الغاية من فريضة الحج
بعض الناس لا يعدو تفكيرهم حدودا معلومة في كل الأمور بحيث لا يتم تجاوز الأشكال التي تؤدى بها هذه الأمور ؛ وتغيب الغايات والأهداف ؛ وهي الأساس الذي لا بد من الانطلاق منه.
والحج على سبيل المثال أمر يهم المسلمين ولكن الغالبية منهم تتعامل معه كطقس من الطقوس ليس غير بل ربما داخله من العادات والتقاليد ما ليس من الدين في شيء مع غياب الغاية بشكل واضح ما دام الكل يصرح بأن المقصود هو المعبود جل شأنه.
الحج طاعة صنفت ضمن أركان الدين الخمسة إذ لا يعتبر مطيعا لله عز وجل من لم يقم عنده هذه الأركان؛ وأركان الدين عبارة عن إقرار بألوهية وربوبية الخالق وبرسالة الرسول ؛ وهذا الركن لا يستقيم إلا باعتقاد وهو ما يعرف بأركان الإيمان أو أركان الاعتقاد وهي اعتقاد بالألوهية والربوبية وبالملائكية التي بلغت خبر السماء إلى الأرض ؛ وبالرسالة التي هي خبر السماء وبالرسولية التي تولت أمر التبليغ بين البشر وبمضمون الرسالة المفضي إلى فك رمز الحياة بشطريها الأولى والآخرة وبقضاء مقدر في الحياتين معا. وأما باقي أركان الإسلام باستثناء الركن الأول فعبارة عن ممارسات محددة من طرف الخالق سبحانه من أجل توفير فرص الاعتذار وهو ما يصطلح عليه شرعا بالاستغفار. وقد يسأل السائل لماذا يصير الدين عبارة عن طقوس تختزل طلب العفو والاعتذار؟؟
معلوم أن الخالق سبحانه تفضل على المخلوقات بنعم شتى ( وان تعدوا نعم الله لا تحصوها) ولما كان الإله جل جلاله غنيا فانه لا ينتظر من مخلوقات فقيرة جزاء كما هو متداول بين المخلوقات التي تتبادل المنافع فيما بينها وفق عقيدة ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) ولكن الخالق لا يقبل في المقابل نكران النعم وجحودها وهو ما يعرف اصطلاحا بالكفر؛ إذ لا يجوز أن يستفيد المخلوق من نعم شتى وهو لا يشكرالمنعم ؛ وشكر المنعم يحدده المنعم نفسه لهذا تعبد المخلوقات بطاعات اختارها هو ولم يترك للمخلوقات حرية في اختيار ما تشاء من طرق الشكر.
والمتأمل للطاعات خصوصا ما يوجد في الأركان من صلاة وصوم وزكاة وحج يلاحظ أنها أشكال اعتذارية بامتياز توحي بتفريط من المخلوقات تجاه النعم التي تستفيد منها. فحركات الصلاة خصوصا الركوع والسجود فيهما دلالة الذلة ؛ ولا يذل إلا المذنب المسيء الذي لم يشكر النعمة السابغة الدائمة ليل نهار لهذا أعطي فرصا يومية ليل نهار ليعبر عن تقصيره بين يدي خالقه جل شأنه ؛ ولا شك أن الذي يذل في ركوعه وسجوده لخالقه يقر بتقصيره في شكر نعمه التي لا تحصى إذ لا يمكن لأحد شكر نعم لا تحصى بتاتا. والصوم وهو ترك الأكل والشرب والوقاع المشروع لزمن معين فيه ذلة أيضا فهو نوع من الحرمان ؛ ولا يحرم إلا من كان دأبه الضعف والذلة ؛ وفيه اعتراف للخالق سبحانه بالتقصير في شكر النعم الموفورة. والزكاة عبارة عن اقتطاع من المال وفيها ذلة إذ لا يقتطع إلا من مال مخلوق ضعيف علما بأن المخلوق لا يرضى بالاقتطاع من ماله من غير الخالق لأنه يعتبر ذلك اهانة له إن صدرت من مخلوق مثله.
والحج من خلال شعائره يعكس بجلاء فكرة الاعتذار الصادر من مخلوقات مقصرة في شكر النعم ذلك أن عملية الطواف والسعي والوقوف والحلق وتقديم القربان كلها إجراءات تذل على ذلة. فالمخلوق يسافر من كل فج عميق يعرض نفسه للمهالك وهو في ثوب يشبه الكفن جسمه نصف عار ؛ والثوب ليس من ثياب الزينة وإنما من ثياب الذلة والمسكنة ؛ ويطوف هذا المخلوق وهو عبارة عن دوران يفيد الإلحاح كما يفيده السعي كما يفيده الوقوف ؛ فلا يطوف ولا يسعى ولا يقف إلا من أذنب راجيا الصفح ؛ والذنب هو التقصير في شكر النعم . وإذا ما أضيف إلى هذه الحركات الدالة على الذلة ما يتلفظ به المخلوق من عبارات التوسل ظهر السر من وراء هذه الطاعة التي جعلت فرصة العمر إذ يخشى ألا يقبل بعدها اعتذاركما هو الشأن بالنسبة لباقي الطاعات اليومية والأسبوعية والسنوية. ومما يؤكد إلحاح المخلوق في طلب العفو والصفح على قلة الشكر هو اهراق الدم ؛ ومعلوم أن اهراق الدم وسيلة معروفة عبر التاريخ يلجأ إليها المعتذرون عن خطاياهم ؛ كما أن حلق الرؤوس يدل على الإذلال إذ يتخلى الإنسان عن زينة الشعر لأنه لايقبل عذرالا ممن كان في حالة ضعف وذلة.
قد يغيب كل هذا عن أذهان الحجيج في بعض المجتمعات الإسلامية فيتخذون من طاعة الحج فرصة للمباهات فتقام الحفلات الساهرة وينقلون إلى المطارات في مواكب فخمة وتطلق أبواق السيارات أصواتها وحتى صفارات الانذارقد تدوي وتنثر الورود وتنتشر الكاميرات في كل زاوية لتنقل مراسيم التوديع بأبهة غير خافية وتنطلق الزغاريد والأناشيد وكأن الأمر لا يتعلق باعتذار من مذنب مقصر يشد الرحال من فج عميق تحيط به الذلة في كل أحواله بل يتعلق بمنعم منتصر يسافر ليحتفل به .
لقد أفرغت الطاعات في الإسلام من مضامينها الاعتذارية في الأصل لتصير إما مجرد طقوس جوفاء بدون دلالة أو أكثر من ذلك تصير فرصا للمباهاة وهي عبارة عن إمعان في الخطأ وإصرار عليه وزيادة فيه ؛ ومن لم يجعل الله نورا فما له من نور؛ والخاسر من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعا؛ ونسأل الله عز وجل الصفح وتجاوز التقصير انه بالعباد رءوف رحيم وله الشكر الجزيل الدائم على نعمه حتى يرضى ؛ وإذا رضي ؛ وبعد الرضى ؛ والحمد لله رب العالمين.
Aucun commentaire