من وحي الدخول المدرسي الجديد
أعتقد أن الحظ كان إلى جانبي هذه السنة حين وجدت نفسي مدرسا للمستوى الأول إبتدائي ،المناسبة التي كانت بالنسبة لي سانحة للتعرف عن قرب على تلميذ هذا المستوى وملامسة بعض الظواهر والأشياء التي تفسر بعض أمراض مدرستنا اللا منتهية .جميعنا نعرف حساسية هذا المستوى ودوره الخطير على المسار التعلمي المستقبلي للتلميذ , فمن خلاله يكتشف هذا العالم الغريب الغامض الذي طالما سمع عنه عن طريق أبويه أو من خلال أحاديث إخوته الأكبر سنا .
يأتي الطفل إلى المدرسة حاملا معه براءته وعنفوانه وطريقة للتصرف والسلوك تعلمها في الأسرة والشارع ، لكن المدرسة بقوانينها وأعرافها تجبره على التصرف على نحومغاير لتقبل به بين أحضانها ، عليه إذن التخلص من الكثير من شغبه ومشاكساته وميولاته التحررية ليستحق لقب تلميذ …من البديهي تقبل تميز واختلاف الحياة المدرسية عن مثيلتها داخل الأسرة فلكل منهما خصوصيات وإن اشتركتا في تربية الطفل ،فحتى المدرسة داخل البلدان الأكثر نجاحا في المجال التربوي تظل تحتفظ بخصوصيتها الفريدة وتضع مسافة بينها وبين الأسرة .لكن التعسف والحيف الخطير حين تجهز هذه المدرسة على الطفولة وتجبر الطفل الوالج لأبوابها على ترك طفولته خلف الأبواب.
في السنة الأولى يصطدم الطفل بعالمه الجديد ،وفيها تتشكل وتتأسس لديه علاقة وجدانيةمع هذا العالم،فقد يحبه أو يكرهه ،قد يألفه ويشعر بالراحة في أحضانه أو يحس بنفسه غريبا عنه وسجنا أرغم على العيش فيه إرغاما .إن صنع النجاح والتفوق المدرسي يفرض قبل كل شيءوجود هذه العلاقة الإيجابية …فلانجاح مع وجود الكره والنفور والإجبار …على مدرس هذا المستوى أن يكون إنسانيا رهيف الحس ومقدرا ومعتبرا لحاجات الطفل وما يكتنزه من طاقات وما يختلجه من مشاعر .
كانوا براعم في قمة الروعة والجمال ،وجوههم الخائفة الحائرة وعيونهم المتلألئة المتيقظة وهم يترصدون كل حركة من المدرس وكل
إشارة أو إيماءة أو كلمة ،الخوف الذي استوطن أجسادهم الصغيرة في اليوم الأول جعلهم بلا حراك ويبدون كدمى. لكن نظراتهم الثاقبة توحي بطموح كبير ورغبة جامحة في التعلم والمعرفة . قلت في نفسي :إنها لجريمة نكراء لا تغتفر أن نقضي على حلمهم ونكذب عليهم بالشعارات الجوفاء ونوهمهم بالنجاح بينما نحن ندفع بهم إلى الفشل دفعا :هدرا وتكرارا وتسربا وانقطاعا عن الدراسة …أما الذين ينجحون في تذليل العقبات وتجاوز المراحل يستفيقون بعد أن يكون قطار العمر قد شارف الثلاثينات دون مستقبل مضمون .وحين يحتجون على الدولة التي أضاعت عمرهم دون جدوى على مقاعد مدارسها تحت مسمى « معطلون « تنهال عليهم الهراوات وتجهز على ما تبقى من كرامتهم ، أليس هؤلاء ضحايا نظام تعليمي فاشل ؟
من فوضى الشعارات والمشاريع الوهمية يظهر الواقع بوجه مغاير .فتلاميذ السنة الأولى الذين كان من الواجب إيلاءهم العناية القصوى خصوصا مع رفع شعار جميل هو « جيل مدرسة النجاح »‘ يتركون لمصير مجهول .فالإكتظاظ أصبح ظاهرة صحية ولا تثير أي إشكال لدى المسؤولين .هل يتقبل منطق تحقق النجاح في قسم يضم 40تلميذا أو أكثر؟ومن يكون هذا المدرس الذي باستطاعته إنجاح هذا العدد الهائل علما أن كل تلميذ يحتاج إلى عناية خاصة ؟
تلاميذ السنة الأولى الذين كانوا يستفيدون من كل مستلزمات الدراسة كبادرة دأبت عليها الدولة منذ سنين لتشجيع التمدرس والإقبال عليه أصبحوا الان مجبرون على المساهمة في شراء مستلزماتهم (قراءة،تربية إسلامية ،أدوات).هل هو تنصل تدريجي من واجب دافعه التقشف و الرغبة في شد الحزام؟أم لأن الشعار قد بدأ يفقد بريقه؟
هؤلاء الأطفال وجدوا على الأقل مقعدا في المدرسة أما من هم أسوأ حظا من أقرانهم في قرى نائية كثيرة فقد تحولت مدارس قراهم إلى ماثر تاريخية منذ مدة وفي انتظار مشروع اخر قد يعيد إليها النشاط والحياة فما بيدهم حيلة سوى الرجوع إلى نشاط القرية القديم : رعي الماشية.
30.09.2011
Aucun commentaire