الإخفاق في كوبنهاغن مخاطرة بإبادة بشرية تلويث المناخ صناعة بضع دول.. والكوارث الأكبر من نصيب بقية الدول
الرئيس الأمريكي والرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية والرئيس الروسي وسواهم من الرؤساء ورؤساء الحكومات في البلدان المسؤولة عن الأوضاع الخطيرة للمناخ العالمي.. جميعهم اعتبروا نجاح قمة كوبنهاغن للمناخ العالمي ضرورة حيوية للبشرية، وجميعهم أعربوا بعد انفضاضها مباشرة – أو عبر الناطقين بأسمائهم – عن الانزعاج لإخفاقها.. فمن المسؤول؟
جميعهم طالبوا من قبل الدولَ الناهضة والنامية بعدد من الالتزامات لتجنب مزيد من الكوارث المناخية، وجميعهم رفضوا قبل القمة وبعدها الإعلان عن التزامات واضحة من جانب بلدانهم للهدف نفسه.. والجميع يتدافع المسؤولية عن الإخفاق.
ليس عسيراً تحديد هذه المسؤولية، ما بين دول من قبيل توفالاو، الدويلة القائمة على جزيرة صغيرة في المحيط الهادي، يتهددها الغرق كلية في غضون العقود القادمة، وأخرى ناهضة كالصين الشعبية التي يسكنها سدس العالم وترفض أن يكون الحدّ من انبعاث غازات الاحتباس الحراري على حساب نموها الاقتصادي المتسارع، وبضعة دول صناعية كالولايات المتحدة الأمريكية التي سبقت سواها ثراء ونمواً كما سبقت سواها تلويثا للبيئة المناخية!..
المناخ.. في عبارات مبسطة
ليست قضية المناخ جديدة، وقد أصبحت ملحة حديثا، وكانت البدايات في سبعينات القرن الميلادي العشرين مع طرح قضايا البيئة الطبيعية، فانعقد أول مؤتمر حول المناخ في جنيف في 12/2/1979م، ثم تتابعت المؤتمرات حتى انعقدت اتفاقية كيوتو 1993م، فكانت أولى الخطوات على صعيد إدراك حجم المشكلة، وينتهي سريان مفعول هذه الاتفاقية عام 2012م، كان من المفروض التوصل إلى اتفاقية أشمل بديلة عنها خلال قمة كوبنهاغن 2009م.. فأخفقت القمة.
أول ما يطالعنا في متابعة الأزمة المناخية وتطورها اعتمادُ مؤشر وسطي حرارة الأرض سنوياً مرتكزاً رئيسياً في الدراسات والتنبؤات والحلول المطروحة.. ماذا يقول هذا المؤشر؟
1- مع بداية التصنيع في الغرب، أي حوالي عام 1860م كان الوسطي السنوي لحرارة سطح الأرض 15 درجة مئوية.
2- خلال 130 عاماً (حتى عام 1990م) ارتفع هذا الوسطي ستة أعشار الدرجة.
3- خلال الفترة نفسها ارتفع حجم غاز ثاني أكسيد الفحم (الكربون) المنبعث من حركة التصنيع، من 100 طن إلى 6000 طن سنوياً.
4- كانت الفترة الحاسمة في تسجيل هذا الارتفاع المتوازي هي فترة التصنيع بين عامي 1895 و1940م.
5- حسب الدراسات الحالية ارتفع مستوى مياه المحيطات وسطياً منذ بداية التصنيع إلى عام 2001م بما يعادل (عُشري الميلمتر) سنوياً، فناهز بالمجموع 20 سنتيمتراً، منها 2 سنتيمتر في القرن الثامن عشر و6 سنتيمترات في القرن التاسع عشر. وسطي الارتفاع الثابت قياساً بين 1961 و2003م يعادل 1،7 (واحد وسبعة أعشار) الميلميتر سنوياً.
6- إذا استمر ارتفاع وسطي حرارة الأرض على هذا النحو، ستكون زيادة ارتفاع مستوى مياه المحيطات أكبر وأسرع، ولها نتائج كارثية، منها نتائج مباشرة (
أ) غرق جزر وبلدان وسواحل بحرية بأكلمها
(ب) ازدياد زحف الجفاف والتصحر
(ت) ازدياد سرعة وتيرة الكوارث الطبيعية وقوتها.. أما النتائج غير المباشر وفق تصورات مستقبلية أكثر تفصيلا فتدور حول انتشار المجاعات والأوبئة ونقص المياه..
7- بناء على ذلك توضع نتائج أخرى تحت عنوان «توقعات أمنية مستقبلية»، تدور حول الهجرات البشرية الكبرى، والصراعات المحلية والإقليمية على متطلبات الحياة الأساسية والنزاعات العالمية، إلى درجة ما يسري عليه وصف «الحروب المناخية».
كيف تتحد المسؤولية عن هذا التطور المناخي؟ هنا يسري بصورة عامة، أي دون ربط الأسباب بما ينبغي أن يترتب عليها من إجراءات تطبيقية ضرورية والتزامات تمويلية:
الاحتباس الحراري.. في القفص
ما هي أطروحات المواجهة الوقائية من الكوارث المناخية؟
جميع ما جرى تداوله قبل قمة كوبنهاغن وأثناءها، لم يصل إلى مستوى حاسم يربط بين «حجم الخطر المتوقع» و«هدف الإجراءات المضادة المحتملة».
بتعبير آخر لم يُطرح قط هدف أقصى من قبيل اتخاذ كافة الإجراءات الضرورية من أجل عدم ارتفاع وسطي حرارة الأرض أصلا، بالمقارنة مع الوضع الحاضر أو ما كان عام 1990م المعتمد منذ «اتفاقية كيوتو» كمعيار لما يوضع من أهداف.
1- تنطلق الأطروحات الدولية واقعياً من الحرص على ألا يصل ارتفاع مستوى مياه البحر إلى درجة تهدد البلدان الصناعية إلا بصورة محدودة للغاية.
2- بالمقابل توجد بلدان تتعرض للغرق بنسبة تزيد على نصف مساحتها الحالية مثل بنغلادش، أو للغرق كلية والاختفاء من خارطة العالم، مثل دول الجزر القائمة في المحيط الهادي كدويلة توفالو المذكورة آنفا.
3- لا ريب في أن من العوامل الحاسمة لهذا الاستعداد، ما تقول به الدراسات المستقبلية بشأن تعرض مناطق كبيرة من الاتحاد الأوروبي لمخاطر ذوبان ثلوج القطب الشمالي وجبال الألب.
4- من المعروف أن الولايات المتحدة الأمريكية التي امتنعت طويلاً عن المشاركة في أي تحرك وقائي على صعيد المناخ، عرضت مؤخراً، تخفيض نسبة انبعاث ثاني أكسيد الفحم بمعدل 17 في المائة. ولكن تكمن وراء هذا الرقم «لعبة سياسية ومالية»، وبعملية حسابية بسيطة، يتبين أن الحصيلة ستكون «عدم زيادة الانبعاث الغازي» عام 2020م على ما كان عليه عام 1990م، بينما يُفترض أن يكون التخفيض الأوروبي بمعدل 40 في المائة آنذاك.
5- رغم أن آخر الدراسات الأمريكية (وكانت حكومة بوش الابن ترفض الدراسات الدولية) تقول وفق مركز التبدلات المناخية الناشئ عام 2009م، إن المطلوب لتجنب كوارث مناخية، أن يكون حجم انبعاث الغازات عالمياً في عام 2050م في حدود 50 في المائة مما كان عليه عام 1990م.
المال أهم من المناخ
يدور الخلاف الذي أدى إلى إخفاق قمة كوبنهاغن حول محورين: الإجراءات الوقائية الضرورية مناخياً، والتمويل الضروري لتنفيذ هذه الإجراءات.
1- انطلق الموقف الأمريكي من رفض الالتزام القطعي بنسب ثابتة، بحجة أن الرئيس الامريكي لا يستطيع تمرير ما يريد عبر الكونغرس الأمريكي. وفي الوقت نفسه طالب الطرف الأمريكي الدول الأخرى المعنية، ولا سيما الصين، بالتزام قطعي بنسب محددة، وهو طلب يشمل الدول الناهضة والنامية من حيث الالتزام بتقنيات تصنيع متطورة في نموها الاقتصادي، تمنع أن يرتفع قسطها من الانبعاثات الغازية مستقبلاً.
2- انطلق الموقف الأوروبي بعدم الإقدام على التزام إضافي، يتجاوز به ما سبق في اتفاقية كيوتو(1993م)، إلا في حالة التزامات قطعية من جانب الولايات المتحدة الأمريكية والدول الناهضة في الدرجة الأولى.
3- تقدر التكاليف المالية على الدول النامية لتلبية طلبات الدول الصناعية في حركة تصنيع محتملة، بمئات المليارات سنويا، وترفض الدول النامية تحمّل هذه التكاليف بنفسها، مما يعني لو صنعت استحالة تحقيق أي تصنيع أصلاً، سواء كان يلوث البيئة المناخية أو لا يلوثها!..
4- أقصى ما طُرح على صعيد مساهمة الدول الصناعية بالتكاليف المالية في الدول النامية، هو ما لخصه الرئيس الأمريكي دون التزام قطعي، ويتمثل في مرحلتين، الأولى لأعوام 2010-2012م بحجم 25 مليار دولار (17 مليار يورو)، والثانية بعد عام 2020م بحجم 100 مليار دولار سنوياً.
5- لبيان القيمة الحقيقية لهذه الأرقام، يمكن الإشارة إلى آخر القوانين الصادرة أوروبياً بشأن طريقة البناء بما يراعي قواعد التدفئة للتخفيف من الأضرار المناخية، وتقول هذه الدراسة إن تنفيذ هذا القانون في ألمانيا كمثال يتطلب ما يعادل 3 بليون (3000 مليون) يورو.. وهذا في بلد واحد، في قطاع واحد، يرتبط بإجراءات الوقاية المناخية.
6
– لم يصدر في قمة كوبنهاغن اعتراض على الأرقام التمويلية المعروضة، إنما كان عرضها في صيغة غير إلزامية للدول الصناعية، مع مطالبة الدول النامية بصيغة إلزامية في ما يتعلق بإجراءات التصنيع ومراعاة وقاية البيئة المناخية. وهذا في الدرجة الأولى ما جعل الحصيلة التي وصل إليها اجتماع جزئي بين ممثلي 30 دولة صناعية وناهضة، لا تجد موافقة الدول النامية في اليوم الأخير (الإضافي) للمؤتمر الذي استمر أسبوعين.. فكانت النتيجة تأجيل الاتفاق إلى مؤتمر قادم من المفروض أن يعقد في مدينة بون بألمانيا عام 2010م.
الحصيلة هي بصورة مبسطة أيضاً
لوّث التصنيع من جانب البلدان الصناعية مناخ الأرض، ووزع كوارثه على بلدان العالم جميعاً، وبدأت الدول الناهضة المشاركة بهذا التلويث، أما الكوارث المناخية الأكبر فهي من نصيب الدول النامية الفقيرة، وتريد الدول الصناعية أولاً والناهضة ثانياً، أن تتحمل قسطاً من العبء المالي المترتب على إجراءات مستقبلية، في حدود ما يمكن أن يخفف نتائج الكوارث المناخية داخل نطاقها، وفي حدود ما يمنع أن تضيف حركة تصنيع ضرورية حياتياً في البلدان النامية مزيداً من أسباب التلويث المناخي.
إنه منطق العالم الصناعي المعاصر.. الذي يضع معايير المال والمصالح الذاتية المرتبطة به، فوق أي مصلحة بشرية مشتركة أخرى، ولو كانت العواقب أشبه بالإبادة البشرية الجماعية.
Aucun commentaire