مواعظ رمضانية : التدين في درجة الإحسان
فضل الله عز وجل عباده بعضهم على بعض ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات من حيث تدينهم ، فبقدر درجة التدين تكون قيمة العباد عند الله عز وجل . والتفاضل بين الناس عند خالقهم يؤكد أن درجة تدينهم تتفاوت بقدر هذا التفاضل . ومما يؤكد التفاضل في التدين قول الله تعالى : (( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم )) وهذا يثبت أن درجة التدين عند الأعراب وهي درجة الإسلام لم تصل إلى درجة الإيمان . وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد هذا التفاوت في درجات التدين إذ نجد بعد درجة الإسلام ودرجة الإيمان درجة الإحسان ، فعندما سأل جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه السلام عن درجة الإحسان قال النبي : » أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك » . وهذا يعني أن عبادة الله عز وجل في درجتي الإسلام والإيمان لا تكون كعبادته في درجة الإحسان. والتدين في درجة الإحسان هو تدين صفوة الخلق وعلى رأسهم الرسل والأنبياء الكرام صلواته وسلامه عليهم لقول الله تعالى في الحديث عن أنبيائه ورسله : (( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء وإن ربك حكيم عليم ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين )) لقد وصف الله تعالى صفوة خلقه من الأنبياء والرسل بصفة الإحسان مما يعني أنهم كانوا يعبدون الله عز وجل وكأنهم يرونه حسب تعبير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فالإحسان في اللغة هو نقيض الإساءة وهو فعل الشيء الحسن ، والشيء الحسن هو الشيء الجميل ، والشيء الجميل يتطلب الإتقان ، لهذا فالتدين في درجة الإحسان ، أو إحسان التدين هو إتقانه ، ومن يستحضر معية الله عز وجل في تدينه لا شك أنه يتقن التدين كما كان حال الأنبياء والرسل الكرام . وبعد فئة الرسل والأنبياء وهم صديقون أيضا لقوله تعالى : (( واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيئا )) يأتي تدين الإحسان عند الصديقين من غير فئة الأنبياء والرسل كما هو حال مريم بنت عمران أم المسيح عليهما السلام التي قال فيها الله تعالى : (( ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة )) . وبعد تدين الإحسان عند الصديقين يأتي تدين الإحسان عند أمهات المؤمنين لقوله تعالى : (( فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما )) والآية في سياق الحديث عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبعد تدين الإحسان عند أمهات المؤمنين يأتي تدين الإحسان عند صحابة سيد المرسلين لقوله تعالى : (( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان )) . وبعد تدين الإحسان عند الصحابة الكرام يأتي تدين الإحسان عند المجاهدين لقوله تعالى : (( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين )). وبعد تدين الإحسان عند المجاهدين يأتي تدين الإحسان عند الصالحين لقوله تعالى : (( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما )) . ولهذا درج المؤمنون في أدعيتهم على طلب درجة هؤلاء ليكون تدينهم في درجة الإحسان. ومعلوم أن درجات تدين الإحسان المتاحة للمؤمنين هي درجة الشهداء والصالحين أما درجة الأنبياء والصديقين وأمهات المؤمنين وصحابة سيد المرسلين ففضل من الله عز وجل على هؤلاء وهو أعلم حيث يضع فضله .
والتدين في درجة الإحسان لا يعرف كثير من الناس قيمته إلا بعد الموت والبعث والحساب والجزاء حيث يتمنى الخاسرون في الآخرة درجة الإحسان لقوله تعالى : (( واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين )). وأصحاب تدين الإحسان إنما عبدوا الله عز وجل وأطاعوه في عباداتهم ومعاملاتهم وكأنهم يرونه بمعنى كانوا يتقنون العبادات والمعاملات على حد سواء لأنهم كانوا يستحضرون المعية الإلهية حقيقة لا مجازا كما هو حال المتدينين فيما دون درجة الإحسان. ولمعرفة حقيقة استحضار المعية الإلهية نذكر بمعية الخلق في العبادة والمعاملة ذلك أن بعض الناس يحاولون إتقان عبادهم ومعاملتهم لمجرد معاينة الخلق لهم فماذا لو أنهم استحضروا معاينة الخالق سبحانه لهم ، وهي معاينة حقيقية لأنها تتوغل في معرفته جلت قدرته بما تخفي الصدور وبخائنة الأعين لقوله سبحانه : (( ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور )) فمن استيقنت نفسه هذه الحقيقة لم تغب عن قلبه معية الله عز وجل ، وعليه يكون تدينه تدين إحسان أي يكون متقنا للعبادات والمعاملات على حد سواء . وكاذب من يحاول إدعاء الإتقان في عباداته ولكنه لا يبالي بالإتقان في معاملاته لأن العلاقة جدلية بين العبادات والمعاملات ، وهي علاقة تأثر وتأثير. والله تعالى إنما خلقنا ليكون تديننا تدين إحسان لهذا يقول سبحانه : (( إن الله يأمر بالعدل والإحسان )) فالعدل صفة يجب أن تشمل المعاملات والإحسان يشمل العبادات والمعاملات على حد سواء ذلك أن الإنسان يجب أن يكون عادلا مع نفسه ومع غيره من الأقارب والأباعد ومع محيطه بما فيه من أحياء وجمادات وأن يحسن إلى كل هؤلاء بمعنى أن يجد هؤلاء عنده ما ينفعهم ولا يضرهم لأن الله عز وجل بعد الأمر بالعدل والإحسان نهى عن النقيض وهو الضرر فقال جل من قائل : (( وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون )) فالأمر الفاحش والمنكر هو كل ما زاد أو نقص عن الحد الذي حدده الله عز وجل في العبادات والمعاملات والبغي هو التطاول على الحدود والتسبب في إلحاق الضرر بالنفس والغير عكس ما يحدث مع الإحسان من نفع وانتفاع .
وقد ارتبط ذكر الإحسان في المعاملات في القرآن الكريم كقوله تعالى : (( وبالوالدين إحسانا )) ويتعلق الأمر بمعاملتها بالإحسان ، وكقوله أيضا : (( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان )) فالقضية هنا أيضا تتعلق بإحسان في معاملة مما يسمى الأحوال الشخصية ، فمع أن التسريح طلاق وانفصال فإنه يقتضي الإحسان ، وكقوله أيضا : (( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين )) فهذا أيضا يتعلق بالمعاملات مع أن الحالة حالة غضب فإن الله تعالى أمر فيها بالإحسان. وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد أن الله قد أمر بالإحسان في كل المعاملات بما فيها تلك التي يستغرب فيها الإحسان حيث قال عليه الصلاة والسلام : » إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح » فالناس قد يستغربون الإحسان في القتل والذبح لأن الفعلين معا عنيفين وفيهما إزهاق للأرواح ومع ذلك أمر الله تعالى بالإحسان في تنفيذهما . فالذي يمارس تدين الإحسان سواء تعلق الأمر بعباداته أم بمعاملاته يراقب معية ربه سبحانه ويتقن التدين حتى عندما يتعلق الأمر بطلاق أو قتل أو ذبح . فإذا ما كان الإحسان مطلوبا في أمور يستغرب فيها الإحسان كالطلاق والقتل والذبح فما بال أمور يجب فيها الإحسان بالضرورة . ولعل عبادة رمضان هي عبادة إحسان لتميزها بالصيام والقيام و الإنفاق فوق المعتاد في باقي شهور السنة ، وقد جعلها الله تعالى تذكرة سنوية لنا بالتدين في درجة الإحسان لنحافظ على نفس درجة تدين الإحسان خلال باقي السنة من خلال نوافل تسد مسد الفرائض في رمضان .
Aucun commentaire