Home»Régional»كان …يامكان

كان …يامكان

1
Shares
PinterestGoogle+

كانْيا مَكانْ

كعادته استيقظ فجرا.صلى صلاته وجلس يقرأ ما تيسر من القرآن الكريم ثم شرع في تصفح الجرائد لأنه لم يجد الوقت الكافي لقراءة آخر الأخبار في اليوم الفارط ثم هيأ وجبة الإفطار.الساعة السابعة،أيقظ أبناءه وساعدهم في تهييئ أنفسهم .دون أن يزعج زوجته لأنه يعترف أن يوما شاقا في انتظارها.أخرج سيارته ثم أوصل أبناءه إلى مدارسهم وكلياتهم.دقت ساعة البلدية دقاتها الثمانية وهو جالس على مكتبه ينظم ما تشعث من ملفاته.لم يفكر في أن يعرج على المقهى قليلا، كما يفعل الكثير من زملائه بل جلس في صبر ينتظر إطلالة أول مواطن .تقاطروا على مكتبه أحاد ومثنى وثلاث ووقفوا في طابور طويل .لم يتجاهلهم أو يخفي وجهه بين الأوراق أو يتظاهر بالنوم والمرض أو ينشغل بالحديث في "الجوال".بل كان يوزع ابتساماته عليهم ويخاطبهم بكل لباقة وظرف.فيبدأ في قضاء أغراضهم الإدارية وتعبئة ملفاتهم بكل دقة وعناية ويطلب منهم العودة بعد ساعتين لا بعد يوم أو يومين.

يدخل على رئيسه المباشر يحييه بكل أدب ويطلب منه التوقيعات.لا يتملقه ولا يطلب منه أغراضا شخصية أورخصا استثنائية.ولايغتاب زملاءه الذين ملأوا المقاهي ومعاطفهم تلتف بعناية على الكراسي الفارغة، ولا زميلاته اللواتي تركن حقائب اليد على المكاتب في حين تراهن تسرحن وتمرحن في "الجوطية" أو عند "الشوافات" أو تعدن إلى منازلهن لتحضير الغداء وترتيب البيت.يفعلون ويفعلن ذلك دون أن يرف لهم جفن، أو تهتز منهم شعرةبأنهم إنما يسرقون وقت المواطن وأموال الشعب ويُدخلون السُّحت إلى جيوبهم .ودون خوف أو وجل من التفتيش المفاجئ فقد تركوا أحدهم ليعلمهم بالهواتف النقالة إذا داهم الإدارة خطر ما.أما قصة "الله يرانا" فقد مضى عهدها مع صاحبها الأستاذ أحمد بوكماخ رحمة الله عليه وعليها.

قبيل صلاة الظهر يخرج من مكتبه تجاه أقرب مسجد ليؤدي صلاته. ولا يفكر بعدها في قراءة بعض آيات الذكر الحكيم لأنه في وقت العمل والفرض أولا ذلك ما قاله مفتي القناة الفضائية.ثم يعرج على أقرب مطعم فيأكل أكلة خفيفة .تكفيه لكل هذا نصف ساعة .يعود بعدها إلى عمله في كامل نشاطه دون أن يتلصص على مكاتب الموظفات ليبحث عن لقمة شاردة أو لتشمم ما جادت به "طنجراتهم" فقد تحولت المكاتب إلى مطابخ ولا رقيب.أليس الكل يطبخ بطريقته الخاصة.

يجلس على مكتبه يأتيه العون بالجرائد يخفيها في محفظته ليقرأها مساء في منزله.لا ينهب وقت الإدارة في ملء خانات الكلمات المتقاطعة أوالمسهمة بل يجلس في انتظار أفواج المواطنين التي تغض الطرف عن جموع الموظفين الذين يملأون الردهات بقهقهاتهم العالية أو يتكورون على مكاتبهم لأخذ قسط من الراحة،المساكين يعانون الإرهاق الدائم والشيخوخة المبكرة.تتركز عيون المواطنين عليه وهو يعمل بكل جدية وخفة عيون يشي بريقها بحب مفقود بينهم وبين الإدارة ، أما هو فيبادل الجميع حبا بحب.ولكم تتورد وجنتاه خجلا عندما يحين وقت الخروج والطابور لا زال طويلا فيطلب منهم الحضور صباح الغد بكثير من الإحراج والشفقة.

قد يحاول بعضهم دس ورقة نقدية في يده ولكنه يردها بكل لطف ،ويفهمه أنه خادم أمين لكل المواطنين وأن الدولة تعطيه أجرا على ذلك.وقد يبالغ أحدهم في سبه محاولا جرح كرامته ولكنه أحلم من الأحنف بن قيس وتراه دائما يردد:…سلاما…سلاما…والابتسامة لا تفارق وجهه.ثم يغلق مكتبه لأن الجميع قد انصرف حتى الأعوان منذ مدة طويلة.فتتردد دقات حذائه الجادة في الردهات الفارغة.ويحيي حارس الباب الخارجي بكل احترام معتذرا عن التأخير عندما يلاحظ طيف امتعاض في وجهه.

في طريق المنزل يشتري بعض الحلويات لأولاده وبعض الزهور لزوجه ويسير ،بسيارته على مهل محترما كل قوانين السير .فلا يجري بسرعة جنونية ولا يتجاوز السيارات ،ويعطي حق الأسبقية، ويعطي الفرصة للراجلين لكي يعبروا الطريق بكل أمان دون أن يعير السمع للأبواق المتعالية، فلا يتعصب ولا يلعن أو يسب، ولا يرد على إشارات السائقين المؤذية بحركات أشد.

يقبل أبناءه وزوجه ويسألهم عن أخبار دروسهم وكيف قضوا نهارهم. ويأكل ما أعد له دون ملاحظات تذكر بل يمتدح طريقة طبخ زوجه رغم مرورأكثر من عقدين على زواجهما.ثم يأخذ قسطا من الراحة دون أن يفكر في الذهاب إلى المقهى للعب "الرامي" أوتعبئة مطبوعات "التيرسي" أو ممارسة هواية "التبركيك" بل يبقى في البيت ليساعد أبناءه في حل واجباتهم أو قراءة الجرائد أو مشاهدة الأخبار.إنه موظف المدينة الفاضلة.

أم بثينة

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

6 Comments

  1. يحي
    02/03/2007 at 10:57

    الاخت الكريمة بارك الله فيك . أتساءل كم هو عدد الموظفين الدين يشبهون بطلك ؟ والسؤال الدي يطرح نفسه وهدا من باب النقاش .كيف يمكن ان نهيء موظفا بل مواطنا من هده الطينة ؟ هل هو خلل في التربية والسبب يرجع في هده الحالة الى الاسرة والى المجتمع ؟ أم أن المسؤولية هي مسؤولية أفراد ؟ أعتقد أن مجتمعا يبعد المسؤولية عن أفراده الرسميين منه و عامتهم وفي أي مستوى من المستويات خصوصا منها المناصب العليا مجتمع يشجع على بقاء الاوضاع كما هي عليه .بل ويجعل دلك دريعة للمتهاونين واللامبالين مما يؤدي الى استمرار الظواهر المشينة داخل المجتمع والدوران في الحلقة المفرغة . .. دمت في رعاية الله. والسلام.

  2. متتبع
    02/03/2007 at 21:19

    لن اقول شيئا ما دمت قد حددت جغرافية تموضع البطل (انه موظف المدينة الفاضلة )

  3. شهرزاد الاندلسي
    02/03/2007 at 22:30

    انها قصة رائعة اختي ام بثينة …وطريقتك رائعة في السرد لقد شدتني الى نهايتها …اتمنى ان يكون هذا النموذج في بلادنا ليكون قدوة يحتدى به ومن وجهة نظري ان اصلاح امة تحتاج فقط الى اصلاح النفس البشرية للفرد …ولنفكر جميعا لماذا نقلد اشخاصا في تصرفاتهم وسلوكم المنحرف ولا نقلد الاشخاص ذوو النفس الطيبة والاخلاق الحميدة ؟؟؟….
    اشكرك اختي ام بثينة على هذا المقال ودام قلمك .

  4. أم بثينة
    07/03/2007 at 11:54

    أخي الفاضل يحيى ،زادك اللهم بسطة في العلم وصحة في البدن وسناء في الرتبة. يحق لك أن تتساءل عن عدد الموظفين الذين يشبهون هذا البطل الخيالي الفار من المدينة الفاضلة التي لاوجود لها إلا في عالم المُثل. ويحق لك التساؤل أكثر عندما تلقي بك الأقدار التي ليس لأحد مع اختيار بين جماعة من الموظفين »البانضية » الذين يراقبون حركة يديك نحو جيوبك أكثر مما يتفحصون الأوراق التي بين أيديهم. هل هذا هو تخليق الإدارة؟ والسؤال المر الذي يطرح نفسه بإلحاح ،هو سبب تفشي هذه الظواهر الاجتماعية الخطيرة. أشكرك الشكر الجزيل على ملاحظاتك القيمة وعلى تتبعك.وتحية إبداعية.

  5. أم بثينة
    07/03/2007 at 11:54

    عزيزتي شهرزاد الشكر موصول لك على القراءة والتعليق.ولكم أتمنى أن أتعرف عليك شخصيا.دامت تعليقاتك و دام قلمك الجاد. ومزيدا من العطاء.

  6. فريدة
    07/03/2007 at 11:55

    أقول لحضرة المتتبع الذكي أن الذاتات السابقة أكثر رحمة من كان ياماكان. فتأملها جيدا وأعد القراءة من فضلك.أم أن أقصى ما يهمك هو ذكر أسماء المواقع الجغرافية والتاريخية في المدينة ؟ فأسخف ما نحمل يا سيدي الأسماء. وشكرا على تكرمك ومنتك .(لن أقول شيئا…)

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *