Home»National»المقامات الدفية : الدف الثالث والثلاثون – الرجل الذي التقى بجحا ونام حتى عز الضحى

المقامات الدفية : الدف الثالث والثلاثون – الرجل الذي التقى بجحا ونام حتى عز الضحى

0
Shares
PinterestGoogle+

المقامات الدفية : الدف الثالث والثلاثون – الرجل الذي التقى بجحا ونام حتى عز الضحى   

حدثنا أبو الغرائب عن أبي العجائب أن رجلا من مدينة الحجر والرمال، عاش يتيما متواضعا بين الناس فقير الحال، اشتهر في سائر المدينة باسم التاجر الحمال…كان يحمل بضائع الزبناء بمشقة فوق رأسه، وكان يوصل أشغال يومه بما كثر في أمسه، حتى يضمن بذلك القليل من أكله وشربه ولبسه…واستمر على نفس الحال طيلة الأيام والشهور والأعوام، وقد حولت البضائع رأسه إلى مشتل من البثور والأورام، وأصبح يشكو من عجز سرى في عروق الأقدام…اقترح عليه بعض المشفقين أن يشتري حمارا يكون له عونا، ويحمل فوق ظهره كل ما عُرضَ عليه وما ثقل وزنا، فالحمار لا يريد إلا حشيشا وفي أحسن الحالات ماء وتبنا…استشار زوجته وأولاده وبعد النقاش وافقوا على الفكرة، شريطة أن يعتنيَ بالحمار ويُظْهِرُ له حسْنَ العشرة، ويبنِيَ له بيتا من القصدير يكون له سترة…طلب من زوجته أن تطبخ لهم حساء من شعير، احتفالا بالفكرة وما ستجلبه لهم من مال وفير، فأكلوا حتى شبعوا ثم ناموا واستغرق هو في الشخير…وحدث في يوم من أيام الله أن دخل سوق الدواب والبهائم، يريد شراء حمار حسب ما توفر لديه من الدراهم، فاستقر رأيه على حمار يمتاز بالقوة وصلابة القوائم…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في علم الحيوان من ذات الحوافر، أنه اقترب من الحمار ليتحقق مما رُسِمَ عليه من الخطوط والدوائر، ثم اندهش مما رأى وسبَّحَ بالله العالم بما يوجد في الأسرار…طلب صاحب الحمار منه ثمنا لم يقدر على دفعه، وأصر على الثمن كاملا حتى ولو عدل وتراجع عن بيعه، فما كان من صاحبنا إلا أن طأطأ رأسه ولم يَقْوَ على رفعه…مر نصف يوم وهو يبحث إلى أن وقعت عيناه على حمار بشُهْبَة، وبجانبه رجل قصير ينادي على الناس ويغني بنغمة عذبة، يُفْهَمُ من آهاتها أن الرجل يعاني من شوق أو غربة…تقدم صاحبنا من صاحب الصوت وسأل عن ثمن الحمار، وبعد محادثات طويلة بينهما ومساومات واحتدام في الحوار، سأله صاحبنا كيف وصل إلى هذا السوق وكيف رمته مشيئة الأقدار، فأعلن الرجل عن هويته ناسبا نفسه إلى جماعة من الأخيار، مصرحا باسمه مؤكدا أنه جحا واسترسل في إنشاد الأشعار:

أنـا جُحا صاحبُ الأخبار والعجبِ       عشْتُ العصور أُداري هالَة الكذب

اسمي جَرى جَرْسُهُ في كُلِّ ألْسِنَةٍ        يَحْكي مُقـارَعَتي للـهْو واللعب

هـذا حماري أمامي وارث الأثـر       مُفَرِّجاً ما أصاب الناسَ منْ كُرَب

روى جحا له كل ما مر به وما قاساه عبر الزمان، حيث بدد كل ثروته بحثا عن حماره غارقا في الرهان، إلى أن وفقه الله أن يعثر عليه في هذا المكان…اقترح عليه صاحبنا شراء الحمار بنصف الثمن في مداعبة، وله أن يزوره متى شاء أيام الآحاد وفي كل مناسبة، وأن يكون الحمار تحت عينيه بكل عناية ومراقبة…تمت الصفقة واتفقا على اقتسام الأرباح بالنصف، بعد إطعام الحمار بما يناسبه من العلف، فكتبا عقدا وقعاه معا بعد تحديد الشروط بالعرف… يروي أحد الفضوليين المتخصصين في علم التسجيل والتحفيظ والتوثيق، أنهما تصافحا ودعا كل واحد منهما للآخر بالربح والتوفيق، وكل يضمر لصاحبه ما تعود عليه من التزوير والتلفيق…سلم جحا الحمار إليه بما كان عليه من البردعة والخرج، وتناول نصف الثمن بعد تحويله إلى عملة الإفرنج، وعاد صاحبنا بالحمار وهو يشعر بالدلال والغنج…وصل إلى منزله وأخبر زوجته بقيمة حمار جحا الهمام، وفرح الأولاد بقدوم أبيهم وأخذوا الحمار منه إلى الحمام، حتى يُباشر عمله في الغد بكامل النشاط والقوة والتمام…أخلطوا مسحوق الصابون بمُزيل البقع والكِلْس، وصبوا الماء والحمار يتلذذ بين خوف ودهشة ورَفْس، ثم جففوا شعره وإذا هم يلاحظون تحوله من حمار إلى تَيْس…أخبروا أباهم بما رأته وشاهدته أعينهم، فزمجر طالبا منهم أن تُغلق أفواههم وتخرس ألسُنُهم، فكيف يُفعلُ به ذلك وهو أشطر الرجال وأثمنُهُم…صمت قليلا ثم حاول أن يهدئ من روع زوجته وأبنائه، وروى لهم حكاية فضل الحمار على جحا حسب كلام أحد أقربائه، حيث اغتنى جحا في عصره وأصبح واحدا من أغنيائه…تذكر كل تفاصيل الحكاية وبادر مسرعا إلى الجزار، يريد استعارة مدية تمكنه من فتح بطن التيس الحمار، لأن جحا كان يدس بها ما غلى ثمنه من الجواهر والمحار…فتحها بعد أن صرح بما كان يضمره أثناء صفقة الانفراج، ثم فتش بين الأحشاء فعثر على كنز ثمين من الذهب الوهاج، فأحاط به الأولاد مزغردين وهاتفين في جو من الفرحة والابتهاج…يروي بعض الفضوليين المتخصصين في الذهب الأصفر والأبيض وما يتحقق به المحال، أن الكنز حول صاحبنا من حمال إلى تاجر تضرب به الأمثال، حيث فاض حوله الرزق وسال من جنباته الدينار والمال…وحدث أن كانت مناسبة عيد فاشتاق جحا لرؤية حماره، وأخْذِ نصيبه من الربح حسب ما ينص عليه العقد في قراره، فقصد صاحبه بعد أن تغيرت معالم الطريق الموصل إلى داره…أوقفه الخادم مستفسرا عن سبب حضوره وعن القصد والهدف، فأخبره أن له مع سيده ميثاقا وقعاه بالالتزام والشرف، فأذن له بالدخول وأشار إليه بالانتظار في إحدى الغرف…استيقظ الحمال التاجر متأخرا حتى تمام الضحى، وأخبروه بوجود صديق في الانتظار يدعى جحا، فرحب به معلنا أن زيارته ستزيده غبطة ومرحا…قدم الخدم إليه ما لذ وطاب من الأكل والشراب، ثم دعاه التاجر إلى الإفصاح والاختصار في الخطاب، فما عاد ما يفصل بينهما حاجز فقد كُشف عن الستار والحجاب…اختار جحا لكلامه تمهيدا لإبلاغ المقصود والمراد، حيث ما قدم إلا لرؤية الحمار حسب الوعد والميعاد، وأخْذِ النصيب المتفق عليه في المناسبات والآحاد…طمأنه التاجر ورأى أن ما سمعه ليس عليه شيء من العتاب، فأمانته لا زالت في الحفظ حسب ما توصي به سنة الكتاب، وقد حان إرجاعها لصاحبها حتى لا يبقى ذَنْبُها في الرقاب…يعلق بعض الفضوليين المهووسين بتحليل المُبْهَم وفك الألغاز، أن التاجر اشترى حمارا أشهب أثناء سفرته الأخيرة إلى الأهواز، وكان ينوي إرجاعه إلى جحا بدل التيس بكل فخر واعتزاز…ولما رأى جحا الحمار شك في لونه ولم يتبين أصله، فاقترب من الخرج يريد عن الحمار فكَه وعزلَه، ليتحقق من وجود علامة كانت بآخر ظهره تُوصم ذَيْله…سأل التاجرَ يريد معرفة سر اختفاء العلامة، راجيا أن يكون حماره متمتعا بالطمأنينة والسلامة، محذرا التاجر مما فعل بكل ما ملك من الصرامة…أجاب التاجر أن العلامة كانت تحدث للحمار ألما، فكلما احتك بها الخرج كان يقدم ويؤخر قدما، فمنذ إزالتها نشط الحمار وزاد صوته نغما…سأل جحا متى حدث ذلك الفعل واصفا إياه بالشر، فأجاب التاجر بيقين العارف المدرك قرابة الشهر، فولول جحا مُزبدا فاقدا ما يقوده نحو التعقل والصبر…خرجت من الخرج عفاريت صغيرة عارية البطون، وشعلة من نار تخرج من أفواهها ومن الآذان والعيون، فتوجس التاجر خيفة وأصبح في مرمى الحمق والجنون…رمق التاجرُ جحا فوق الحمار وقد أصبح أثرا بعد عين، واقترب منه كبير العفاريت ينفث نارا وقد تلون بألف لون، فرأى قَصْرَه يتصدع ويتحول إلى بيت من طين وتبن…ولما مسك العفريت بتلابيبه ينوي فصل رأسه عن الجسد، صرخ صرخة واحدة فاستيقظ مذعورا معوذا باسم الله الصمد، ثم مات وهو يُضمر ما تفاقم عليه من الهم والكمد…وفي رواية أخرى أنه لما استيقظ مذعوراً تحت شدة الفزع، أدرك أنه لم يحصل لا على الحمار ولا على فرنكات الشبع، ثم مات ثلاثا مؤمنا بأن الهناء في الكفاف والورع….            

يتبع مع فضول آخر .         محمد حامدي

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *