عقلانية و تنظيم المعلومات
ليست كثرة المعلومات هي المعرفة الوجيهة؛ و ليست لهذه الأخيرة أية علاقة بالمبالغة في الترميز أو التعقيد. إن المعرفة الوجيهة هي تلك التي نتعرف من خلالها على القدرة على تنظيم المعلومات وتأطيرها ضمن سياقها الذي يبقى أهم من المعلومات في حد ذاتها. إننا نتلقى معلومات كثيرة من القسم، ولكننا لا نستفيد منها إلا إذا كان عمل الاستاد متقنا ومنظما و استطاع تأطير تلك المعلومات التأطير الوجيه الذي يحولها من مجرد معلومات متفرقة حول الحدث إلى معرفة بالحدث. فإذا أخذنا، مثلا، حالة النزاعات…. ، فمن الواضح أنه لا يمكن لمن لا يستطيع استحضار الخلفية للأحداث ، أن يفهم شيئا. ففي هذه الحالة، حالة غياب التأطير، تكون المعلومات مجرد أخبار متفرقة تسقط كالمطر و ليست لديك فرصة لتنظيمها والتحكم فيها.
إن المعرفة الوجيهية هي التنظيم الملائم للمعلومات. فإذا كان تنظيم المعلومات جيدا و مفتوحا على المتغيرات بحيث يستطيع إدماجها فإنه يولًد معرفة جديدة و يكون قابلا لإدماج واستيعاب المعطيات الجديدة. أما إذا كان التنظيم صارما ومغلقا ، فإنه يتجاهل المعطيات التي لا يستوعبها أو لا يرغب فيها، مما يشكل خسارة لما تم تجاهله.
إن مشكل تنظيم المعلومات مشكل عويص. وعوض أن يواجه تدريسنا هذا المشكل فإنه يتبنى منهاجا يفصل بين التخصصات والمواد الدراسية، وبذلك، يضعف القدرة التي تكون للإنسان لوضع الأفكار في سياقها و تأطيرها التأطير المولًد للمعنى. كان الشاعر إليوت يردد عبارة جميلة يقول فيها: "ما هي المعرفة التي نفقدها في الإخبار؛ و ما هي الحكمة التي نفقدها في المعرفة؟" و الحكمة، هنا، هي فن استيعاب هذه المعارف وهضمها لتساعدنا في حياتنا الخاصة.
لنأخذ مثالا آخر من أحد العلوم الإنسانية الأكثر دقة و تنظيما. وليكن هو علم الاقتصاد لأنه يقوم على الحساب، وهو علم دقيق و لنطرح السؤال التالي: لماذا يواجه هذا العلم الدقيق مشاكل في تنبؤاته وفي بناء نماذجه التفسيرية؟ لماذا لا يستطيع علماء الاقتصاد التنبؤ بما قد يحدث، فيتساوون في ذلك مع رجل الشارع رغم علمهم؟ طبعا لأنه لا يمكن اختزال الاقتصاد في الحساب فقط. بل هناك الحاجيات المتولدة باستمرار، وهناك الرغبات والأهواء واللذة، وهناك التخوفات والتوجسات، كل هذه العوامل تجعل عالم الاقتصاد عالما معقدا تتداخل فيه هذه العوامل سواء كانت اجتماعية أو نفسية أو سياسية أو مالية الخ. فإذا كان علم الاقتصاد علما مغلقا، فلا يمكن أن تربطه علاقة بباقي العلوم، وبباقي مظاهر الحياة الاجتماعية، وبالتالي، فإنه سيجهل كل ما لا يدخل في الحساب و كل ما لا يقبل الحساب. و ما هذا الذي لا يحسب؟ طبعا، إنه الألم، والعذاب، والسعادة، والشقاء، والإنسانية، والإبداع، والحياة.
نواجه، إذن، مشكلة حقيقية لا يمكن أن نحلها إلا إذا تبنينا فكرا علائقيا، فكرا يفكر بالعلاقات. إننا في حاجة لفكر يربط و يؤطر؛ إننا في حاجة لفكر يؤطر المعلومات ويضعها في سياقها، ويربط هذا السياق بأنظمته الكبرى التي تؤطر هذه المادة أو تلك، علما بأن النظام العام الكبير، اليوم، ليس هو النظام الوطني و لا حتى الجهوي، بل هو النظام الكوكبي. إن النظام العام هو النظام الأرضي بمعناه الأشمل.
إن كل حدث كوكبي (عالمي) يؤثر على ما هو محلي بشكل مباشر أو غير مباشر، كما أن الحدث المحلي يجد صداه على مستوى الكوكب الأرضي بأكمله. إن هذا المعطى الأساس في عصرنا هو ما يعجز نظامنا المعرفي و التربوي عن متابعته و استيعابه، فهو عاجز عن ربط المحلي بالكوني و بالكوكبي، واستخلاص النتائج التربوية لذلك. إنه لا يستطيع إدراك السياق الشمولي للمعطى المحلي أو الجهوي؛ كما أنه يعجز عن تبيًن روابط الجزئي بالكلي. إن هذا العجز هو الثقب الأسود الذي يبتلع و يعدم كل ما يمكن التوصل إليه بفضل هذا الربء و بفضل المعرفة الوجيهة التي تكون قادرة على تصور المشاكل الأساسية والشاملة في سياقها الكوكبي بجميع أبعاده ودلالاته.
Aucun commentaire