من الأخطاء الشائعة الى الأخطاء القاتلة
من الأخطاء الشائعة الى الأخطاء القاتلة
عندما قررت كتابة هذه المقالة لم يكن الهدف أن أمارس نوعا من الرقابة على كل تلك " المدونات les blogs" سواء منها ما نقرأه على بوابات الانترنيت أم ما نقرأه على نوافذ الجرائد, أو أصادر حرية أصحابها في التعبير عن آرائهم أكثر مما هي مصادرة, أو أكمّم أفواههم, أو أكسر ما تبقى لهم من أقلام رصاص. تلك حرب لها رجالاتها وكلابها المدربة. كل ما هنالك أني شعرت باستفزاز رهيب لتعابيرنا اللغوية الصحيحة وبظلم لا نظير تتعرض له لغتنا العربية الفصحى على يد بعض المدونين, فقررت أن أوضح بعض الأمور.
وهنا أتذكر أستاذا لمادة علم اللغة حين قال " لن أكون متسامحا مع أي طالب في شعبة اللغة العربية وآدابها ويخطأ في تعابيرها اللغوية والنحوية". وكانت علاماته تصل إلى أربعة أو خمسة من عشرين, لأن سلم التنقيط عنده كان لا يقتصر فقط على المحتوى الفكري للجواب, بل كان يحاسب طلبته على كل حرف ناقص, وعلى كل همزة طائشة, وعلى كل رفع أو جر أو نصب في غير محله . وعندما كانوا يحتجون على تلك العلامات, يجيبهم بكل بساطة :" أنا من دعاة التصحيح " شخصيا صدقت دعوته ودعوة كل التصحيحيين والتقويميين والغيورين على هذه اللغة, وفهمت أيضا أن هذا الأستاذ وجماعته لم تكن رغبتهم هي إحباط طلبتهم ,وجعلهم يكررون السنوات مجانا, بل أرادوا أن يطمئنوا على لغة سليمة في عقول طلاب سليمين, وهمهم أن ينقلوا تراثا سليما إلى جيل سليم.
وعلى ذكر التصحيحيين والتقويميين, فهم يعتبرون لغة الصحافة- من جرائد وصحف وتلفزيون ومدونات- الأكثر وقوعا في الأخطاء. مما جعلهم يتحركون ويرفعون أقلامهم في وجه أي تحريف أو زلل, حتى لا تؤول الأمور إلى ما لا تحمد عقباه. فمنهم من صنف كتبا بحالها, ومنهم من خصص مقالات بعينها ,ومنهم من صرخ على الشاشات بأرضياتها وفضائياتها, وقدموا للناس برامج تقوّم لسانهم العربي .فعنونوا مقالاتهم وكتبهم وبرامجهم باسم: الأخطاء الشائعة التي يجب علينا أن ننتبه إليها ونصححها.وسميت كذلك لأن أغلب الناس تعودوا على سماع مجموعة من التعابير والكلمات, واستعملوها في كتاباتهم و شاعت بينهم حتى ظنوا أنها سليمة وصحيحة. لكنها في حقيقة الأمر هي أخطاء لا علاقة لها بلسان العرب. فقدم لنا هؤلاء العلماء والباحثون- جزآهم الله خير الجزاء – نماذج كثيرة :
كأن نقول : سواء… أم…. ولا نقول سواء…أو / "سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم "
-نقول المسألة غير المهمة ولا نقول المسألة الغير المهمة .
-نقول مديرون ولا نقول مدراء لأنه اسم فاعل من أدار يدير فهو مدير .ولا يجمع على فعلاء إلا ما هو على وزن فعيل مثل وزير و سفير…
وهناك عبارات ليست من كلام العرب جملة وتفصيلا مثل:لعب فلان دورا مهما. والصواب :لفلان دور مهم. والأمثلة كثيرة لا يتسع المجال لذكرها .وعلى ما يبدو فإنه لا توجد جريدة أو مجلة في وقتنا الراهن لم تقع في مثل هده الأخطاء إلا من رحم ربك .حتى أن هناك من ذهب إلى إيجاد بعض التبريرات والتخريجات من قبيل رب خطأ شائع خير من صواب مهمل أو من قبيل أن هناك لغات تأثرت بلغات أخرى نتيجة تقارب تاريخي أو جغرافي استعماري الخ الخ . لكن إذا كانت هذه الأقوال قد أسعفتنا-إلى حد ما – في تبرير الأخطاء الشائعة, فأي قول يا ترى سيسعفنا في تبرير الأخطاء القاتلة؟! ومن سيتقبلها منا؟! أو يغفرها لنا ؟! وهذا هو بيت القصيد في هده المقالة.
وحتى يكون المثال واضحا أمامنا دعونا نتجه جميعا نحو "blog " السيد ميلود الشلح" على صفحة "فوريم " من جريدة المساء لمديرها رشيد نيني, الذي نكن له كل الاحترام والتقدير . لكن هدا لا يمنع أن ننبه لما يقوم به "السيد ميلود" وهو يطل علينا كل مرة من شرفة الجريدة التي احتلت –منذ ظهورها – مكانة متميزة في قلوبنا وليس على الرصيف كما وصفتها جريدة الاتحاد الاشتراكي .قلت يطل علينا "السيد ميلود" بمدونته ومراهقاته وعربداته وأخطائه القاتلة.و ليس بعيدا أن يكون هدا" le blog " من جملة ما بنت عليه جريدة الاتحاد الاشتراكي نعتها. ولو أني وجدته في جريدة من جرائد الرصيف الحقيقية ما كان سيكلفني كل هدا الاهتمام, كنت صنفته مع باقي الكتابات والجرائد التي لا تصلح إلا لكي يلف بها "السيد ميلود" قطع "الزبدة" أو "شتلات النعناع" أو يتركها طعما لفئرانه وانتهينا …لكن وجود هذا "le blog " بجريدة يقرؤها الآلاف وخطابها منفتح على شريحة مجتمعية كبيرة مسألة فيها نظر …فصاحبنا يكتب بلغة فريدة من نوعها لغة احترت في أي خانة سأصنفها:أفي خانة الفصحى؟ أم في خانة العامية/ "الدارجة"؟. لكن كلتا الخانتين لم تقبلا بها . وبقيت خارج التصنيف , فكل ما قام به السيد" ميلود " أنه أتى بعبارات من العامية المغربية وأخضعها لتصريف فصيح, وهي الطريقة التي لم يستسغها فهمي و يتقبلها فكري وسميتها بالأخطاء القاتلة. وحتى نكون واضحين دعونا نعود بالضبط الى ذكريات مراهق5 جريدة المساء عدد51 الجمعة06/11/2006. ونتتبع بعض العبارات التي جاءت في المقالة:
-خذ ابنك إلى اقرب محلبة ليسرح قرجوطته…
-لا تزرب يا ابني قبل أن تكمل الدواء…
-عندما تركني أقسي في المحلبة…
لم تنفعني تلك الخناشي من الدواء التي صرطتها…
يقاضي الطبيب الذي كشطه بالفن…
اكتفى في النهاية بان يدعوه إلى الله ويكمدها في قلبه…
جاءت العطلة الصيفية وأنا كاره لها…
تمنيت لو تستمر الدراسة حتى في الصيف…
أما عن العذاب والتكرفيس فلا تسأل…
وصرخ في وجهي لأضرق كمارتي…
فتحت عيني وافقت متأخرا للأسف…
فور قراءتي لهذه العبارات تذكرت شريطا أرسله إلي أحد الأصدقاء عبر "المسنجر" فلما فتحته سمعت شعرا لم يسبق لي أن قرأته لا في معلقة ولا في مفضلية, ولم أسمعه من أي شاعر قديم أوحديث, ولكن يبدو ان صاحبه ينتمي الى طبقة الشعراء" الصعاليك لدرب غلف " يقول:
الأيام التي تدوز لا نلقا أبحالها.
ولو بالريق الناشف.
أبا الأوطا أبا الفوطا.
شنببمق شنمقمق
خ أع أع
إذا لم تحبيني والزمان شرم برم
فليس لي بك حاجة والزمان طري للي.
حينها لم أتمالك نفسي من شدة الضحك وهي مزحة من صديق مشكور عليها.
لكن لو أنني لم ألمس إصرارا عنيدا ورغبة ملحة عند "السيد ميلود الشلح" في تدوين مذكراته وبدله لجهد كبير في استحضار العبارات ووجود ذاكرة قوية تسرد كل تلك الشؤون الصغيرة, لقلت أنها كتابات من أجل المزحة والسخرية تماما كصعلوك "درب غلف ".ولنفترض أن "الأديب ميلود الشلح" كان ينوي تأسيس كتابة ساخرة من نوع جديد, لكني أجده قد فشل فشلا ذريعا في ذلك, تماما كما فشل" الخياري" على طريقة " القلب المبتذل للكلمات "و" رمي البابوش". ومن منا لم يستعجل نهاية رمضان ليس بسبب الجوع والعطش أبدا- فذلك له أجره وثوابه-ولكن استعجلناه حتى نرتاح قليلا من الصداع النصفي الذي سببه لنا "الخياري" وخاله "عمارة" ونرتاح من البأس الذي أتحفتنا به سلسلة " والو باس ".فهل نحن بحاجة الى شيء مثيل أو شبيه على صفحات جرائدنا المفضلة ؟؟..
ودعونا الآن نوجه السؤال الى الأستاذ رشيد نني: هل هدا النوع من الكتابة يقارب في شيء دلك الحلم الذي ظل يراودك في إصدار منبر صحافي يتحدث "بالدارجة المغربية" حتى يشمل شريحة عريضة من القراء تمتد من الوزير الى" السيرور "؟؟؟ وهدا ما كان قد ورد في إحدى أعمدة "شوف تشوف" تحت عنوان "مجلة بالعربية تعاربت". شخصيا عندما قرأت المقالة فسرت دلك الحلم بالرغبة في إصدار صحيفة عبارتها بالعامية, وأفكارها من العامية, وتركيب جملها بالعامية, تماما كما نستعملها في قاموسنا اليومي, وتفكيرنا "الدارجي", ولا تشبه اللغة العربية الفصحى إلا في رسم الحروف وليس في طريقة تفكيرها أو تصريف أفعالها أو تركيب جملها , زيادة على شرط أساسي وضروري هو أن نشير للقارئ أن هذه كتابة عامية /"دارجة". هنا أكون متفقا تماما كما اتفق مع الأستاذ رشيد نيني في استعمالاته للعامية بطريقته الساخرة, وفي إدراجاته للأمثال الشعبية التي تزخر بها "دارجتنا" أو استعماله " للعبارات المسكوكة" كما يسميها اللسانيون, والتي لها مفاهيم ومعاني أوسع وأشمل. كأن يقول مثلا "من لحمارة للطيارة", فهذه العبارة تستعمل كما هي ولا يمكن لأي عبارة أخرى أن تحل محلها, لأنه لو ثم دلك ستفقد معناها الأوسع و الأشمل, لأن الدال "لحمارة" والدال "الطيارة" لا يتوقفان عند المدلول "لحمارة" والمدلول " الطيارة", بل تلخص العبارة- في التفكير الشعبي- مسار ذلك الإنسان الوصولي الذي أحرق المراحل فانتقل من مستوى عيش بسيط جدا وسيلة المواصلات فيه هي الأتان "أنثى الحمار " الى مستوى عيش رفيع جدا وسيلة المواصلات فيه هي "الطائرة ", وما يعقب هدا التغيير المفاجئ من أحداث وطرائف. ولو قلنا: "منَ الحِمارَة إلى الطّائِرة "وحاولنا نطقها على شاكلة اللغة الفصحى تكاد لا تعني شيئا, لأنها بكل بساطة لا أساس لها في تفكير اللغة العربية الفصحى. نفس الشيء إذا حاولنا ترجمتها الى الفرنسية , أو الى الإنجليزية ,أو الى أية لغة أخرى في العالم. ولن يفهما إلا من اعتاد التفكير "الدارجي المغربي" وألف سماع هدا المثل. لكن صديقنا "ميلود" اختلط لديه الحابل بالنابل ولم يقدم لنا أية إشارات من قبيل أين تبتدئ لغته الفصحى وأين تنتهي وأين تبتدئ "دارجته" وأين تنتهي .ومن هنا كان منبع تخوفي على القراء خاصة من الجيل الجديد الذي يطّلع على مثل هده الكتابات, فيظن أن فعل " يقسي" موجود في اللغة العربية وجملة " اضرق كمارتي " وجملة " يسرح قرجوطته" وجملة " كشطه بالفن " وجملة "يكمدها في قلبه ".وإذا استمر الحال على هدا المنوال ليس بعيدا أن يخرج إلينا صعلوك آخر ينضم على بحر خيالي يسميه البحر "المتفطح" ويخبرنا أن وزنه :"متفطح متفطحات///متفطح متفطحات".إنه أمر مخجل فعلا. ففي الوقت الذي نجد فيه بعض المدونين المصريين قد شكلوا ثورة جديدة في أساليب المعارضة, فضحوا بها أشكال التزوير الحكومي, وصوروا التهميش الطبقي وشدوا إليهم أنظار العالم وكاميرات "الجزيرة", نجد بعض المدونين المغاربة قد شكلوا ثورة على ما تبقى لنا من الفصحى. ولكم أن تتصوروا خطر هده الأخطاء القاتلة.
إن العملية الأساسية في الكتابة هي عملية التفكير, فكل لغة أو لهجة لها وعاؤها الفكري: فالعامية وعاء لتفكير عامي, والعربية الفصحى وعاء لتفكير عربي فصيح, والانجليزية وعاء لتفكير انجليزي … وعليه فإن أي اختلال في هده المعادلة سيتسبب في مهزلة وليس في كتابة. وهنا ترجع بي الذاكرة الى البدايات الأولى لتعلم اللغة الانجليزية واستحضر مقولة أستاذة المادة وهي تنصحنا بان نحاول التفكير بالانجليزية try to think in English " " أما إذا فكرنا بعقلية عامية فسنخلص الى عبارات تضحك أكثر مما تترجم ما نريد قوله, تماما كتلك النكتة المتداولة حول الطالب الذي طردته أستاذته من القسم :"go out " فرد عليها:
: I’m going going when I catch your mother in the street I well kill you
فهدا الرد ليس له من الانجليزية غير العبارات المترجمة حرفيا, أما فكرتها فهي من العامية :"أنا ماشي ماشي منين نشد يماك في الطريق غادي نذبحك "
وأخيرا وليس آخرا لا يجب أن يفهم مما أسلفت أني ضد استعمال الدارجة في الكتابات بشكل كلي, فقط علينا أن نكون صرحاء مع أنفسنا ومع القراء, ونضع كل شيء في مكانه عندما نكتب بالعامية نعطي إشارات لدلك. وعندما نكتب باللغة العربية الفصحى علينا أن نلتزم بقواعدها وعباراتها, ولا نخلط الأمور. لأن العملية بصفة عامة هي عملية تداول واخذ. فلا نتداول المغلوط حتى لا يؤخذ عنا المغلوط.فقديما حذر علماء اللغة من اخذ اللغة عن"الصحفي" فلا نضطرهم مرة أخرى ليحذروا من أن تؤخذ اللغة عن "لبلوجي" وبه وجب الإعلام والسلام .
Aucun commentaire