المقامات الدفية : الدف السابع والثلاثون – الرجل الذي التقى بالسندباد وهجر البلاد والعباد
المقامات الدفية : الدف السابع والثلاثون – الرجل الذي التقى بالسندباد وهجر البلاد والعباد
حدثنا أبو الغرائب عن أبي العجائب أن رجلا من أهل المشارب، كان مولعابالصيد بارعا في صناعة القوارب، وكان يعيش في كوخ بعيد عن الأهل والأقارب،كان يقصد البحر وقلبه ينضح بكل ما يملك من عشق، حامدا الله شاكرا إياه على كل ما يحصل عليه منرزق، وراضيا على ما تعامله به زوجته من حنان ورفق…وحدث يوما أن رجع من البحرمنتصف الليل، بعد محاولة إصلاح ما أصاب قاربه من العطل، وكان الطقس ينذربسحاب غزير المطر كثير السيل…وجد زوجته في انتظاره كاتمة للقلق صابرة، فسألتهعن سبب تأخره وبدت له متشككة حائرة، فطمأنها ثم نام وبقيت هي طول الليلساهرة…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في علم المحيطات والبحار، أن صاحبناقرر أن يجوب المياه واليابسة وأرض القفار، فبدأ يهيئ كل ما يحتاج إليهطيلة المسار…قطع عرض البحر وسط الأمواج المتلاطمة وشدة الأنواء، فرسا قاربه على ساحل رماله تتلألأ حباتها كالأضواء، فانتابه شعور غريب دفعه إلى محاولة استكشاف الأجواء…تجول في الشاطئ عله يجد من يُؤانسه في وحدته وخُلوته، ولم يجد أثرا لبشر يحكي له عن موج البحر وسطوته، بعد أن خارت عزيمته وانهار ما تبقى من قوته…وبينما هو على تلك الحال رأى كساء على شكل غلاف، نُسج ثوبه من وبر البعير وصوف الخراف، فَهَمَّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّ بجلبه ليستعمله كوسادة وإن اقتضى الأمر كلحاف…مَسَكَ بطرفي الكساء ثم نفض ما علق به من التراب، فخرج منه دخان كثيف مخلفا كتلة من السحاب، وتطايرت من ثناياه أكوام أثواب غُزِلَتْ من ريش الغُراب…طار الكساء من بين يديه بعيدا وهبط مستويا على الأرض، ثم استدار على شكل دائرة تساوى فيها الطول بالعرض، فارتعدت فرائصه خوفا وأسرعت دقات قلبه في النبض…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في سلوك الخلق والعباد، أن صاحبنا سمع صوتا ينادي في الشعاب والوهاد، معلنا عن أصل الكساء وملكيته للسندباد…ظل يسمع اسم السندباد مُدويا في قمم الجبال، إلى أن رأى مخلوقا عجيبا يخرج من بين الرمال، يتأبط سيفا مسلولا وكأنه مستعد للحرب والقتال…اقترب المخلوق من صاحبنا بالثبات والأمان والسلام، وطلب منه التقدم خطوة نحو الأمام، ثم أشار إلى الكساء واسترسل في الكلام…أطلعه على سر الكساء المعروف في زمنه ببساط الريح، وكيف جال به في أرض النخل والياسمين والشيح، ثم أنشد بعض الأبيات من الشعر الفصيح:
أنـا سنـدباد البحر باللحـم والدم وهـذا بساطي إنْ نَكَـرْتُمْ مكارمي
تَطَوَّفُتُ أرض الهند والسند أصطفي بـلاداً وما جَـدَّتْ بـها من معالم
رأيْـتُ العجائـب المُثيرات للهوى وَذيعَـتْ حـكاياتي بكُـلِّ التـراجِمِ
يروي بعض الفضوليين المتخصصين في روايات المُحال، أن صاحبنا أَسَرَّ للسندباد برغبته في السفر والتجوال، لكن قاربه أصبح رميما فوق أكوام الرمال…فاقترح عليه متوددا أن يُمَكِّنَهُ من ذلك البساط، مقابل ما يطلبه من فضة وذهب بالوزن والقيراط، وتمت الصفقة وغمرت صاحبَنا لحظةٌ من الفرح والنشاط…امتطى البساط يسابق الريح نحو بلاد الإفرنج، حيث كان يحلم دوما برؤية حوريات الدلال والغنج، وحيث المياه والثلوج والبساتين وخضرة المرج…زاد من سرعة البساط وسابق الريح في جو من العجب، حتى اصطدم بسحابة كبيرة أصابت أطرافه بالعطب، وسقط فوق كوخ صغير تم بناؤه من القش والقصب…استلقى منهكا وكأنه آت لتوه من ساحة القتال، باحثا عن السندباد عله يُبعث مجددا من الرمال، فرأى سفينة كبيرة هيكلها مشدود إلى الشاطئ بالحبال…خطرت بباله فكرة التسلل إليها ليتمكن من العبور، فلما اقترب رأى رجالا يفكون الحبال وهم يتغنون في حبور، وفي غفلة منهم غطس مستغلا انطفاء النور، فشد جسده بحبل إلى السفينة ليتمكن من العبور…سارت السفينة مقدار ميل وسط هول من الأمواج، وهو معلق بالحبل إلى أن تقطع بفعل كثرة الارتجاج، ثم بدت له مغارة قصدها وأسارير وجهه تبرق بالانفراج…كَمَنَ داخل المغارة ليستريح ويسترجع بعضا من الأنفاس، ثم شرع في تكرار الاستعاذة بالله من الشيطان السواس، فبقي على نفس الحال حتى استسلم لرغبة النعاس…ارتجت به المغارة محدثة صوتا فَضَّ هدوء السكوت، فأدرك بعدها أنه كان قابعا في فم الحوت، وأنه أصبح بين أسنانه مضغة من القوت…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في حيوانات البحار، أن الحوت أحس بمغص وتقلب ذات اليمين وذات اليسار، فانفلت صاحبنا متمسكا بكومة من المحار…سكن جوف محارة وأبحرت به نحو الساحل، فالتقطها طائر بحجم الفيل بمنقاره الهائل، وطار بها بعيدا إلى مكان قفر قاحل…وضعها في عش على قمة جبل طُعْما لصغيره، فتشققت وصاحبنا بداخلها ينتظر نهاية مصيره، وانفلت منها بصعوبة وقد فقد بريق أظافيره…صمم على الوصول بأي ثمن إلى الساحل الآخر، فشد جسمه بحبل متمسكا بمخلب الطائر، وطار به بعيدا وهو بين الموقن والحائر…لمع برق أعقبه صوت رعد وعَصْفُ ريح قوية عاتية، فانفك المخلب من ساق الطائر فسقط فوق شجرة عالية، تحركت أغصانها وتمططت ثم رمت بصاحبنا في قرية نائية…وجد أهلها يخرجون بنصف ملابس من كل منزل وبيت، ثم يركضون متنادين على بعضهم البعض بأعلى الصوت، أن هلُمُّوا فقد حان الموعد ودقت ساعة إبحار قوارب الموت…أخذ مكانه وسط القارب دون أن ينتبه إليه أي مسؤول، والكل يتطلع إلى التخلص من أرض الشاي والزيتون والفول، ثم انطلق القارب يمخر عباب الموج والبحر المهول…تذكر زوجته وأولاده وواعدهم في نفسه بأجمل السكن، وشرد في مشاهدة أمواج البحر وهي تصفع جدارات السفن، فرأى من حوله الناس يخرجون أثوابا بيضاء شبيهة بالكفن…توجع بطن القارب تحت ضربات الموج ومال قليلا، فانتفضت الأجساد عارية وتعالت الأصوات تكبيراً وتهليلا، وزادت العواصف وقوة الأمواج في نفوسهم خوفا وتهويلا…قاوم القارب كثيرا لكنه انقلب وأفرغ ما بداخله من بشر، ولقي كثيرهم مصيره ورأى الآخرون نجاتهم على مرأى البصر، أما صاحبنا فألقت به الأمواج بعد أن رَعَتْهُ مشيئة القدر…أغمي عليه فظل ملقى فوق كومة من الرمل، وأشعة الشمس تسري حرارتها في جسده كالنمل، فرأى كائنات مسلحة بسيوفها تجري خلفه وتتقصده بالقتل…ولما مسكت به وأشهرت سلاحها تريد قطع رأسه، استيقظ مذعوراً فوجد نفسه يصلح ما تمزق من لَبْسه، ثم نظر إلى وجه زوجته فمات معتبرا إياه سبب نَحْسه…وفي رواية أخرى أنه لما استيقظ وعلم أنه لم يغادر عتبة الكوخ، أدرك دلالة ما جرى على الألسن حول استحالة مداواة الخوخ، ثم مات ثلاثا لاعنا كل ما يتعلق بعيش السمو والشموخ…
يتبع مع فضول آخر . محمد حامدي
1 Comment
متى تُجمع هذه المقامات الشيقة في كتاب؟ فعلا إنها مقامقت هذا الزمان