المقامات الدفية : الدف الرابع والأربعون – الرجل الذي أمروه بالصعود لأكل التين لكن أرغموه على النزول في الحين
حدثناأبو الغرائب عن أبي العجائب أن رجلا من عامة الشباب، كان كثير النشاط رغمالشقاوة والتعب والعذاب، وكان يتلقى يومياً صنوفاً من اللوم والعتاب…ظليبحث عن عمل يناسب مستوى شهادته، وظلت أسرته معه تنتظر الكثير من فائدته،وكانت توفر له كل ما استطاعت على مائدته…صادف يوما صديقاً له كان يعرفهمنذ الصغر، فشكى له حظه وما يعانيه من الضرر، فنصحه الصديق بضرورة المزيدمن الصبر لنيل الوطر…عاد إلى المنزل وهو يفكر في كلام الرجل، ثم نام بعدأن أصر على المزيد من البحث على العمل، وعلى التحلي بالصبر مادام يريد أكلالعسل…وحدث يوما أن مدَّه أحدهم في المقهى بصحيفة، فتناولها وقلَّبصفحاتها بحركات متلهفة خفيفة، فعثر فيها على إعلان يخص تنظيم مباراةللوظيفة…سجل تاريخ المباراة والعنوان وشروط الترشيح، ثمَّ اتصل بالإدارةالمنظمة زيادة في التوضيح، فقرَّر المشاركة متمنيا دقة ونزاهةالتصحيح…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في ارتجال الخطط، أن صاحبنا تأهَّلحسب مقياس معدل النقط، فاستدعوْه لامتحان قياس الصواب والغلط…سألوه فيكل ما يُعرَفُ وما لا يُعرَفُ، وطلبوا منه فك رموز لا تُرى ولا تُكشَفُ،وما كان ذلك إلا جهداً تيقن أنه يُستنْزف…كَبَّ وجهَه على الورقة وأبدىنوعاً من الحسرة، وانتظر من أعماقه جواباً يسُدُّ به انحراف العثرة، فرأىعفريتاً بين السطور يُنبهه إلى قصر الفترة…بحث عنه بين الكلمات وعلاماتالاستفهام، ورسم على ورقة التسويد أشكالاً شديدة الإبهام، فخرج منهاالعفريت عارضا عليه فك الألغام…سمع المراقبون وشوشة تميل إلى الهمس،فثبَّتوا قاماتهم وشدّوا على القوس، منبهين الممتحنين إلى الابتعاد عن الغشوالرجس…انهمك في الإجابة يحاول الفوز بالصفقة، ولما فكر في مراوغةالحراس بما استطاع من الدقة، انقضوا عليه ولم يُبدوا له شيئا منالرقة…اقترح عليه العفريت الخروج إلى دورة المياه، ليغير بذلك مساراليقظة والانتباه، ويبتعد عن العيون المتراقصة تحت الجباه…خرج للتو وتركالأمرَ بيد العفريت كلَّه، وسار خلفه مراقب ليرصُد عن بُعد فعلَه، تحسباًلنفس ما كان قد قام به أحد الممتحنين قبلَه…جرّدوه حسب القاعدة من كلِّما مِنْ شأْنِه، فقعد ملوما محسوراً يشد على بطنه، حتى أثار تعجب المراقبينبتغير لونه…راجع أجوبة العفريت الجاهزة قبل نفاد المدة اللازمة، وأحسبالارتياح بعد استرجاع أنفاسه المتلاطمة، وتمنى أن يسمع خيراً في مايُستَقبَل من الأيام القادمة…ظل يرقب ما سيأتي به جديد الأيام، وقدتشابكت في رأسه خيوط الأحلام، فتوجس خيفة من السقوط في شركالأوهام…عُلِّقَت النتائج وتحلَّقت حولها العيون، وفرح البعضُ والبعضُتملَّكَه الجنون، فتناسلت أقوال الشكوك وكثُرت الظنون…امتزجت عباراتالتبريك بزفرات الصدور المكلومة، واعتبر صاحبنا ذلك إما استجابة للحقوقالمهظومة، أو هي زلة من زلات تخطيطات الحكومة…طلَّ اسمه واضحا براقاً فيأعلى لائحة الفوز، مما جعله فريسة لكل أنواع الهمز واللمز، فأنشد يرد علىمن رماه بالكسل والعجز:
أمروا بما لا يرغبُ المُتقاعسُ فمتى ينال حظوظه المتنافسُ
وصبـرت أبغي قبلة المتفاخـر لا خير في من حظه متعاكسُ
وَلَـدَيَّ ما لا يرتضيه مكــابدٌ إنَّ الهوى مـع أهله يتجانسُ
يرويأحد الفضوليين المتخصصين في لغة التشفير، أن صاحبنا أفحم بشعره ذويالوشاية والتشهير، وإن لم يكن له لا في العير ولا في النفير…وصل متأخراًودخل قاعة إجراء الامتحان الشفوي، حيث تنتظره أسئلة تفوق سعة المقررالسنوي، أحس معها بشيء ما يُشْبه ألمَ الفشل الكلوي…وضعوا أمامه ركاماًمن الوريقات بشكل منثور، وطلبوا منه اختيار واحدة دون الاطلاع على المستور،فاختار تيمناً واعتقاداً أن الأوسط هو خير الأمور…فتح الوريقة فأحالتْهعلى رقم الوثيقة، وبادروه بسؤال فلسفي حول مفهوم الحقيقة، ومنحوه مهلةللتفكير لا تتجاوز حدود الدقيقة…عالج الموضوع بمنهجية يسودها طابعالترقيع، وبلغة تخترقها الدارجة في إطار التطبيع، وبقواعد مفككة يترنحنحْوُها بين البدعة والبديع…تدخل العفريت لفك مغالق السؤال والتأويل،فاسترسل هو في المناقشة والاستنتاج والتحليل، والعفريت يمده بكل وسائلالحِجاج والتعليل…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في علامات الفطنة، أنصاحبنا أبهر بأدائه جميع أعضاء اللجنة، حيث استسلموا للنوم وتخلص هو منالمحنة…سجل نقطاً متقاربة على أوراقهم، ثمَّ مرَّرَ قطعة قماش حولأعناقهم، وتركهم للعفريت ليتولى أمر انعتاقهم…بعد مضي خمسة عشر يوماًبالتمام والكمال، أخبروه بالنجاح ودعوه للحضور على وجه الاستعجال، ثم طلبوامنه الالتحاق بالعمل في أقرب الآجال…عينوه بقرية تقتضي منه مسيرة ثلاثةأيام، فقبل وتحمس وأبدى ما يملك من إقدام، ثم هيأ حقيبة السفر وأغلق جيوبهابإحكام…ودَّع أهله ودعَوْا له بالسلامة والتوفيق، وركب الحافلة التيلفضته في منتصف الطريق، ثم ترجَّل ساعة حتى نهاية الجسر العتيق، استقلَّسيارة قطعت به مرتفعات ومنحدرات الجبل، فبدأ يشعر بفقدان الرغبة في مباشرةالعمل، لكن جمال الطبيعة كان يراوده على التشبث بالأمل…توقفت السيارة علىحدود ضفة الوادي الكبير، حيث تنشط حركة ومهام البغال والحمير، وأركبوهبغلا أشهب وأمطروه بالترحيب والتقدير…وصل إلى المقر بعد يومين من العدووالسباق، واستقبله المسؤول بالإمضاء على محضر الالتحاق، وشكره على المواظبةبلهجة تنم عن الإشفاق…يروي أحد الفضوليين العارفين بالعمل في الجبالوالسهول، أن صاحبنا قضى ليلته في ضيافة المسؤول، وبات يبحث عن حلاوة ماسمعه من الكلام المعسول…أيقظه المسؤول برفق مُبدياً له قمة احترامه، وكانقد بالغ كثيراً في ضيافته وإكرامه، ثم سلمه جدول حصص لا يأتيه الباطل لامن خلفه ولا من أمامه…ودَّع المسؤولَ وحمل حقيبته خائر العزْم، وتاه بينثنايا الشعاب يقتفي أثر القسم، ثم لاح له في ظاهر الجبل كباقي الوشم…وصلمنهكاً تماماً بعد كلِّ ما تعرض له طيلة النهار، فوجد القسم عبارة عن قفصيتسع بعض الأمتار، وقد فُصلت غرفه الافتراضية بحواجز حيكت منالأستار…أوقد نصف شمعة ليتبين معالم المكان، فشاهد سبورة أكل عليهاالطباشير رفقة الزمان، وأمامها بُعْثِرَت طاولاتٌ تغري شهية النيران…سمعنباح كلاب يُمزِّق أحشاء الصمت، فقام بمراجعة منافذ ونوافذ القسم البيت،وشعر بالوحدة ومرارة وطول الوقت…تذكر ما كان يسمعه في المقاهي والتجمعاتوالمجالس، من تناسل حكايات وأساطير في ملحقات وفرعيات المدارس، فأدرك أنالأمر هنا لا يقاس بالمواظبة والهندام والملابس…تذكر نصائح الأهل والحكمالمتواترة عبر الأجيال، وتمنى من أعماقه لو يحضر صاحبه العفريت في الحال،ويخلصه من تجهم هذا الفضاء المحصور بين الجبال…حاول أن يحرك تكاسل وتعثرحركة عقارب الساعة، فجرب أن يُلقي درساً يكسر به هدوء القاعة، فلربما سيقوىنشاطه ويكسب به شيئاً من المناعة…تخيل شكل التلاميذ بوجوه ضاحكة باسمة،وعيونهم اللامعة تسبح في فضاء آفاق غائمة، فبدت له على الحائط أشباح بملامحواجمة، تخيل أنهم يتناوبون بانتظام على قراءة الكتاب، وتخيل أنه يسألهموهم يرفعون أصابعم طلباً للجواب، فشعر بارتياح وطمأنينة تبدد خيوطالسراب…وبينما هو على تلك الحال يسأل ويشرح، أحس بدبيب كائنات وكلاب تعدووتنبح، وقفزت من أدراج المقاعد رؤوس مقطوعة تلعب وتمرح…ولما اقتربت منهتلك الرؤوس تتنافس حول خنقه، استيقظ مذعورا يمتص ما بقي من ريقه، ثم ماتوقد فقد إحساسه وما تبقى من ذوقه…وفي رواية أخرى أنه لما فسر ما يرادبالتعيين، وقف على حقيقة نتيجة الصعود لأكل التين، ثم مات ثلاثا تاركاًحكمته عالقة بالجبين….
يتبع مع دف آخر… محمد حامدي
2 Comments
إنها مقامة من مقامات ما يحدث لبعض رجال التعليم في القرى والبوادي حيث لم يصابوا ولم يأكلوا لا تينا ولا انتقالاً
برافو السيد محمد تحياتي لك ولأخي وصديقي ابراهيم