Home»Islam»مواعظ رمضانية : العلاقة الجدلية بين العبادات والمعاملات

مواعظ رمضانية : العلاقة الجدلية بين العبادات والمعاملات

0
Shares
PinterestGoogle+

انطلاقا من قناعة الإنسان الراسخة بمخلوقيته فإنه عبر تاريخه الطويل كان يمتلك الاستعداد الفطري للخضوع لكل ما يعتقده أقوى منه ، أو يتوجس منه خوفا على حياته ومصيره . وهكذا صار الخضوع عادة أو دين الإنسان وديدنه . ولقد كان الإنسان عبر مراحل تاريخية كثيرة يخطىء التقدير والحساب فيخضع للمخلوقات التي يظن بها الفائدة أو الخطر كما هو حاله مع الأجرام السماوية من شمس كان يجد فيها النور والدفء ، أو قمر يجد فيه الضياء الذي يطرد عنه الظلمة مصدر خوفه . وكان أحيانا يخضع لبشر أمثاله لمجرد أنهم أولو بأس يهددونه ، كما كان في أحيان أخرى يضفي الخطورة المعنوية أوالغيبية حتى على الجماد فيعتقد فيه النفع والضر ويخضع له كما هو حاله مع الأصنام . وهكذا صارت عادة الإنسان أو دينه أو ديدنه هو إظهار الخضوع لكل ما هو أقوى منه ، أو لكل ما يحتاج إليه وهو المخلوق المحتاج للرعاية والعناية والحماية . ولقد اهتدى الإنسان منذ زمن بعيد إلى خالقه جل جلاله عن طريق الرسالات المنزلة والرسل المبعوثين تترا . وكانت الرسالات السماوية تصحح أخطاء الإنسان وتحرره من الخضوع للمخلوقات ، وتخضعه للخالق سبحانه . وهكذا سميت عادة نشدان الإنسان للخضوع دينا ، ولهذا سمى الله تعالى دينه الإسلام في قوله جل من قائل : (( إن الدين عند الله الإسلام )) أي إن الدين عند الله عز وجل هو الاستسلام أي الخضوع .

ولما كان الدين عبارة عن استسلام المخلوق للخالق فإنه سمي عبادة . والعبادة مشتقة من فعل عبد يعبد بمعنى خضع وذل . ولقد بين القرآن الكريم وهو آخر رسالة سماوية تميزت بالشمول وهي تهم البشرية قاطبة إلى قيام الساعة ونهاية البشر الغاية من خلق البشر في قوله تعالى : (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )) فالغاية من وجود البشر والجن هو الخضوع لله تعالى ، ولهذا تكررت دعوة القرآن الكريم للناس بالخضوع في مثل قوله تعالى : (( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون )) فهذا النص القرآني يدعو كافة الناس للخضوع لله تعالى، ويبين السبب وهو أنه الخالق والرازق ، وينهاهم عن الخضوع للأنداد مع علمهم بأن هؤلاء الأنداء لم يخلقوهم ولا هم يرزقونهم . وإلى جانب الدعوة الجماعية للناس بالخضوع لله تعالى ، يأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ومن خلاله يدعو كل الناس للخضوع له كما ينهاه عن الخضوع لغيره في قوله جل من قائل : (( قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين )) وقوله : (( قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله )) . والملاحظ أن الله تعالى يخضع الإنسان عن طريق الأمر والنهي ، فهو يأمره بالخضوع له ، وينهاه عن الخضوع لغيره . ولقد كانت بداية إخضاع أول إنسان عبارة عن أمر ونهي إذ قال الله تعالى لآدم عليه السلام : (( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين )) فكان الأمر والنهي متعلقين بالأكل وعدمه مما يعني أن إخضاع الطبيعة البشرية يقتضي أمرها ونهيها في نفس الوقت خلاف طبيعة باقي المخلوقات التي أخضعها الله عز وجل كلها ولكن عن طريق الأمر دون النهي لأن طبيعتها تختلف عن الطبيعة البشرية وطبيعة الجن ، وهي طبيعة متمردة لا بد لها من نهي لاخضاعها .

فالله تعالى عندما أخضع الجمادات خيرها بين أمر ونهي فاختارت الأمر طواعية وهو ما نقله لنا الوحي في قوله تعالى : (( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إيتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين )) . فهذه المخلوقات الجمادات اختارت الخضوع الطوعي أي أخضعت لله تعالى بأمر لا بنهي . وكذلك حال الملائكة المخلوقات النورانية فهي أيضا أخضعت بأمر لقوله تعالى : (( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين )) فالملائكة الكرام استجابوا للأمر الإلهي نظرا لطبيعتهم التي لا تتوفر على تمرد أو عصيان كما هو حال طبيعة إبليس الذي كان من الجن ففسق عن أمر ربه أي خرج عنه وتمرد . وهكذا نلاحظ أن الجمادات والملائكة أخضعت لله تعالى خضوع أمر باعتبار طبيعتها الطيعة ، بينما الإنس والجن أخضعا خضوع أمر ونهي باعتبار طبيعتهما المتمردة . ويختلف الخضوع لله عز وجل عن الخضوع لغيره ، فالخضوع له سبحانه هو خضوع حق لأنه الخالق بحق ، بينما الخضوع لغيره باطل ووهم لهذا كان سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك إذ كيف يقبل معه الشركاء ولا يد لهم فيما خلق . والبشر عندما يخضع بعضهم لبعض يكون الخاضع والمخضع ـ بكسر الضاد ـ بعضهم في حاجة ماسة لبعض إذ يخشى ويحتاج الخاضع لمن خضع له ، تماما كما يحتاج المخضع ـ بكسر الضاد ـ للخاضع لاظهار قوته وبأسه للمحافظة على مصالحه ، في حين عندما يكون المخضع ـ بكسر الضاد ـ هو الله عز وجل فإنه غني عن الخاضع ، ومن ثم يعود الخضوع بالنفع على الخاضع دون المخضع ـ بكسر الضاد ـ جل شأنه . وقد يتساءل البعض كيف يستفيد الإنسان من الخضوع ؟، وهل في الخضوع فائدة ؟ والجواب أن الله عز وجل الخالق جعل ضوابط وقوانين لما خلق ومن خلق ولهذا فالخضوع لقوانينه ونواميسه وضوابطه فيه فائدة للمخلوقات ذلك أن كل خروج عن هذه النواميس والقوانين والضوابط يتسبب في هلاك الخلق ، وهكذا يكون الخلق هو المستفيد من الخضوع. وما نهى الله تعالى خلقه عن الخضوع لغيره إلا لأن هذا الغير لم يخلق شيئا ولا علم له بنواميسه وقوانينه وضوابطه مما ينعكس سلبا على المخلوقات التي تخضع خضوع باطل لغير الله الخالق سبحانه وهو خضوع وخيم العواقب . وإذا ما قارنا صيغة إخضاع الملائكة مع صيغة إخضاع البشر نجد فرقا جوهريا باعتبار طبيعة كل منهما . فلما كانت طبيعة الملائكة مستغنية عن الأكل والشرب والتناسل والنوم والراحة والسعي من أجل ذلك فإنها أمرت بالتسبيح المتواصل ، لهذا نحن في حديثنا عن الملائكة نقول :  » إنهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون  » فطبيعتهم الملائكية هي التي جعلتهم يؤمرون ولا ينهون ، في حين أن الإنس والجن نظرا لحاجتهم إلى أكل وشرب وتناسل ونوم وراحة وعمل من أجل ذلك ، قد أمروا بتسبيح مؤقت ، وفي نفس الوقت بعمل إلى حانب هذا التسبيح المؤقت مقارنة بتسبيح الملائكة الدائم المتواصل . وهكذا تم إخضاع الثقلين الأنس والجن بأسلوبين هما :التسبيح والسعي والعمل وهو ما يعرف بالعبادات والمعاملات . فامتحان الإنسان يتكون من شقين ، شق عبادة وشق معاملة . والعبادة إنما هي في حقيقتها تمرين للإنسان على المعاملة ذلك أن الإنسان إذا لم يخضع للنواميس والقوانين التي تخضع لها الحياة فإنه سيهلك ويضيع ، لهذا تعهده الله تعالى بالعناية والرعاية من خلال خضوع العبادات الذي يتعلم منه الخضوع لله في معاملاته . وليس من قبيل الصدفة أن تكون العبادات قليلة مقارنة مع المعاملات .

فالصلاة على سبيل الذكر وهي العبادة اليومية المتكررة تتكرر خمس مرات في اليوم ولا تستغرق أكثر من ساعة زمنية في اليوم ، في حين تستغرق المعاملات باقي ساعات اليوم مما يعني أن الله عز وجل يستهدف المعاملات بالدرجة الأولى ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  » الدين المعاملة  » . والعبادات إنما هي تمارين تعلم الإنسان الانضباط في معاملاته . فعبادة الصلاة مثلا تعلم الإنسان الخضوع لقوانين الله تعالى في المعاملات ، ويؤكد ذلك قول الله تعالى : (( وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر )) فالأمر هنا بالصلاة ليس لذاتها ولكن لتحقق وظيفتها وهي منع المصلي من الوقوع في الفاحش والمنكر من الأمور . والفاحش والمنكر من الأمور إنما يكون أثناء خوض غمار الحياة أي خلال المعاملات ، ذلك أن الفحش هو كل خروج عن الحد زيادة ونقصانا ، والمنكر هو كل غير مألوف أو خارج عن الحد الذي ضبطت به الحياة أيضا . فالصلاة إذن تعلم الإنسان الانضباط لقوانين ونواميس الحياة ، ذلك أن الذي يعبر في صلاته عن الخضوع لله تعالى بقوله في كل صلاة : (( إياك نعبد )) أي لك نخضع لا يعقل أن يخضع له في عبادة ، ولا يخضع له في معاملة ، لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  » من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له  » بمعنى أن الصلاة التي لاتتفاعل جدليا مع خوض غمار الحياة وممارسة المعاملات ليست بصلاة ، أي الذي لا ينقل خضوعه لله في عبادة الصلاة إلى خضوعه له في المعاملات لا يستفيد شيئا من عبادة صلاته .وعندما نتأمل إجراءات الصلاة نجدها مقننة من خلال طهارة البدن والثوب والمكان ومن خلال التوقيت المضبوط بدقة ، ومن خلال الكيفيات المعلومات الدالة على الخضوع من خلال قيام وركوع وسجود إلخ … فالتدرب على هذه الاجراءات بهذا الضبط الدقيق ، هو استعداد لخوض غمار الحياة بكل دقائقها التي إذا لم تحترم اختلت . فالمنضبط لتوقيت الصلاة يفترض فيه أن يكون منضبطا لتوقيت السعي في الحياة لأن كل تأخير في مواعيد هذا السعي تترتب عنه عواقب وخيمة ذلك أن الدورة الطبيعية هلى سبيل المثال لا تقبل تأخيرا بحيث تكون عملية الحرث في موعد محدد فإذا ما ضاع هذا الموعد اختلت بعد ذلك كل العمليات المرتبطة بالحرث ، وتكون النتيجة انعدام المحصول الشيء الذي يهدد الحياة برمتها بالنسبة للإنسان . ولهذا يتعلم الأنسان من عبادة الصلاة من ضمن ما يتعلمه الانضباط للتوقيت من أجل مصلحته .

وما يقال عن عبادة الصلاة يمكن أن يقال عن عبادة الصوم الذي يعلم الإنسان الانتهاء عن كل ممنوع مضر بمصالحه . فالله عز وجل تعبد الإنسان وأخضعه بعبادة الصوم ليتعلم من خلال ترك الممنوع المؤقت ترك الممنوع المؤبد المضر به في حياته . فالطعام والشراب الحلال يصير بعبادة الصيام ممنوعا منعا مؤقتا في فترة زمنية معلومة ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس . والمتدرب على ترك الحلال الممنوع مؤقتا بعبادة الصيام يصير أقدر على ترك الحرام الممنوع منعا مؤبدا مهما كانت طبيعة هذا الممنوع مادية أو معنوية. وهكذا تتبين لنا العلاقة الجدلية بين العبادات والمعاملات . فالحريص على أداء العبادات بشكل جيد هو نفسه الموفق في معاملاته . فإذا ما انعدمت العلاقة الجدلية بين العبادات والمعاملات كان ما يمكن أن نسميه انفصاما في التدين ، وهو حالة يعيشها الكثير من الناس الذين لا يخضعون لله تعالى إلا في العبادات ، في حين تكون معاملاتهم خارج الخضوع لله تعالى . ولهذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :  » من لم يدع قول الزور والعمل به فلا حاجة لله أن يدع طعامه وشرابه  » فترك الطعام والشراب في رمضان يجب أن يعلم صاحبه ترك الزور قولا وفعلا ، الزور هو الباطل نقيض الحق مهما كان نوعه . فالمصلي غير المنتهي عن الفاحش والمنكر من الأمور لا صلاة له ، والصائم غير المنتهي عن قول الزور والعمل به لا صوم له ، مما يعني أن العبادات إنما هي تدريب للإنسان على المعاملات وإلا فلا طائل من وراء عبادات لا تؤدي إلى استقامة المعاملات . والإنسان يستطيع أن يقيس تدينه أوتعبده من خلال معاملاته ، فإذا ما استقامت معاملاته كان عابدا وخاضعا لله تعالى حقا وإلا فهو يكذب على نفسه . والأصل في التدرب على العبادات هو الانتقال بالإنسان من حال إلى حال أحسن منها على مستوى المعاملات . فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول :  » من علامة الحجة المبرورة أن يكون صاحبها بعدها خيرا منه قبلها  » والمقصود أنه يكون كذلك في معاملاته لأن عبادة الحج تنتهي عند حدود معلومة في حين أن المعاملات لا حدود لها . وكذلك الأمر بالنسبة لكل عبادة ، فالمطلوب أن يكون حال الإنسان بعد كل عبادة مهما كان نوعها أحسن منه قبل ممارسة هذه العبادة .

 

فالإنسان إذا ما افتتح يومه بصلاة الصبح فالمفروض فيه أن يكون حاله بعدها في معاملاته أفضل من حاله قبلها . ويستمر حاله على هذه الوتيرة بعد كل صلاة ، إلى أن تدركه صلاة الجمعة فيكون حاله بعدها أفضل من حاله قبلها . ويستمر حاله كذلك عندما يصوم رمضان فيكون حاله بعد رمضان أفضل منه قبله . ويستمر حاله كذلك بعد عبادة الزكاة وعبادة الحج . وهكذا يصير من حسن إلى أحسن بعد ممارسة كل عبادة يتدرب خلالها على المعاملات الموفقة الخاضعة لنواميس وقوانين الله عز وجل . أما إذا كان حاله نحو الأسوأ بعد ممارسة كل عبادة فهو مجرد لاعب وعابث في عبادته ليس له منها إلا النصب . وليس من قبيل الصدفة أن يسأل الإنسان يوم القيامة عن صلاته فإذا صلحت صلح سائر عمله ، وإذا فسدت فسد سائر عمله كما جاء في الأثر بمعنى أن الذي لم يستطع خلق العلاقة الجدلية بين عبادة الصلاة وباقي معاملاته ، أي الذي لم يخضع لله تعالى في معاملاته خضوعه له في عبادة الصلاة أفسد كل عمله ، وأفسد صلاته أيضا لأنه لم يجعلها صلاة ناهية له عن الفاحش والمنكر من المعاملات ، وعاش حالة الانفصام بين العبادة والمعاملة .

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *