المعارضات السياسية العربية بين حق الحرية ومنطق الاستئصال
قدم العلم الحديث للإنسان فرصاً واسعة وإمكانات قصوى في حصوله على المعلومة والمعرفة، وبات يعيش في عصر الثقافات الفكرية والعلمية العابرة للقارات، وعصر التواصل والتبادل والتشابك في المصالح والمصائر، وهو أشبه ما يكون بسوق –نعم سوق- معلوماتي افتراضي وواقعي واسع لتداول الأفكار وتبادل المعارف ونمو ما يسمى باقتصاد المعرفة، ولدى قيامي بتصفح كثير من مواقع النشر الإلكترونية، ألاحظ باستمرار وجود عدد لا يستهان به من المقالات والآراء العائدة لبعض رموز ونخب المعارضات السياسية العربية التي تعيش خارج بلدانها بسبب ما تعتبره عدم وجود مناخ حرية حقيقي تستطيع من خلاله الدعوة إلى أفكارها والتعبير عن طموحاتها الفكرية والسياسية في داخل أوطانها الأصلية.
وقد لفتني منذ فترة إمعان بعض تلك الأسماء في استخدام كثير من مصطلحات الشتم وألفاظ السب بحق ناسها ومجتمعها وبلدها، ووصْفِهم جميعاً بأقذع النعوت، بما لا يوفّر فيهم كبيراً ولا صغيراً كما يقولون. طبعاً ليس هذا محل استغراب مني كمثقف نقدي يشتغل على إشكاليات الثقافة العربية، ويقوم بعمليات التحليل والاستنتاج ووصف العلاجات، إذ أنه من حق أيٍ كان أن يعبر عن أفكاره واعتقاداته بالطريقة وبالأسلوب الذي يريد.
ولكنني –في الوقت الذي أدعو فيه إلى تمثل قيمة الحرية بكل معانيها- أعتقد أن الحرية لا تعني الفوضى، بل أن تعطي كلمتك، وتعطي موقفك، وتؤكد موقعك بعد دراسة من خلال مسؤوليتك، وأن تفسح المجال للآخر في مناقشتك وفي نقدك. والحرية لا بد وأن تكون مقرونة بالمسؤولية، والمسؤولية تفترض بدورها وجود عقول حوارية واعية، خصبة ومنتجة للتسامح والسلام الاجتماعي، لا عقول إقصائية إلغائية تمارس الحرية بطريقة وصائية بعيدة عن أدنى حالات التخلق بالقيم الوطنية الجامعة لكل مكونات المجتمع وتنوعاته الثقافية والاثنية والأقوامية. كما تفعل بعض شخصيات تلك المعارضات الخارجية التي سبق أن ألغت من قاموسها السياسي والفكري حسابات ومصالح الوطن، وهي تحاول –على الدوام- تعميم الخطاب السلبي السوداوي عن وطنها الأم، وبالذات حول بعض مكوناتنا الثقافية والدينية التاريخية.
ونحن من موقعنا كمثقفين مهتمين بعملية النقد الهادف إلى تطوير بلداننا ومجتمعاتنا العربية، نعمل –مثل أي مواطن حر آخر- من داخل الوطن وليس من خارجه، ونمارس عملية النقد البنّاء والموضوعي الناظر إلى غد أفضل مشرق تنطلق فيه نهضة المجتمعات المنشودة على كل الميادين ومن دون وجود أية موانع مستحيلة أو معقدة تذكر. طبعاً هذه أمنية كبيرة ولا شك، فالواقع لا يخلو من وجود صعوبات وضغوطات هنا وهناك (وهذا أمر ينبغي فهمه ووعيه واحتواؤه، وهو موجود في كل الدول وحتى في بلدان كثيرة)، ولكننا نأمل ونتمنى ونعمل على الدوام لكي تصبح مجتمعاتنا في أرقى مواقع المدنية والتحضر والتقدم الفكري والسياسي.
ويبدو لي أن المعيار الحقيقي الناظم لحركة الحرية هو في كونها محددة بقيد الحرية ذاتها، ولكن ليست الحرية المنفلتة من عقال محبة الوطن والمجتمع (والناس المكوّنين له) بقطع النظر عن معايير وضوابط وآليات السياسة التي تحكم وتدير وتنظم مختلف مواقع هذا البد أو ذاك، وبغض النظر عن مشارب هؤلاء الناس المنتمين للوطن على اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم وانتماءاتهم الفكرية والدينية والأقوامية، فللحرية محددات وانتظامات تتركز أساساً في عدم إثارة دواخل ومشاعر الآخرين، وتقصُّد الإساءة إلى قناعاتهم ومعتقداتهم بقطع النظر عن صحتها وحقانيتها وفاعليتها الحضارية، ثم إن النقد لا يكون بإتباع طرق وأساليب العنف الرمزي الفكري التشهيري والإقصائي المتعمد –في أحايين كثيرة- بحق بعض التكوينات الدينية والتاريخية الحضارية الأساسية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، الذي يضم بين جناحيه أدياناً ومذاهب وطوائف وقوميات واثنيات متعددة يراد لها أن تستظل بظل الوحدة الوطنية الطبيعية الطوعية –لا القسرية- لينعم مواطنونا فيها بقيم المحبة والتسامح والإخاء والتعاون لما فيه مصالح الأوطان والشعوب بكل تنوعاتها وتعددياتها.
ولا شك أن بلداننا تعمل –بكافة مؤسساتها وأجهزتها ومواقعها- لتأمين متطلبات المجتمع، وخلق فرص عمل للشباب، واستصدار قوانين وتشريعات لفتح أبواب الاستثمار الاقتصادي على مصراعيه، على مستوى تحديث النظم والقوانين، وهيكلة الاقتصاد، وتطوير الواقع السياسي.
وعلينا ألا ننسى هنا أن ضغوطات الخارج وتحديات التسارع العالمي –منضافاً إليها عدم السيطرة كثيراً على مارد الفساد والمفسدين في الداخل- تلعب دوراً كبيراً في تأجيل –وأحياناً إيقاف- كثير من خطوط الإصلاح الاقتصادي والسياسي وتأخير إقلاع عملية التنمية البشرية.
طبعاً أتمنى ألا يفهم من تحليلنا السابق أننا نجمّل أوضاعنا الداخلية، ونقدم صوراً ناصعة عن واقع مجتمعاتنا، وكأننا نعيش في جنان أرضية تحكمها ملائكة من السماء، بل نحن مجتمعات أرضية نسبية في فكرها وسلوكها، ونعترف فيها بالقصور القائم، كما أننا لا نزال نعاني من وجود أخطاء وتحديات داخلية على شتى الصعد والمستويات، ونماذج أو تكوينات « السياسة-الاجتماعية » التي يعيش في ظلها أفراد مجتمعاتنا ليست الأفضل والأحسن، ولكنها -برأينا المتواضع- مناسبة حتى الآن للبنية الفكرية والسوسيولوجية التاريخية المشكِّلة لمجتمعاتنا، وهي ملائمة أيضاً لطبيعة التواجد الجيواستراتيجي لتلك البلدان الغائرة في خضم جغرافية هلامية وتوازنات مخلخلة ومناخات دولية عاصفة باستمرار.
ونحن حقيقةً نحاول بهدوء وروية وعقلانية وتدرجية –وبالتعاون المثمر والتفاعل البناء بين الدولة والمجتمع- الدعوة إلى تطوير النموذج السياسي الحاكم على مجتمعاتنا من دون أي تدخلات أو اختراقات من هذا الجانب أو ذاك، وهذا لا يعني أن نبقى معزولين عن العالم، أو نغلق علينا أبواب الانفتاح والتنفس في الهواء الطلق والاستفادة من تجارب وتراكمات الخبرة لدى الآخرين.
وكلنا يعلم بأن المريض المزمن في مرضه –إذا سلّمنا جدلاً بأننا فعلاً نعاني من أمراض مستعصية على الحل! (وأنا لست من أنصار التشاؤم والسلبية بل من أنصار أن تشعل شمعة خير وأبقى من أن تلعن الظلام)- لا يأخذ الدواء دفعة واحدة، بل يتناول الدواء والعلاج على مراحل وفترات وبانتظام وفي أوقات زمنية محددة حتى يتمكن من تهيئة جسده لتقبل الوصفة الطبية ليشفى ويتعافى لاحقاً.
ثم إن الإصلاح والتغيير مطلوب بصورة دائمة في أي مجتمع يريد أن يكون له حضور نوعي منتج ومؤثر في عالم اليوم والغد، لأن التطور ناموس كوني وقانون طبيعي، والمتغير هو الثابت الوحيد في هذا الكون، ولكن ينبغي أن يكون الإصلاح تدريجياً وداخلياً ليكون مؤثراً ومستمراً وناجعاً. وقد أثبتت كل تجارب الشعوب والأمم والحضارات أن الإصلاح الفوقي المفروض بالقوة (وبالريموت كونترول) مرفوض ومدان وضعيف التأثير .
إن قيم الإصلاح والديمقراطية (ومجمل مبادئ المدنية الحديثة، وقيم العلمنة الراقية)، هي –في الأساس- ثقافةٌ وتربية وتهيئة نفسية مستمرة ومتواصلة منذ الصغر، وجهد داخلي فعال لاستنباتها في تربة المجتمعات العربية بما يتلاءم مع فكرها وثقافتها وحضارتها، قبل أن تكون معادلة ولها مقاييس وموازين مادية. ومجتمعاتنا العربية عموماً –لاشك- متعبة ومنهكة، وظروفها وأحوالها المختلفة ليست على ما يرام بالتأكيد، وهي تنشد أفضل أساليب الحكم والإدارة في السياسة والاقتصاد وغيرها، ولكن ذلك لا يحدث بصورة تلقائية (كن فيكون)، بل يحتاج لعقود طويلة من تربية الناس على قيم الحداثة والاستنارة العقلية والمادية.
من هنا مطلوب منا جميعاً –كل بحسب موقعه وجهده وقدرته- أن نساهم في إصلاح وبناء مجتمعاتنا وبلداننا. وهذه المهمة بالذات لها خطورتها وحيويتها لدى جمهور المثقفين المتنورين خصوصاً أولئك الذين لم يوجهوا سهام النقد الشخصي الجارح والهدام واللامسؤول إلى قلب الوطن، ولم ينخرطوا في لعبة السياسات الدولية التي تعمل ليلاً ونهاراً لتقويض مندرجاتنا الاجتماعية وتكوينات وحدتنا الوطنية التي نأمل تطويرها وتعزيزها.
Aucun commentaire