بل الجبال والغابات ذاكرة دينية للمتدبرين
بل الجبال والغابات ذاكرة دينية للمتدبرين
محمد شركي
كالعادة كل ما ينشره الأستاذ الفاضل المحترم السيد رمضان مصباح الإدريسي يغري بالقراءة و في نفس الوقت بالرغبة في الكتابة حول ما ينشر. فآخر ما نشر له موقع وجدة سيتي مقاله الرائع : » الجبال والغابات ذاكرة أنثروبولوجية أيضا » وهو عبارة عن نداء بيئي وازن ومسؤول من مثقف ومفكر خبر البيئة خبرة عارف لهذا يتحرق لصيانتها . ولقد صادف مقاله ظرف ما يسمى اليوم العالمي للبيئة ، وآمل أن يتنبه المهتمون بالبيئة بمقاله هذا. ولقد استيقظت صبيحة الجمعة الماضية ، وكنت قد عقدت العزم على معالجة موضوع الفساد والإفساد في خطبة الجمعة دون أن أنتبه إلى مناسبة اليوم العالمي للبيئة. وحوالي الساعة الثامنة صباحا وكان الوقت متأخرا جدا ألقى ساعي بريد الوزارة الوصية عن الشأن الديني كعادته في صندوق رسائلي مذكرة تطلب من خطباء الجمعة تخصيص خطبهم أو جزء منها للحديث عن وجهة نظر الدين في البيئة ، فوفرت للحديث عن البيئة حيزا في خطبتي التي كانت مخصصة أصلا للحديث عن الفساد في شتى الآفاق .ومن شر الفساد والإفساد ما يلحق أفق البيئة جهلا بالدين ، وهو ما تناوله مقال الأستاذ السيد رمضان مصباح حين أنكر منكر اقتلاع الدوح في محيطه ، وتخريب الغابات في موطنه ، وما ذكره عن موطنه ينطبق على جميع المواطن الجبلية والغابوية . وإنني إذ أشاطر أستاذي الألمعي السيد مصباح رأيه الذي تضمنه مقاله الهام ، أتحفظ فقط على وصف الجبال والغابات بالذاكرة الانثروبولوجية لمجرد أن مصطلح انثروبولوجيا بالنسبة لي إنما يستخدم استخداما قدحيا عند غيرنا من الذين يجعلون السوسيولوجيا وصفا لائقا بحضاراتهم المتقدمة ، بينما يقدحون في حضاراتنا من خلال وصفها بالانثروبولوجية الدالة على البدائية والتخلف. ولقد تجاوزت العلوم الإنسانية الحديثة عقدة التصنيفات التفاضلية بين الحضارات البشرية ، فلم يعد فيها غالب ومغلوب أو متقدم ومتخلف ، بل هي جميعها أسفار تخفي أسرار تاريخ البشرية جمعاء . وإذا ما احترمت أساطير بابل وآشور وسومر وأساطير الفراعنة والصينيين ، وأساطير يونان ورومان ، فما المانع من احترام أساطير يعرب ومازيغ ؟ والذي يعنني من مقال السيد مصباح الفاضل هو تلك الدعوة الصادقة التي عكست غيرته على الطبيعة الجبلية والغابوية ، وهو الذي حرر قبل أيام مضت مقالا حول المغرب الأزرق قاصدا حيزنا البحري الذي نجهل قيمته كمغاربة . وانطلقت في حديث المتضمن في خطبتي من حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيه : » اتقوا اللعانين ، قالوا : وما اللعانان ؟ قال : الذي يتخلى في طريق الناس وظلهم » وقد يبدو الحديث بحكم قصر عبارته بسيطا أول وهلة ،ولكنه في الحقيقة يتضمن ثقافة بيئية إلهية غير مسبوقة في تاريخ البشر. فالتخلي الوارد في هذا الحديث يعكس في بعده الخفي ما يصطلح عليه بالتلويث في عصرنا بمفهومه الواسع مهما كانت طبيعته. والنبي صلى الله عليه وسلم حين حذر من التخلي في طريق الناس وظلهم إنما أشار إلى عموم البيئة ، لأنه عند التأمل نجد البيئة عبارة عن طريق يسلكه الناس أو ظل يستظلون به . فمساكنهم إذا استقروا بها تظلهم ، ومراكبهم إذا ركبوها تظلهم ، وهم إذا تحركوا برا أو بحرا أو جوا كانوا في الطريق . وعليه كل تلويث يصيب طريقهم أو ظلهم يتسبب في إذايتهم سواء استقروا مستظلين أم ساروا . ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثا للعالمين، فقد أنطقه الله عز وجل بما يناسب طبيعة رسالته التي يفهمها كل عصر بقدر كفاياته وحسب ظروفه . فالناس في عهده فهموا نهيه عن التخلي في الطريق والظل حسب ظرفهم ، والبشرية ستفهم نفس النهي حسب ظروفها المختلفة . ولقد لفت الأستاذ الفاضل السيد مصباح انتباه المغاربة إلى قيمة الجبال والغابات من زاوية غير الزاوية المادية المحضة . فقد يحسن كثير من الناس الحديث عن الجبال والغابات كثروات اقتصادية كمية ، ولكن قلما يوجد من يعرف قيمتها الثقافية الكيفية . وإذا كان الأستاذ رمضان وهو ابن الجبل والغابة قد وقف عند الجانب الثقافي للبيئة الجبلية والغابوية ، فإنني أيضا ابن جبل وغابة قبائل بني زناسن المطلة على البحر الأبيض المتوسط ، والمعانقة لجبال الزكارة وغيرها من الجبال الواقعة جنوبا سأقف على الجانب الديني للبيئة الجبلية والغابوية من خلال كتاب الله عز وجل . وقبل ذلك أشاطر أستاذي الفاضل حسرته على تدمير هذه البيئة الذي يعني تدمير الثقافي والديني فيها أيضا ، ذلك أن جبال بني زناسن التي كانت تكسوها الغابات الكثيفة صارت جبالا قاحلة دمرها الاحتطاب الأخرق وصارت فحما التهمته النيران دون أن يحفل الناس بالكارثة التي أصابتهم في عمق دينهم وعمق ثقافتهم وقيمهم . فعندما نقرأ القرآن نجده قد خصص حيزا مهما للحديث عن الجبال والشجر . فالقرآن الكريم يضفي على الجبل قدسية ، ذلك أن الله عز وجل اختار أن يكلم رسوله موسى عليه السلام عند جبل وشجرة مصداقا لقوله تعالى : (( فلما أتاها نودي من شاطىء الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة )) ولما طمع موسى في رؤية ربه أحاله على جبل فقال : (( ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني )) . وكذلك أوحى إلى حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء بجبل . وكشف لخليله إبراهيم عليه السلام كيف يحيي الموتى في جبل حيث قال سبحانه : (( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا )) . وسخر لنبيه داود عليه السلام الجبال تسبح معه فقال سبحانه : (( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير )) كما قال : (( إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق )) . وكانت الجبال من المخلوقات العظيمة الجبارة والمتواضعة في نفس الوقت لخالقها والمقابلة للإنسان المخلوق الضعيف وفي نفس الوقت المستكبر مصداقا لقوله تعالى : (( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا )) . وتسبح الجبال بحمد ربها وتسجد له مقابل استكبار الإنسان عن التسبيح مصداقا لقوله تعالى : (( ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر وكثير من الناس وكثير حق عليهم العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم وإن الله يفعل ما يشاء )) فكان بالإمكان أن يستغني الله عز وجل عن ذكر الجبال والشجر بذكر الأرض قبلهم ،لأن سجودها له من سجودهم ، ولكنه ذكرهم بعدها لتمييز سجودهم عن سجود غيرهم ممن يوجد في الأرض . ولا يسجد المخلوقات للخالق سبحانه سوى الخشوع ، وهو ما وصف به الله عز وجل الجبال في قوله : (( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله )) . وضرب الله مثلا لخشوع الجبال عند سماع نسبة الولد له تنزه سبحانه وتعالى عن الولد والوالد فقال : (( وقالوا اتخذ الرحمان ولدا لقد جئتم شيئا إدا يكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمان ولدا وما ينبغي للرحمان أن يتخذ ولدا )) . فمثل هذا القول الباطل مكر بشري يزيل الجبال بالرغم من عظمتها مصداقا لقوله تعالى : (( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال )) . وأما دور الجبال في البيئة فقد صوره القرآن الكريم تصويرا دقيقا في مثل قوله تعالى : (( ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا )) ، ومعلوم أن الأوتاد هي دعامة المهاد وإلا لما كان المهاد . ولا يقتصر دور الجبال على إرساء المهد من الأرض بل جعل فيها الله عز وجل متاعا للبشر وللأنعام على حد سواء مصداقا لقوله تعالى : (( والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم )) . ومن متاع الجبال أن تنحت فيها البيوت والمساكن مصداقا لقوله تعالى : (( تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا )) .ومن المستغرب أن يدل الوحي على طبيعة البناء في الجبال وهي النحت كما اهتدت إلى ذلك أمم سابقة في حين ينهج الناس اليوم في الجبال نفس نهج البناء في السهول . وكم وددت لو أن الجبال نحتت بيوتا في زماننا للسياحة عوض أن تثقب وتخرب لاستخراج القضيض الذي تعبد به الطرق أو تسقف به المساكن . وكم هي جميلة البيوت المنحوتة في الجبال لقوم يعقلون ، ولولا ذلك الجمال لما جاء ذكرها في سياق استعراض نعمة الله عز وجل على ثمود قوم صالح عليه السلام الذين خلفوا عادا قوم هود عليه السلام . ومما جعله الله تعالى نعمة في الجبال قوله تعالى : (( والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا )) ومعلوم أن الظلال ذات علاقة بالشجر والجبال. والأكنان وهي مفرد كن عبارة ستر يستكن أو يستتر فيه الإنسان ،وفيه ظل أيضا . وكما وجه الله تعالى البشر إلى الجبال والغابات وجه غيره من المخلوقات كما جاء في قوله تعالى : (( وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون )) . وفي ذلك أيضا توجيه للبشر للبحث عن مصادر شراب النحل اللذيذ الذي جعل الله تعالى فيه شفاء للناس في الجبال والغابات حيث ألهم الله تعالى النحل ليتخذ بيوته فيها . وذكر الله عز وجل الجبال في معرض تشبيهات بليغة من قبيل قوله تعالى : (( وهي تجري بهم في موج كالجبال )) حيث شبه موج الطوفان زمن نوح عليه السلام بالجبال ، وهو موج أعتى مما يسميه البشر اليوم » تسونامي « ولو أصابوا في التشبيه كما قضى بذلك الناقد المرزوقي رحمه الله صاحب عمود الشعر لقالوا « أمواج كالجبال » لأن أمواج الطوفان زمن نوح عليه السلام كانت عقابا شديدا حتى أنها غطت الجبال ، ولم ينفع ابن نوح العاصي اللجوء إلى الجبل كما جاء في القرآن الكريم : (( قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين )) الشيء الذي يعني أن أمواج الطوفان غطت الجبال ، وهذا يعني دقة التشبيه القرآني وواقعيته . وأما الغابات فلا يقل شأنها عن شأن الجبال في كتاب الله عز وجل . فالظل هو المكان الذي لجأ إليه نبي الله موسى عليه السلام كما لجأ من قبل إلى الجبل مصداقا لقوله تعالى : (( فسقى لهما وتولى إلى الظل )) . والشجرة هي مكان الرضوان الذي خص به رب العزة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقا لقوله تعالى : (( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة )) . ولا غرابة أن يجلس العقلاء الأكياس تحت الشجر من أجل الحديث في عظائم الأمور وهذا من ثقافة الإسلام .وفي معرض ذكر نعم الله تعالى على الخلق جاء ذكر الظل في قوله تعالى : (( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل )) . ومد الظل نعمة ، ولا يمتد الظل إلا حيث يوجد الشجر ، لهذا وصف الله تعالى نعيم الجنة الدائم بالظل الظليل والظل الممدود ، والظل الداني ، وتحته الأرائك في مثل قوله تعالى في وصف الجنة : (( أكلها دائم وظلها )) وقوله : (( ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا )) وقوله : (( في ظلال على الأرائك )) . وأنا أعجب من البشر عندنا الذي يقرأ القرآن الكريم ، وهو يقطع الشجر ليمنع الظل ، و لم يتعلم منه وضع الأرائك تحت الظل ، وإن قدر له الجلوس تحت الظل تخلى فيه ولوثه ، وألقى زبالته وأفسد بيئته،وحاز بذلك لعنة التنكر لنعم الله تعالى . ولقد سرد الله تعالى الظل في معرض المقارنة بين النعمة والنقمة فقال سبحانه : (( وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور )) فعمى الإنسان عندنا وهو جهله المظلم بما في ذلك الجهل بقيمة البيئة الذي يجعله يحول الظل حرورا من خلال تدمير الغابات . وأخيرا أختم بالحديث عن علاقة الجبال بنهاية العالم في كتاب الله عز وجل حيث يقول سبحانه : (( ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة )) ، كما يقول أيضا : (( يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا )) ذلك أن ذكر بروز الأرض ومور السماء إلى جانب سير الجبال علامة من علامات الساعة الكبرى . ومن ذلك أيضا قوله تعالى : (( إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا )) ، وقوله أيضا : (( يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن )) وقوله أيضا : (( وكانت الجبال كثيبا مهيلا )) . ففي كتاب الله عز وجل ما يغني الإنسان المؤمن عن الانثروبولوجيا والمثيولوجيا ، فيكفي أن يفتح الإنسان سفر البيئة بجبالها وغاباتها ليرى آيات ربه الكبرى . فمن منا جلس ساعة تأمل في جبل أو في غابة تحت ظل ؟ فلقد دمرنا الجبال والغابات ، وحرمنا أنفسنا من أن نرى آيات ربنا في الآفاق وفي أنفسنا كما دلنا على ذلك القرآن الكريم .
Aucun commentaire