كثيرا ما ينسب البعض سير المشروع الحضاري الإسلامي في مساره الصحيح أو تحقيقه للنجاح في هذا المسار إلى جهد الدعاة باعتبارهم القادحين لزناده دون اعتبار جهد الأمة التي تصنع الدعاة وتحتضنهم وتيسر لهم سبل الدعوة من أجل قيام المشروع الحضاري الإسلامي .و لقد ضرب لنا الله عز وجل أمثلة للدعاة من أصفيائه الأنبياء والرسل الذين لم تتهيأ لهم الأمة المحتضنة ، فلم تحقق دعوتهم المنشود بل حققت المحظور من عذاب الله وعقابه . فمن أمثلة هؤلاء الدعاة نبي الله ورسوله نوح عليه السلام الذي قال فيه الله تعالى  » (( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون )) فهذا نموذج النبي الرسول الداعية الذي لم تشأ عناية الله عز وجل أن يقع بينه وبين قومه تناغم من أجل مشروع حضاري إيماني صالح لتدبير شؤون الحياة في ذلك الزمان البعيد . وبالرغم من مؤهلات النبي الرسول الداعية ومن طول مدة الدعوة فقد كانت النتيجة كما وصفها القرآن الكريم : (( وما آمن معه إلا قليل )) . فليست قلة المؤمنين بدعوة نوح عليه السلام نتيجة لعيب في الدعوة أو الداعية ، وإنما نتيجة انعدام التناغم بين الداعية وقومه ،ذلك أن أحد طرفي نجاح الدعوة لم يكن في الموعد وفي المستوى فكانت النتيجة عوض قيام مشروع حضاري إيماني دمارا شاملا لأن في غياب المشروع الحضاري الإيماني لا ينتظر إلا الدمار وإن اختلفت أساليب الدمار من عصر إلى آخر ومن مصر إلى آخر. ومقابل نموذج الداعية النبي نوح يذكر القرآن الكريم نموذج الداعية النبي يونس عليهما السلام حيث يقول الله تعالى : (( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين )) فالمفارقة العجيبة أنه مقابل صرف الداعية النبي نوح عليه السلام ألف سنة في الدعوة مع قومه لم يجن إلا قلة من الأتباع ، نجد النبي الداعية يونس لا يصرف وقتا طويلا في الدعوة لتكون النتيجة ألفا أو يزيد من الأتباع . وهذا لا يعني أن طريقة النبي الكريم يونس كانت أفضل من طريقة النبي الكريم نوح بل الطريقتان من وحي الله عز وجل وليس فيهما تقصير ، وإنما قوم يونس كانوا في الموعد وفي المستوى وفق إرادة الخالق سبحانه وتوفيقه، وهو ما لم ييسره سبحانه لقوم نوح. وإذا كان القرآن قد ذكر طرق دعوة نوح عليه السلام والتي تراوحت بين الجهر والسر والليل والنهار مصداقا لقوله تعالى : (( قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا )) فإنه قد ذكر طريقة يونس عليه السلام وهي طريقة المغاضبة حيث قال الله تعالى : (( وذا النون إذ ذهب مغاضبا )) فليس إعلان وإسرار نوح هو السر وراء تعطل المشروع الحضاري الإيماني في عصره ، كما أنه ليست مغاضبة يونس هي السر وراء نجاح المشروع الحضاري الإيماني في عصره ، وإنما إرادة الله عز وجل هي التي تيسر التناغم بين الداعية وأمته لتكون النتيجة هي نجاح المشروع الحضاري الإيماني. وها نحن نعيش في زمن يراهن فيه الناس على أحد طرفي المشروع الحضاري الإيماني ، فبعضهم يجعل نجاح هذا المشروع رهينا بحذق الدعاة وخبرتهم ، وقوة التأثير عندهم في الناس ، والبعض الآخر يجعل نجاح هذا المشروع متوقفا على وجود استعداد أمة بدون دعاة. فلا هذا الرأي ولا ذاك يصيب كبد الحقيقة وإنما الحقيقة هي وجود طرفي المشروع الحضاري الإيماني الفاعلين طرف الدعاة وطرف الأمة مع وجود التناغم التام بينهما. فكم من داعية سبق ظرف التناغم فلم تؤت دعوته أكلها وربما استفادت منها أمة متأخرة عن عصره بقرون لتوفر عنصر التناغم بين داعية سابق وأمة ومتأخرة . ونموذج سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو النموذج الأمثل للداعية السابق الذي تتناغم معه الأجيال فتكون النتيجة نجاح المشروع الحضاري الإيماني في فترات تاريخية مختلفة . قد يصاب بعض الدعاة بالإحباط وخيبة الأمل وهم يعاينون تعثر مشروعهم الحضاري الإيماني بسبب تأخر أمتهم عن الموعد ، وربما ظن بعضهم الظنون بطرق دعوتهم والحقيقة أنه لكل أجل كتاب. قد يقول البعض إن طرق الدعوة لها تأثير في نجاح المشروع الحضاري الإيماني فنقول قد يكون ذلك صحيحا ولكن إذا صادفت هذه الطرق استعدادا في الأمة لقبولها. ويمكن أن نقول أيضا إن بعض طرق الدعوة قد يكون لها التأثير السلبي مع أنها سليمة منطقيا لأن تزامنها مع ظرفية غير مناسبة يحول دون تحقيقها للمرجو منها. وقد يعترض بعض الناس على طرق دعوة جازمين بفشلها ولكنها تأتي بخير وبعكس ما توقعوا ، وقد يراهنون على طرق أخرى فتخيب آمالهم لأن المعول عليه هو تناغم بين الدعاة والأمة. وإنه ليمكن القول إن الأمة تصنع الدعاة تماما كما يصنع الدعاة الأمة. والذي لا يجوز لأحد الطرفين هو الاغترار بالدور فلا الدعاة يحق لهم أن يحدثوا أنفسهم بنسبة نجاح المشروع الحضاري الإيماني لأنفسهم مفاخرين على الأمة بفضلهم ، ولا الأمة يحق لها أن تحدث نفسها بنسبة نجاحه إلى نفسها مفاخرة بفضلها على الدعاة. فكم من داعية أخذه الزهو والغرور وهو يعاين نجاح المشروع الحضاري الإيماني ، وينسبه إلى بنات أفكاره ضاربا عرض الحائط ما سخره الله عز وجل من جهود أمة برمتها لنجاح هذا المشروع ، ولمثل هذا في نوح ويونس عليهما السلام عبرة .ولأمر ما يقول المثل المغربي العامي للشيء الناجح إن مثل نجاحه كمثل الحناء المتناغمة مع جمال اليد . فلا الحناء وحدها تضفي جمالا على اليد ، ولا اليد
وحدها تكسب جمالا بدون حناء فلا بد من انسجام بين الإثنين فكذلك الشأن بين الدعاة والأمة. وقد يزهد بعض الدعاة في بعض مساعديهم المخلصين وهم يراهنون على نجاح المشروع الحضاري الإيماني ولا يلقون بالا لدور هؤلاء المساعدين الذين يبذلون جهودهم في صمت وخفاء وبنكران ذات وزهد فيما يطمع فيه الطامعون من مكاسب ، وغايتهم أن يروا المشروع الحضاري الإيماني شامخا مقابل الاعتماد على جهود الطامعين في المكاسب والذين يضللون الدعاة بقدرتهم على الادعاء الكاذب على خدمة المشروع الحضاري الإيماني ، والحقيقة أنهم مجرد متسللين ومتطفلين على الحقل الدعوي للتمويه على طلبهم عرض الدنيا الزائل على حساب المشروع الحضاري الإيماني شأنهم شأن الذباب الذي يعلو الطعام الطيب لينال من طيبه في أعين الطاعمين مقابل أن يغمس فيه أذرعه القذرة. فرب مشروع حضاري إيماني ناجح بكل المقاييس وبشهادة الأعداء قبل الأصدقاء يحاول المرتزقة بهذا المشروع والمتزلفون إلى الدعاة المخلصين الصادقين تشويه هذا المشروع بانتسابهم إليه ، والحقيقة أنهم متطفلون مغرضون لا يهمهم نجاح هذا المشروع بقدر ما تهمهم مكاسبهم الشخصية منه. وإن هذه الشرذمة لتكيد لكل المخلصين الذين يريدون النجاح للمشروع الحضاري الإيماني ، وتحاول صرف الدعاة عنهم بالوشاية الكاذبة والبهتان ، وهي تخشى أن يفضح إخلاص هؤلاء المخلصين أطماعهم وما وراءها من خبيث النوايا والطوايا. وقد يكون اللبيب من الدعاة على دراية تامة بالمخلصين وبالطامعين ولكنه لا يلتفت إلى الطامعين ولا يعيرهم اهتماما ولربما صرفهم عن عرقلة المشروع الحضاري الإيماني بملء بطونهم وتحقيق أطماعهم صيانة لسير المشروع السير العادي. وقد ينبهه الناس إلى جشع الطامعين فلا يحتفل به لأن همه أكبر من ذباب يغمس أذرعه النجسة في طيب الطعام الذي يفيد أمة برمتها. وإرادة الله تعالى أن يهيأ للمشروع الحضاري الإيماني النجاح بالرغم من وجود الطامعين الناقمين على المخلصين ولحكمة قالت العرب كل إناء يرشح بما فيه. وعند الله عز وجل جزاء المخلصين والطامعين على حد سواء وهو الذي لا تخفى عنه سرائر الطرفين .