عصاة الأمة ، وهذا باطل بإجماع إذ لم يقل به أحد.
الحجة الثانية : لو صدر الذنب عنهم لما كانوا مقبولي الشهادة ، ومن هذا حاله في الدنيا كيف تقبل منه الشهادة يوم القيامة على باقي الأديان .
الحجة الثالثة : لو صدر الذنب منهم لو وجب زجرهم و ردعهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، وهذا غير جائز في حق الأنبياء قال تعالى :(إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة).سورة الأحزاب(57)
الحجة الرابعة : لو صدرت المعصية عن الأنبياء لوجب أن يكونوا موعودين بعذاب جهنم ، ولكانوا ملعونين لقول الله تعالى : » أن لعنة الله على الظالمين « سورة الاعراف( 44) وهذا باطل بإجماع الأمة .
الحجة الخامسة : لو صدر الفسق من محمد صلى الله عليه وسلم لكنا بين أمرين إما أن نقتدي به أو لا نقتدي به . لكن الله أمرنا أن نقتدي به ، فكيف يأمرنا الله تعالى أن نقتدي برسول يصدر منه الفسق ، وهذا محال باطل .
الحجة السادسة: أن الأنبياء مأمورون بالطاعات وترك المعاصي ، و لو فعلوا العكس لدخلوا تحت قوله تعالى : » أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون » البقرة (43). وهذا باطل وغاية في القبح.
الحجة السابعة : قوله تعالى حكاية عن إبليس » فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين » استثنى المخلصين من إغوائه و إضلاله . وقد شهد الله تعالى على إبراهيم و إسحاق و يعقوب أنهم من المخلصين » إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار »سورة(ص)(45) وذلك يوجب القطع بعدم صدور المعصية عنهم.
الحجة الثامنة : قال تعالى : » ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين » سبأ(20) فهؤلاء المؤمنون إما أن يكونوا أنبياء أو غيرهم ، فإن كانوا غيرهم لزم أن يكونوا أفضل منهم ، وتفضيل غير النبي على النبي باطل بالإجماع . فوجب القطع بأن أولئك الذين لم يتبعوا إبليس هم الأنبياء.
الحجة التاسعة : قال تعالى في حق إبراهيم : « إني جاعلك للناس إماما » البقرة (123) والإمام هو الذي يقتدى به ، فلو صدر الذنب عن إبراهيم لكان اقتداء الخلق به في ذلك الذنب واجبا و إنه باطل.
واعلم أنا لما فرغنا من ذكر الدلائل الدالة على عصمة الأنبياء سنشرع الآن في الرد على شبهات المخالفين وهي كثيرة ، نرد على ما ذكر منها في المقال الأخير الذي نشر في جريدة هسبرس لأحد الباحثين .
آدم عليه الصلاة والسلام
تمسك من جوز المعصية على الأنبياء بما ورد في القرآن بما صدر عنهم قال تعالى: في حق آدم عليه السلام » ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين « البقرة 34 » وعصى ءادم ربه فغوى » طه(118) فقالوا: ظاهر هذه الآيات تثبت المعصية لآدم والمعصية ذنب . و أجيب عن هذا بأن إقدام آدم وحواء على الأكل من الشجرة كان لقصد القربى الى الله والحظوة منه ، وبعيد عن قصد المعصية .
ألم يقسم لهما الشيطان إنه لهما لمن الناصحين حتى يصبحا ملكين أو يكونا من الخالدين؟ ، ولما كان ما أقدما عليه من الأكل مخالفا للنهي كانت صورته المعصية، فصح أن يسمى معصية وغواية وذنبا ، والمعصية التي يؤاخذ عليها ما كان بقصد المعصية ، أما المتأول و الظان أنه متقرب إلى الله فهذا غير عاص بل مأجور على اجتهاده ، وليس في الآيات أن إخراجه من الجنة كان على سبيل التنكيل والاستخفاف ، بل كان إخراجه هو المقصود الأصلي من خلقه ليكون خليفة في الأرض.
نوح عليه السلام
واستشهدوا كذلك بجواز المعصية على الأنبياء بما ورد بحق نوح عليه السلام.
« وَنَادَىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين « هود (45)
و لا حجة في ذلك أن نوحا ارتكب معصية بل هو تأول وعد الله له أن يخلصه وأهله، فظن أن ابنه من أهله على ظاهر القرابة ،ولم يسأل نوح تخليص من أيقن أنه ليس من أهله ، فتفرع عن ذلك نهيه عن أن يكون من الجاهلين، فندم عليه السلام على سؤاله ،ونهاه عن ذلك تعالى وإن لم يقع منه ذنب ولا معصية ألبته ،يشبه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرك بقوله تعالى : » لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين » الزمر(62) و إن لم يقع ذلك منه.
استغفار إبراهيم لأبيه
و أما استغفاره لأبيه آزر وهو مشرك فإنه لم يكن قد نهي عن ذلك ، وكان استغفاره له حين كان يرجو إيمانه ، فلما أيس منه ، تبرأ منه ولم يستغفر له بعده. كما قال تعالى : » فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » التوبة (115) فكان هذا ثناء من الله عليه.
يوسف وامرأة العزيز
وقالوا في قوله تعالى: » ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه « يوسف(24) ما يشعر بأنه قد هم بالاستجابة لها لما راودته فيه. ولكن سياق الآيات يشعر بأن الذي هم به لم يكن متعلقا بالفاحشة و إنما بدفعه إياها عن نفسه، مما قد يكون سببا في هلاكه لو أقدم على ضربها فحماه الله من الهلاك ببرهان ربه.
قال تعالى : « وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون« يوسف 23
فهذه الآيات دالة على عدم استجابته لما طلبته من الفاحشة ،ومحاولته الهرب منها إلى الباب، ومحاولتها منعه من ذلك بالقوة. وقد شهد على براءته الزوج وشاهد ونسوة وملك واعتراف خصمه ببراءته .
فأي شبهة تبقى مع هذه الشهادات في براءة يوسف عن الذنوب.
محمد عليه الصلاة والسلام
تمسكوا بقوله تعالى : » ووجدك ضالا فهدى « الضحى 7 الجواب : إن الضلال هو الذهاب والانصراف ولا بد من أمر يكون منصرفا عنه وهو غير مذكور ، والخبران بغير ما يوافق الدليل و هو أمور أربعة :
الأول : وجدك ضالا عن النبوة فهداك إليها ويؤكده قوله تعالى : » ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان » الشورى 49.
الثاني : وجدك ضالا عن المعيشة و طريق الكسب .
الثالث : وجدك ضالا في زمان الصبى في بعض المفاوز.
الرابع : وجدك ضالا أي مضلولا عنه في قوم لا يعرفون حقك فهداهم إلى معرفتك. كما يقال : فلان ضال في قومه إذا كان مضلولا عنه.
و منها قوله تعالى » وإن كادوا ليفتتونك »الاسراء73 قالوا : استعمال كاد يدل على أنه قارب ذلك ومال إليه ورد عليهم بأن المراد الإشارة إلى الطبيعة البشرية بقطع النظر عن تأثيرها أو عدم تأثيرها.
ومنها قوله تعالى « لئن أشركت ليحبطن عملك » الزمر63 وليس في الآية أنه فعل و إنما هو شرح الحال بتقدير الوقوع.
ومنها » ووضعنا عنك وزرك » الشرح 2 قالوا :هي صريحة في الذنب . أجيب عن هذا بأن المراد بالوزر الثقل ، إذ كان في غم لإصرار قومه على الشرك ، فلما أعلا الله كلمته وعظم أمره فقد وضع
عنه وزره.
وكل الآيات التي أوردها من قال بجواز صدور المعصية من النبي صلى الله عليه وسلم و أنه كانت له أخطاء بشرية ما هي إلا تقصير في فهم النصوص ،و هذه الآيات لا تخرج عن عتاب التوجيه والدفع وتقوية العزيمة للنهوض بأعباء الدعوة إلى الله وتبليغ الرسالة .
والفائدة من هذا المقال هو تثبيت إيمان المؤمنين بمعرفتهم الصحيحة لمعاني الآيات و إظهار مكانة النبي صلى الله عليه وسلم وحفاوة الله تعالى به، وكذلك تمتين إيمان المؤمنين وتقوية محبتهم لرسول الله ومعرفتهم بمكانته العليا ،هو وإخوانه الرسل والأنبياء ليزداد المؤمنون إيمانا مع إيمانهم ويزول شبه المشككين في هذا الدين القيم.
ومن تفصيل هذه المسائل فليرجع الى المصادر التالية:
-إعلام المسلمين بعصمة الانبياء للشيخ اسحاق بن عزوز المالكي
-عصمة الانبياء للإمام فخر الرازي
-آيات عتاب المصفى صلى الله عليه وسلم في ضوء العصمة والاجتهاد.الكتورعويد بن عياد بن عايد المطرفي
Aucun commentaire