أروع البرامج التربوية في تاريخ الحركة الإسلامية 6/8
المرحلة الثالثة من الطور الأول:
وتبدأ المرحلة الثالثة من الطور الأول بالدرس الخامس والعشرين والتي تستهدف تصحيح الالتزام. وبتتبع حلقات هذه المرحلة سنعلم ما المقصود بالالتزام، إذ ليس المقصود به التزام الإسلام لأن التزام الإسلام كامن في ما تلقاه الفرد خلال المرحلتين السابقتين وهما مرحلتا تصحيح التصور الإسلامي وتصحيح السلوك الذي هو تطبيق عملي للمفاهيم والقيم الإسلامية والتزام بها. وإنما المقصود به الالتزام التنظيمي. ويتضح هذا المقصود بشكل واضح وجلي انطلاقا من أول درس، إذ نجد أول ما بدأت به المرحلة هو الالتزام بحكم الله لأن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وقد أعطى البرنامج عنوانا لهذه البداية وهو » لا تقدم على أمر حتى تعلم حكم الله فيه » والآية المختارة هنا هي أول سورة الحشر وهي قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم)
إذن هذا الجزء من الآية هو المرجع والحكم والقائد الأول الذي له السمع والطاعة وهو النص المعصوم والمقدس كلام الله وحديث رسوله المجمع على صحته. وبهذا تكون الحركة الإسلامية العاقلة في المغرب التي تأمر أبناءها بألا يقدموا بين يدي الله ورسوله، حركة ترسم منهاج التعامل مع المعطيات والأوامر والمخططات. أي أن القيادة العليا في التنظيم ليست للقيادة البشرية المنتخبة تنظيميا وما هذه القيادة إلا فرد يتصرف وفق ما تراه القيادة العليا المتجسدة في شرع الله.
وبالتالي فالتنظيم يقوم بحماية نفسه من كل زعامة متطرفة قد تتسلق كرسي القيادة لتحكم بما تهوى نفسها وتطبق ما تمليه أهواؤها وتملي ما لا يتناغم مع ما يأمر به الشرع الحنيف. وهذا يفضي بها إلى إعطاء الحق لأبنائها لعدم السمع والطاعة عندما تخرج الأوامر أو المقررات التنظيمية عما يريده الإسلام الصحيح. بل ويمنح لكل فرد حق النقد والمحاسبة من موقع أن كلا يؤخذ ويرد في فعله وقوله إلا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. كما ينشأ هؤلاء الأفراد على العلم بأن الحركة الإسلامية لا تملك الحقيقة إلا بقدر ما تمسكت بشرع الله وأصلت لأفعالها وممارساتها، وهي مجرد اجتهاد بشري في فهم الإسلام يخطئ ويصيب. ولو أن جميع التنظيمات العالمية نهجت هذا النهج لجنبت نفسها الكثير من الاتهامات سواء بالعنف أو حب الحكم أو التعطش لممارسة الإقصاء والتفرد بالرأي أو تهميش دور المرأة أو إصدار الفتاوى الخاطئة لممارسة ما يتنافى والاختيارات السليمة…
أما فيما هو خارج عن الآية أي قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم) مما هو تنظيمي وعلاقاتي يجمع بين القيادي والقاعدي داخل منظومة الشرع فلابد من التزام واحترام القائد وتقديره حتى لا يتسيب الأمر وتعم الفوضى فنجد الآية في تتميمها تقول: ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون)
فالرسول صلى الله عليه وسلم ذكر مرتين في المرة الأولى باسم « رسول الله » مضافا إلى الله أي صاحب التبليغ والرسالة أي المشرع الثاني بعد الله.
وفي الثانية باسم نبي ونعلم من خلال التعريف أن الرسول مقرون بالتبليغ والنبي بدون تبليغ مما يدل على أن الثانية دلت على شخصه صلى الله عليه وسلم كقائد لابد من احترامه وتقديره وعدم رفع الصوت عليه. والله أعلم.
أما إذا وقع هذا التجاوز التنظيمي فسيحبط العمل لأنه عبارة عن فوضى وغوغاء وعشوائية وارتجال.
وفي الحديث الشريف ما يتناسب مع الآية إذ تحدد معالمه الكبرى مما يلي:
– اجتناب المنهيات كليا أي لا نقاش في أمر الله.
– الإتيان بالأوامر حسب الاستطاعة.
– النهي عن كثرة السؤال(1)
وتتوج الموعظة هذا الرابط بتوقير أهل العلم وأهل الفضل. وإذا كان هذا مطلوبا في كل التنظيمات سياسية كانت أو نقابية أو ثقافية مدنية أوحكومية. فإنه من باب أولى أن يكون داخل الحركة الإسلامية التي همها الأكبر هو الاشتغال بالكتاب والسنة ومدارستهما بشكل دائم لا ينقطع. والتنظيم الذي لا يحترم فيه أهل الفضل والعلم والسبق هو أساسا تنظيم لا يمكنه إنجاز ولو جزء بسيط من المشروع التغييري الذي يتبناه أو يقوم بإسهاماته التي يريد تقديمها في بناء الإنسان من أجل بناء الأوطان.
وتتوالى الدروس لتعالج كل ما يمكن أن يفسد التماسك التنظيمي. فإضافة إلى ما قيل في الدرس الأول نجد الدروس التالية تعالج مسألة آداب التلقي وآداب الاستئذان لأن المتربي في تلقيه من المربي الذي يعد قناة تنظيمية مسؤولة لابد أن يتلقى بأدب وانضباط، وإذا أراد شيئا أو انصرافا أو أخذ الكلمة ليضيف شيئا أو يستفسر عن شيء فليستأذن المربي تقديرا له واعترافا بسلطته التقديرية وكموجه ومشرف على العملية التربوية.
والمربي له ألا يكون مستبدا يستغل سلطته التقديرية ليكون آمرا ناهيا فظا غليظا بل هو مطالب بأن يكون مرنا ومشجعا على الحوار وإبداء الرأي وإن لم يكن كذلك فهو لا يصلح أن يكون مربيا أصلا.
وفي الدرس السادس والعشرين الموعظة هي الأخوة وفي الحديث أنصر أخاك ظالما أو مظلوما وفي الآية ( واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولائك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم وإن طائفتان من المومنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين. إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون. يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بيس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون)
إنها حلقات ثلاث تتآزر لتخدم قوة الصف من الداخل وتماسكه التنظيمي في شكل محكم. فتخبر بأن العلاقة بين المربي والمتربي ليست قائمة على السلطوية أو الاستعلاء أو القهرية التي تأمر وتنهى إنما هي قائمة أساسا على مبدأ عظيم مبدأ الأخوة، والأخوة في حقيقتها عبارة عن برنامج تنظيمي واجتماعي عظيم. وتعالج كل ما من شأنه أن يقع بين الأفراد من موقعهم البشري الذي يمتاز بالضعف رغم الإيمان لأن الله تعالى لم يخرج الفئتين اللتين اقتتلتا من صيغة الإيمان فقال ( طائفتان من المومنين). ونجد الموعظة يختزلها البرنامج في نقطتين:
1- مآخاة مكة
2- مآخاة المدينة ليطرح النموذج الأرقى في الأخوة والتماسك والإيثار والترابط من داخل الصف الواحد، وعندما يقع الفرد في ظلم ما أو يمارس عليه هذا الظلم نجد الحديث يعالج إلى جانب الآية المسألة من خلال فكرتين رئيستين:
1- ضرورة نصرة الأخ مظلوما
2 – ضرورة نصرته ظالما أي إلزامه بالحق وتعريفه بخطئه.
فقد لا يظهر الإثم والخطأ حتى يأمر الدرس السادس والعشرون بمعالجته لكونه من الممكن أن يكون مدفونا في صدر الفرد ولا يبديه ولذلك نجد الدرس السابع والعشرين يتصدى له فيحذر من باطن الإثم وصراع واقتتال القلوب. ويدعم ذلك الحديث في تناسق وتكامل فيتحدث عن القلب إذا صلح صلح الجسد كله وإذا فسد فسد الجسد كله. وتأتي الآية في نفس الوحدة الجوهرية والأساسية في العلاج لتأمر باجتناب الظن، والظن يكون في شيء غير ظاهر واجتناب التجسس والغيبة لأن من الممكن إذا شب فتيل صراع بين اثنين ولم تظهر معالم ذلك أن يلجأ الفرد إلى التجسس من أجل كشف ما خفي ويدور في الكواليس. وتذكر الآية بأن الناس خلقوا ليتعارفوا وأن أكرمهم عند الله أتقاهم والتقوى ذات علاقة دائمة بما في الداخل والخارج، أي علاج لظاهر وباطن الإثم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: التقوى ها هنا وهو يشير إلى صدره ثلاثا.
وهكذا قس على ذلك على مر المرحلة ومما يخدم الالتزام التنظيمي من ولاء وطاعة وسرعة في التنفيذ وحسن التبليغ والاستشارة إلى آخره.
إن انعدام مثل هذه المعالجات في الأحزاب والكثير من التنظيمات جعلها عرضة للجيوب والكثير من الخلافات التي تؤدي إلى تمزيق الصف وتصدع البنيان وبالتالي إلى الانشقاقات وتفريخ التنظيمات.
ونجد أن بعض التنظيمات الإسلامية التي ربت أفرادها ببرامج تربوية تعطي قيمة لمبدأ الالتزام وحسن تنظيم العلاقات أفقيا وعموديا، عندما خاض بعض أبنائها العمل السياسي لم يحتاجوا لجلب مناضلين وشراء رجال ونساء من أجل القيام بالحملات الانتخابية والتعبوية، أو تكليف أناس كنواب صناديق الاقتراع مقابل مبلغ مالي معين…لأنهم ببساطة سبقت تربيتهم على السمع والطاعة لأجهزتها القيادية العليا، ونشؤوا على الالتزام التنظيمي في المنشط والمكره كما نشؤوا على التضحية بالغالي والنفيس من أجل ما يؤمنون به من أفكار وقيم ومبادئ. وهنا يتجلى بعض الاختلافات الكبيرة بين التنظيمات الإسلامية وباقي الأحزاب السياسية التي تحولت إلى مقاولات مالية كل شيء فيها بالمقابل أو مقايضة العمل مقابل قضاء مصلحة أو منح بقعة أرضية أو دكان، والواقع يزخر بالأمثلة التي تشهد على ذلك.
لنقف في الختام مع الختام الذي ختمت به المرحلة وكان لابد أن تختتم بهذا التوضيح الذي تضمنته الآية الكريمة: ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المومنين يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصارا لله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين)
إن التنظيم الإسلامي في خطه، من المفروض حسب تصوراته، أن يستمد شرعيته وبرامجه وأهدافه وتصوره ووسائله من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
وما يبتغيه التنظيم هو نصرة الله تعالى ولاء مطلقا لله، واحتكاما مطلقا لله، وسيرا في الطريق على نهج الله من أجل هدف هو رضا الله.إذ يصبح العمل الإسلامي المنظم تجارة رابحة تنجي من عذاب أليم (2)لأنه من داخله يربط الفرد بالله وبدينه وبصراطه المستقيم والتجارة الرابحة تتطلب طاعة الله في كل الأحوال. إذن على الفرد إذا أراد المتاجرة في هذه التجارة والتي إحدى وسائلها التنظيم، عليه أن لا يبخس جهده ثمنا لهذه التجارة. والنصر وتحقيق نتائج هذا العمل المنظم، الذي هو تعميم الالتزام بالإسلام بين الناس والدعوة إليه، لن يتأتى إلا بالعمل المنظم وتضافر الجهود. وتعطي الآية نموذجا للتنظيم والعمل الرسالي وهو تنظيم نبي الله عيسى عليه السلام الذي ربط نصرة الله بنصرة التنظيم لأن التنظيم وسيلة لنصرة الله.
وتنتهي المرحلة لتفسح المجال لبداية مرحلة أخرى مباشرة بما هو أنسب أن يبدأ به مع الفرد بعدما تهيأ لمعرفة العمل التنظيمي والالتزام بداخله.
1- إن النهي عن السؤال الوارد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم يصنفه العلماء في أبواب الآداب وليس المعنى النهي عن السؤال التعليمي الذي يفيد الإنسان ويرفع من مستوى الإدراك والوعي ويزيد في العلم لديه. وإنما المنهي عنه هو سؤال الناس أموالهم ، وبذل ماء الوجه في سبيل ذلك وسؤال العلماء عن المسائل العويصة التي لا تنفع المسلمين مما يفتح عليهم أبواب النزاع والشقاق.
2- حتى لا يفهم هذا المعنى خطأ فلابد من التوضيح بأنه لا يعني أن الحركة الإسلامية تمسك بيدها صكوك الغفران. كما لا يعني أن الحركة الإسلامية تغني عن الفرد شيئا ..فالحركة كتجمع بشري ستمتثل أمام الله يوم القيامة كباقي كل الناس وكل يأتي يوم القيامة فردا كحساب فردي وكل أمة تدعى إلى كتابها كحساب جماعي. فالحركة الإسلامية كتنظيم بشري تحمل في صفوفها الصالح والطالح والمؤمن والمنافق والمناضل والانتهازي وبالتالي فهي لا تخرج عن إطار البشرية الضعيفة التي تجتهد وتبدل جهدها لتنال رضا الله وهي تعترف بتقصيرها وضعفها وأنها لا تجمع في صفوفها ملائكة ذوي أجنحة مثنى وثلاث ورباع. وإنما هي تريد الإصلاح ما استطاعت وما توفيقها إلا بالله.
Aucun commentaire