Home»Régional»لـــبـزار الحــــــار

لـــبـزار الحــــــار

0
Shares
PinterestGoogle+



"لبزار الحار*"
وبعد كل ما قيل فإن للحياة همس لايفهمه إلا الفقير الذي يبسط وجهه لأعاصير الأيام وبراكينها ،يفهم ثواني دقاتها ،يعشق خريفها كربيعها ،ويمزج شتاءها مع صيفها. تغيرات المناخ لاتعني له شيئا ،ينصب حاجبيه عاليا ، يضغط على فكيه يتنهد خناجرا ،ويخرج دخان حمم يغلي .
يلمح في الفراغ أسهما تحفر في قلبه خدوش الندب. غمزات الحياة تختطفه، وتسافر به صوب المجهول في أركان ضباب، وسقف كله أطلال حروب غابرة: تنهش طموحه، تلقي به في فيافي نائية، يضل عن طريقه، يتيه عن أي نقطة أمل رسمها، يحمل في دمه غصنا ينزف من شدة جفافه. يبسطه عل أحدا يسقي هذا الغرس في الخلاء .
يحن إلى لمسة يد أمه وهي تموج شعره، نصف نائم على ركبتيها كرضيع استسلم من كثرة البكاء، وخارت حباله الصوتية من ترديد أصوات لم ينل بعدها شيئا، يريد حلوا فيجد مسحوق سكر يضعه في فمه ثم يهمد ويفشل، تمازحه أمه :
"لم لاتنحت أيامنا على صخور الكارة حتى يرمقنا الجمبع و نبدو في الاعالي…؟"

منذئذ وفكرة تدوين هذه الذاكرة وترجمتها سطورا على ورق تسكنه إذ أنه حمل على عاتقه مسؤولية تكريمها بالرغم من وعيه أن أي تجربة إنسانية هي من التعقيد والصعوبة بحيث لا يتيسر لأي أحد أن يعرضها كما هي أو أن يكون وفيا في عكسها لحظة بلحظة، ونفسا بنفس .
احتكاكه بأعمال أدبية ذات طابع كوني وجد فيها نفسه وود لو يجد الأخرون انفسهم فيما هو بصدد خطه: رائعة فيكتور هوكو "البؤساء"جعلته يتوحد مع "جون فالجون", بائس كان قدره تضميد جراح من حوله. "ابن الفقير" لمولود فرعون جذبته جذبا لداخلها فعاش بين سطورها وتقاسم حيوات شخصياتها. كان معجبا كثيرا بوجدانية أستاذ اللغة الفرنسية ابن القرية أحمد بن الطاهر الذي كان وبأسلوبه الخاص يشد انتباه تلاميذته كما لو كانوا منومبن مغناطيسيا وكيف لا وكل واحد منهم كان "جون فال حون"و "ابن الفقير "كل منهم رواية نقش القدر حروفها وكلماتها. ظروفهم المادية لم تكن تسمح بتوفرهم جميعا على الروايات. كل أربعة يتقاسمون متعة القراءة ،يتقاسمون العواطف ،يتقاسمون ذلك الجو الرومانسي الذي كان الأستاذ أحمد مركزه ومنطلقه .كانوا كواكب صغيرة تدور في فلك نجم مشع يمنحها النور يجعلها تحيا ،تنبض ولو لحين فيتوقف الزمن ويصير الفصل عالما بذاته ،وتصير المقاعد الخشبية أبسطة سحرية تطير بهم إلى عوالم بالرغم من كونها قاسية تذكرهم لامحالة بقساوة واقعهم إلا أنهم كانوا يتخدونها متنفسا :إذ أنه عندما يحس المرء بأن جزءا من البشرية يعيِش مأساته يجعله يصير الإنسان بمعناه المطلق .أي أنه يعيش إنسانيته التي لن يحتاج للإحساس بها إلى هذا المنظرأو ذاك إلى خزعبلات فيلسوف من الشرق أو الغرب – مع احتراماتي للفلاسفة وأهل الفكر – كي يجيئه بتوصيف لما يحسه في تلك اللحظات .فالتنظير شيء وأولئك الصيية المنتعلين أحذية من البلاستيك التي تصير صقيعا شتاءا وجهنم صيفا ،شيء آخر نظراتهم لم تكن كنظرات أقرانهم المحضوضين ،أعينهم كانت كتابا مفتوحا لبرائة خدشتها الأيام .كل هذا ليس بالأمر المهم كونهم كانوا موجودين يعرفون حقيقة الوجود وكنهه ،يدركونه مع كل نفس ،مع كل نبضة لقلوبهم الصغيرة التي كانت الحياة كلها ،الوجود كله .وقد يقول قائل :ما هذا الهراء ؟إنما هي أفكار طوباوية فيرد عليه يحيى قائلا :
"لكي تكون ،لابد أن تلتقي وجها لوجه بجلاذ إسمه الزمن ،لابد من أن تتلقى ملامسة سياطه لجسدك بابتسامة عريضة .هذا ليس من قبيل المازوشية ،إنما هو نوع من رد الأمور إلى نصابها ،فالوجود صار وهما لايمكن تبديده إلا بالألم .
* لبزار الحار: بهارات حارة
فذاك الفصل كان مملكة ومن فيه ملوكا وملكات ،تيجانهم إحساس مرهف بالعالم وعروشهم العالم كله .
-"ما هذا السخف يا سيد يحيى ؟كيف تعطي لنفسك الحق عن تقرير ما كان يحس به رفاقك ،أنت بااكاد مسؤول عن مجالاالوجود خاصتك ،توقف من فضلك عن هذا .توقف عن فعل شيء أظن أن مبادءك ضده كما تعلم نحن نعيش في زمن …
هيه هيه …!"–
-"دعني فقط أكمل ،ماذا كنت بصدد قوله يا رباه …؟نعم نحن نعيش في زمن تتساقط فيه المطلقات واحدا تلو الآخر ،إنه زمن نسبي …
-"هاهو قد عاد لأسطوانته القديمة ."
-"دعني أكمل يايحيى كن متحظرا يا أخي .!"
-"تفضل …!"
-"كما قلت لك كل شيء صار نسبيا ،ربما أنت في ذلك الحين كنت تتلذذ بقسوة الحياة ،ربما كنت تتلذذ بالجلد ظهرك ،هذا لايمنحك أي سلطة كي تجزم كون الآخرين كانوا يشاطرونك شعورك ذاك فهم كانوا يتألمون ،كانوا يتألمون تحت وطأة معاناتهم ،فبالله عليك من سيحب حياة كالتي وصفتها ؟"
-"هل استمعت لما قلته ؟حرمت علي أمرا ،ورخصته لنفسك .ألم تقل إن كل شيء نسبي ،فكيف تعطي لنفسك الحق في تقرير ما كان يحس به رفاقي !
ينقطع التيار ويظل صاحبينا في العتمة التي لبست ضياء الفصل، وجرّدت لآلىء التيجان من لمعانها وتسللت الى روح يحيى ورفاقه معلنة عن نهاية الحلم. انتهت حصة الفرنسية فيغادرون. وحيد في الفصل، يشعل الأستاذ أحمد سيجارة، ويستدير نحو النوافذ المطلة على حقول أولاد الغازي و المجاذبة. حاجبان سوداوان أسدلا ظلالهما على عينان غائرتان حركتهما مؤشر حساس يستشعر نبض الحياة، رأس جرداء تعلو جسدا نحيلا. هكذا كان السي أحمد يستنزف طاقته وروحه في سبيل أن تظل شعلة الحياة متوقدة داخل تلك الأطياف التي كان يتخذها غاية لوجوده.
يقرع الجرس وتبدأ رحلة العودة ،أجساد نحيلة بالكاد تقوى على المسير. وجوه شاحبة تبدو وكأنما هي لشيوخ فعل الزمن بها فعلته . وطريق طويل .
المسافة بين بيت يحيى وإعدادية إبن خلدون كانت كتلك التي كان على سيزيف قطعها حاملا حجره . بل إنها كانت أشق وأصعب: فسيزيف لايمكنه أن يكون إ لا أسطورة، عذاباته ليست إلاأسطورة ووجوده لايتعدى كونه أسطورة. أما يحيى فقد كان هناك يجر رجليه المتعبتين من عناء الأيام ،يكابر بعظامه التي بالرغم من فتاوتها بدأت تتآكل . كان يحس وكأن شيئا ما يريد أن يبقيه ساكنا ،يحاول إعاقة مسيرته .فيصر هو على المسير يدفع بكل ما أوتي من طاقة . يصارع . شيء ما بداخله يعطيه القوة ليواصل .كان يعرف لاشعوريا أنه لايجب عليه أن يلقي السلاح .ثمة قوة خفية تهمس في أذنه أن اصمد! ابق واقفا !تعالى عن الزمان والمكان فأنت من يصنعهما ،بل أنت الزمان والمكان فيستمر .ويصير جسده درعا تتكسر عليه الأمواج المتتالية .يحس بالرغبة في العيش في التنفس ،في الوصول الى البيت الذي وإن لم يكن جنة فقد كان يضم أحبته ،كان يضم أناسا هم جزءا من كيانه ،بل كانوا هم كيانه كله .
هناك يبدأ فصل سيصاحبه كضل يحوم فوقه ويقض مضجعه كل حين .كان بإمكانه أن يكون بطلا من أبطال مسرحيات شكسبير، الفرق الوحيد هو أنه لم يجلب على نفسه هذا .لن يكون "عطيلا" ،لن يكون أبدا الملك" لير" ،ليس لأنه أدنى درجة من هؤلاء لأنه لم يختر أن يكون هناك بل وجد نفسه أمام أمر واقع ،أمام اختيار قام به القدر مكانه .
_"وحيد أنت .في عالم عدواني …"هكذا كان سارتر سيخاطبه إن هو اضطلع على مسيرته .كان سيأخده بالأحضان ويلقنه دروسا في الوجودية فيجعله تابعا من أتباعه. لكن يحيى حتما سيرد عليه قائلا: " اتركني وشأني أيها العجوز… لست بحاجة لنظرياتك فواقعي أكثر تعقيدا من أن يستطيع مهووس مثلك الالمام به"
– " اسمع يا فتى! إني أعلم أنك وجودي أكثر من… يكفيني أن أرى جدوة البقاء تلتهب بداخلك، فتعطيك طاقة وإصرارا على أن تكون ، يكفيني أن أرى قوى الظلام محاولة جذبك نحوها فتقوم أنت وتكسر قيودها متوجها نحو النور ، يكفيني أن …
– " كفى .. ارحل يا عجوز فأنا لا أريد أن أكون مسئولا عن سلامتك فالاعصار قد حل"
– " أوه لقد عشت ما هو أفظع لكنني سأتركك على كل حال ، فسيمون تناديني "
– " خيرا فعلت"
يترك نفسه ينجذب طواعية خارج عين الاعصار، نحو بحر هائج مائج ، غضبه يصم الآذان يبدو وكأنه يتلذذ بعذابات الماضي التي نقشت سجلها عميقا في ذاته ، في حواسه ، في وجوده. حسرة ، تنهيدة ثم دمعة ذاكرتها محيطات الكون ان سقتها ، دمعة هي ذاكرته ،هي ماضيه الذي عمل جاهدا ان يتخلص منه في حاضره. بالرغم من كل هذا ، هو تلك البلورة الصغيرة التي كانت تناجيه تخفف عنه ، تجعله يحس أنه كائن كان ، كائن هو الآن ، وكائن لا بد أن يكون.
فللحياة همس لايفهمه الفقير،لغته لاتخضع لضوابط اللغة :المفعول به ،فعل قاس وفاعل أقسى تآمرا على إشباع ساذيتهما ،المفعول به يحيى ،الفعل والفاعل العالم بأسره .هذه جملة بالرغم من تواجد عناصرها الأساسية التي تمنحها منطقية المنظومة التي أنتجتها ،إلا أنها وبمجرد أن تلامس الواقع تتعفن وتتحلل لكونها لاتتوفر على قابلية التجانس معه .
يضع يحيى محفظته قرب مكان نومه في الغرفة الوحيدة التي امتزجت فيها أنفاس إخوته وأمه ،تلاحمت فيها أرواحهم .يهرول نحو موقظ النار (الكانون)حيث كانت والدته تسخن الماء في قدر سواده نحت طحالب بارزة كل واحدة منها مخطوط دونت عليه ألسنة اللهب الجلسات الحميمية التي جمعتهم حول إبريق الشاي المنعنع .
سلم على أمه المنهمكة في غسيل ملابسهم ،حرصت على نظافتهم ،تصارع الزمن للإيرسم أخاذيده في قلوبهم .ترد السلام وتسأله بصوتها الحنون عن يومه فيرد متأملا وجهها المشع بنور الحياة الذي تمنحها إياهم ،كانت عيناها الواسعتين تضمانه ،تداعبانه ،وتجعلانه يبتسم .
"أمي إن النار تغار منك "،تبتسم "ولما تراها تغار مني ؟"
"لأن بريقها لايرقى لبريق وجهك أضف إلى ذلك أنها تصير رمادا بمجرد أن تلتهم وقودها ،أما أنت فستضلين المنبع الذي بطاقته نعيش ."
يزداد وجه الأم إشراقا وتتعالى عن الزمان والمكان ،وتزداد شموخا وإصرارا ،تنبعث من جديد ،وتعمق من خجل ألسنة اللهب .
تدخل لطيفة حاملة دلوا من الماء جلبته من الصنبور الموجود وسط المنزل "الحوش"تفرغه في "الجفنة "حيث الملابس جاهزة كي تدخل آخر مرحلة قبل نشرها على الأسلاك الممتدة على طول فناء البيت .يبدىء يحيى كعادته ممازحا أخته سريعة الغضب .
"أهذا كل ما تستطيعين القيام به :جلب الماء في حين تقوم أمي بالعمل الشاق ".
"أصمت !وإلا أفرغت دلو الماء البارد هذا فوقك!"
"أدريها" أنا أعرفك!.."
"أوقف شيطنتك هذه واذهب لإحضار الخبز من "فران المير "
"ومن أين سآتي ب 150 سنتيما ؟"
"قل له إن والدك سيدفع له لاحقا "
"لكن أمي إننا مدينون له بعشرة دراهم ،وهو لن يقبل أن يضيف 150 سنتيما أخرى إليها .."
"حسنا ،إذهب إلى والدك وقل له أن يحضره في طريق عودته للبيت ".
يخرج يحيى مسرعا نحو حلاق الحي، حيث كان والده يمضي نهاره في لعب "الكارطة"(لعبة الورق ). يقف بباب الحلاق عبدالرحمان ويطلب منه منادات أبيه المنسجم كلية في أجواء اللعبة.المكان مليء بدخان السجائر الذي يشكل غيمة غير ممطرة فوق رؤوس الشلة .
الصور المعلقة على جدران المحل فقدت بريقها :صورة للملك المجاهد محمد الخامس. المرآة التي تتوسط المكان تعكس صورة الكرسي الذي يبدو وأن قواه لم تخر بعد لقلة الزبناء. كانت مرتاحة هناك لكونها لم تكن تعكس نرجسية الكثير من تلك المخلوقات العاقلة غير العاقلة الفانية يستدير والده وعلامات الغضب بادية على وجهه، كيف لا وقد انتزع انتزاعا من الفردوس، يقف ثم يتجه نحو يحيى مخاطبا إياه بازدراء "ماذا تريد ياولد ..!؟"
نظرات الإزدراء كانت تسحقه، أو هكذا بدا له الأمر ربما لم تكن كذلك، ربما كان الإزدراء آخر ما يفكر فيه أبوه تجاهه، إنه فلذة كبده فهو لن يسمح لنفسه ولاللظروف رغم قساوتها أن تجعله لا يبصر إلا السواد. ليس يحيى من يقع بسهولة في هذا الشراك، فتتقد داخل جسده الصغير شعلة تتأجج، تتوهج ثم يرفع رأسه وابتسامة بريئة تضيىء وجهه وينظر إلى ذللك الوجه الأسمر الحسن، وكأنما كان يرى والده لأول مرة: عينان واسعتان بؤبؤ عسلي بطيء الحركة، شعيرات حمراء في جنبات هذا المحيء شواطىءه حاجبين كثيفين انتهيا بأخاديد نحت الزمان مجراه بقوة المد الذي أصر على أن تحدث عوامل التعرية فعلتها، وجزر بعودته يفتح الجراح المبلولة. كل هذا يجعل يحيى يسخر من نفسه لكونه اعتقد ولو لثانية أن هذه الملامح قادرة على أن تزدري.
إمنحوا يحيى فرصة في زمان ومكان ما، يسترجع فيها قواه، حاليا هو موصول بمصل الحياة.
حالته مستقرة. إلى هنا نستودعكم السلام ونلقاكم حين يأذن يحيى بذلك.
ِِ

عبدالقادر الفلالي- دولة الكويت

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

1 Comment

  1. الطاهر بونوة
    01/06/2007 at 23:59

    بداية أسلم عليك من هنا ، من موطنك ، وأشكرك على هذه الخواطر والتي تنم على تعلق بالزمان والمكان والأهل والأحباب، ولعل ما أثلج صدري وفتح أبواب الأمل مشرعة أمامي هو هذه المصداقية في سرد الأحداث من لدن شاب أحسبه غادر البلدة وقد يكون انصهر في واقع آخر وفي زحمة الحياة قد ينسى الماضي وانعطافاته ،إلا أن ظني غدر بي ووجدت نفسي أمام رجل منصهر في بداياته .فشكرا أخي يا من أيقظت في حب تلك الأوطان ، وأنا ممنون لك على وفائك ليحيى والأستاذ أحمد، وعلى ماذكرته من معالم البلدة.كما أتمنى أن يأذن لك يحيىكي تطل علينا من هناك بمثل هذه الرائعة.
    وأخيرا أجدد لك التحية والمحبة والوفاء وإلى لقاء قريب إن شاء الله.
    matha-05@hotmail.com

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *