وداعا ـ حورية ــ ..وداعا..!
« ارفعي يا أمي السماء عني قليلا لأتمكن من الكلام..أحملك بين يديّ سلاما سلاما..أيتها الجالسة في ماء قلبي تعالي..على قدر حلمنا ستتسع الأرض..هي طريق الصعود الى شرفات السماء »..الشاعر الراحل محمود درويش.
غادرتنا وبدون رجعة الحاجة حورية درويش والدة شاعرالقضية الفلسطينية ومقاومتها الراحل محمود درويش..غادرتنا بعد قرابة قرن من الحياة..ومن العطاء..فأشبالها متميزون كل في مجاله ولكن الأكثر تميزا كان محمود..محمود درويش الذي عاش منفيا في وطنه ثم عاش منفيا خارج الوطن..وعندما عاد الى الوطن بعد رحلته الأخيرة..رحلة العلاج, عاد اليه ليدفن في رام الله..وما الفرق بين رام الله والبروة والجديدة..انها أرض فلسطين الطاهرة.
غادرتنا حورية بعد أن تركت تعاليمها تضيء نجوم كنعان حول مرآة ولدها وترمي في قصيدته الأخيرة شالها..هي حورية التي قدمت من الجديدة الى رام الله لتحضر جنازة ابنها وتلقي عليه النظرة الأخيرة..جاءت في سيارة الإسعاف غير قادرة على المشي، لترى منامه واضحا حتى تطيل ما تبقى من ليلها لتحرسه في أبديته البيضاء.
لقد قهرت حورية ملاك الموت لكي تستطيع مشاهدة ابنها بعد غيابه القسري الطويل عن أرض الوطن وكان لها ذلك..ستة شهور مرت وحسرة فراق ابنها تلازمها الى أن جاء اليوم الذي تغادرنا فيه لتلتحق من جديد بولدها وليتم العناق الأبدي بينهما..لم يتمكن درويش من مرافقة والده في لحظاته الأخيرة بحكم الحقد الصهيوني الذي منعه من ذلك..ولم يتمكن من مرافقة والدته في لحظاتها الأخيرة بحكم القدر..والان كلهم يلتقون ويتوحدون من جديد ويتم جمع الشمل الذي لم يتحقق في خضم هذه الحياة القاسية..ولكن المهم انه تحقق.
أنا لست لي، أنا لأمي، هذه هي قصائد محمود درويش وملاحمه التي ظلت تحوم حول والدته »حورية » وحياتها في كل زمان ومكان، وكان يعرف أنه سيفارق الحياة قبلها وما أصعبها من معرفة..هو الشقي الذي فخخته القصائد كما يقول، مصابا بالمنفى هنا وهناك ، لم تسعفه البلاغة والاستعارات في التحايل على الموت رغم تغيير إيقاعه المستمر..حاول قهر الموت..قهرتك يا ملاك الموت كما كان يقول..احتشى القهوة في العديد من الأمكنة وبكل أنواعها ولكن لم تطب له قهوة غير قهوة أمه الفائضة بالحنين..نعم وهل بعد قهوة الأم قهوة؟.
يذكر ان دوريش قال في غربته أشعارا لوالدته وكان أشهرها ما غنى مارسيل خليفة وتحمل عنوان « أمي »: »أحنُّ إلى خبز أمي وقهوة أمي..ولمسة أمي..وتكبرُ فيَّ الطفولة يوماً على صدرً امي..وأعشق عمري لأني، إذا مُتُّ أخجل من دمع أمي »..لقد جف الخبز وتبخرت القهوة ولم يحضر محمود,ولكن القلب بقي نابضا بانتظاره وما أصعبه من انتظار..طال الانتظار ولم يشرب محمود قهوة أمه ..لقد شربها ملايين الفلسطينيين بل ملايين العرب الذين أحبوه وأحبهم..فكل أم فلسطينية وعربية هي حورية درويش..!.
غادر محمود قبل أن تغادر والدته ولسان حالها يقول »مع اعتذاري للشاعر الفلسطيني البارز سميح القاسم والذي اقتبس هذه الكلمات من قصيدته في رثاء صديقه درويش مع تغيير بعض كلماتها »..إذاً أنتَ مُرتحلٌ عَن دِيارِ الأحِبَّةِ في زّوْرَقٍ للنجاةِ..على سَطْحِ بحرٍ أُسمّيهِ يا ولدي أدمعك..ولولا اعتصامي بحبلٍ مِن الله يدنو سريعاً..ولكنْ ببطءٍ..لكُنتُ زَجَرْتُكَ: خُذني مَعَكْ, وخُذني مَعَكْ..!
ومن قصيدة »تعاليم حورية »,نقرأ: فكرت يوما بالرحيل،حط حسون على يدها ونام..وكان يكفي أن أداعب غصن دالية على عجل..لتدرك أن كأس نبيذي امتلأت..ويكفي أن أنام مبكرا لترى منامي واضحا، فتطيل ليلتها لتحرسه..ويكفي أن تجيء رسالة مني لتعرف أن عنواني تغير، فوق قارعة السجون، وأن أيامي تحوم حولها..وحيالها.
ومهما كبر الولد وتقدمت به السن الا أنه يبقى ولدا في تصور أمه له..وفي هذا الخصوص يقول درويش: » لا نلتقي إلا وداعا عند مفترق الحديث..تقول لي مثلا: تزوج أية امرأة من الغرباء،أجمل من بنات الحي..لكن، لا تصدق أية امرأة سواي..ولا تصدق ذكرياتك دائما..لا تحترق لتضيء أمك، تلك مهنتها الجميلة..لا تحن إلى مواعيد الندى..كن واقعيا كالسماء..ولا تحن
إلى عباءة جدك السوداء، أو رشوات جدتك الكثيرة، وانطلق كالمهر في الدنيا..وكن من أنت حيث تكون..واحمل عبء قلبك وحده..وارجع إذا اتسعت بلادك للبلاد وغيرت أحوالها »..هذا عهو قلب الأم النابض دوما نحو ولدها..قلب لا يعرف الكلل.
ويختتم درويش »تعاليم حورية »قائلا: »أمي تضيء نجوم كنعان الأخيرة، حول مرآتي، وترمي في قصيدتي الأخيرة، شالها »..!..نعم لقد رمت حورية شالها فوق قصيدة فلذة كبدها الأخيرة ورحلت حورية بعد رحيل ولدها وهذا ما كان يتوقعه ويدركه محمود..لقد رثى محمود الكثيرين وحتى نفسه الا أنه لم يتمكن من رثاء أعز من كانت تستحق الحياة..فوداعا يا « حورية » وداعا..!.
Aucun commentaire