اختلال النسب والزواج بين سياق الألفاظ والنوايا
أولا:الحياة الزوجية في مهب مخارج الحروف
الدكتور محمد بنيعيش
قد نجد كثيرا من الفتاوى والفرضيات الأرأيتية ،حول الطلاق اللفظي وصيغه، مما هو مبثوث بكثرة في « المدونة الكبرى » للإمام مالك، وكتب أخرى فقهية ،ما يكون الهدف منها بالدرجة الأولى هو ضبط الحياة الزوجية ،وبالتالي الحفاظ على سلامة النسب من الضياع ،والذي قد يكون سببه الكلمة والنية والسياق وأيضا الإشارة حينما يقتضيها الظرف والحال ،وهذا لا يعني جعل الحياة الزوجية مبنية على الهواء ومخارج الحروف ،وإنما المقصد منه ضبط النوايا وصحتها في التعامل الأسري الذي هو أساس المجتمع واستقراره.
كما أنه بالضرورة يتدخل التصوف الذوقي والسلوكي إلى جانب الفقه في المذهب المالكي لتحديد مفهوم النية نفسها والتمييز بينها وبين حديث النفس والأهواء والوساوس ،وهذه المواضيع كلها تدخل في علم السلوك والأخلاق الباطنية ،ومن هنا تكون ضرورة تلازم الفقه والتصوف في وعي المسلمين وخاصة أهل الفتوى والقضاء ، حتى يضبطوا أحكامهم وتصبح أعمالهم ذات معنى روحي وسلوكي ثابت ومنتج !
بحيث لا ينبغي لموضوع الطلاق أن يبقى لعبة في يد الرجل يوقعه متى شاء ويتصرف كيف يشاء!،رغم أن بيده العصمة في الحياة الزوجية ،إذ قد يكون تدخل السلطان أو القاضي حاسما في تهذيب حقوق الزوج في هذه العصمة وتوجيهها أخلاقيا وقضائيا حتى يتقلص التلاعب بهذا الحق وتتناقص العقد والمشاكل النفسية المترتبة عن التساهل في توظيف ألفاظ الطلاق وما يرتبط بها من إجراءات وسياقات ونوايا كما سبق وبينا.
إن موضوع الطلاق وإيقاعه قد أصبح مهملا في مجال التقاضي، فأخذ شطر الإباحة الفقهية في إطلاق وأغفل المحظور منه في باب الأخلاق والمعاملة الحسنة للزوجة واحترام الحقوق المعنوية لها.
فقد غدا لفظ الطلاق كلمة توظف في غير حق وبغير أسباب موضوعية وضرورية ،بحيث كما نجد في أمثلة الفقهاء من يعرض نماذج كقول الزوج لزوجته التي وقفت على السلم:إذا صعدت درجا فأنت طالق وإذا نزلت درجا فأنت طالق،أو أن يقول لها أنت طالق إذا لم تكوني مثل البدر! .
من ثم يبدأ الفقهاء أو القضاة في البحث عن حل هذه المشكلة الرعناء ما حكمها وما طريقة حلها ،وهل يقع الطلاق على الزوجة بسبب هذا اليمين أم لا ؟.
بحيث إن المرأة في المثال الأول سيكون عليها لكي تتخلص من هذه الورطة أن تقفز من السلم كلية، وهذا يعني تعريض نفسها لكسر عظامها عوض كسر حياتها الزوجية بإيقاع الطلاق عليها بذلك اليمين!.
ثانيا: القضاء والأذواق في صيانة الحياة الزوجية من العبث
لكن حينما نراجع مواقف أهل المعرفة والأذواق والحكم الصادق والصحيح من الصحابة رضوان الله عليهم نجد لديهم نماذج حاسمة في صيانة الحياة الزوجية من العبث والتلاعب بسبب امتلاك حق الطلاق والعصمة من طرف الزوج ،وذلك الزجر والتأديب ربما قد يؤدي إلى ضرب الزوج أو حتى الزوجة إن كان التلاعب من جهتها ،كما يروي البيهقي وابن أبي شيبة أن رجلا بالمدينة طلق امرأته ألفا فرفع إلى عمر فقال:إنما كنت ألعب ،فعلاه بالدرة وقال: إنه كان يكفيك ثلاث…وفرق بينهما،وكما جاء في المدونة أن علي بن أبي طالب كان يعاقب الذي يطلق امرأته ألبتة ».
وروى عبد الرزاق عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: »طلق غيلان نساءه وقسم ماله بين بنيه في خلافة عمر رضي الله عنه ،فقال عمر :طلقت نساءك وقسمت مالك بين بنيك؟قال:نعم ،قال:والله إني لأرى الشيطان فيما سرق من السمع سمع بموتك فألقاه في نفسك ،فلعلك أن تمكث إلا قليلا ،و أيم الله لئن لم تراجع نساءك وترجع في مالك لأورثهن إذا مت،ثم لآمرن بقبرك فليرجمن كما يرجم قبر أبي رغال…قال: فراجع نساءه وأرجع ماله .قال نافع:فما مكث إلا سبعا حتى مات … ».
هذا النص الأخير فيه نوذج الجمع بين الحكم القضائي المؤسس على القرينة أو السياق والحكم الباطني المبني على الكشف أو الفراسة والإلهام !.
إذ الحاكم حسب بعض المذاهب لا يحكم بعلمه ،وهو ما عليه مذهب مالك،ولكن حينما تجتمع القرائن المؤيدة ظاهريا أو المرجحة لعلمه الباطني بالمسألة فإنه يحكم حينئذ بتلك القرائن وبالعلم الذي اطمأن قلبه إليه .
فالقرينة هنا هي المرض المتوقع منه الموت ،ومن ثم فالطلاق كان من أجل حرمان النساء حقهن في الميراث إضرارا بسبب مغريات ودوافع يكون سببها الأولاد والورثة الآخرون …
من ثم فالإجراء غير موضوعي ولا أخلاقي أو سليم وإنما فيه تضييع لحقوق النساء ليس له من دافع سوى أهواء النفس ورغباتها، ولهذا كان لابد من استدراك هذا الأمر والحيلولة دون إيقاع الطلاق بهذه المرأة ومن هذه الدوافع .
فحيث أنه قد وقع شفويا ؛وهذا ناجز لا مرد له ،لأنه صدر باللفظ والنية والسياق كما سبق وبينا ،فإنه لابد من اتخاذ الإجراء الآخر لسد هذه الذريعة يحول دون فتحها على مصراعيها أهوائيا ومزاجيا ،وذلك بالزجر والتهديد بإيقاع العقوبة المادية والنفسية على المطلق بعد وفاته والتشهير بسوء تصرفه عبرة لأمثاله،وهذا ما ينبغي أن يسلكه القضاة بأسلوب شرعي في المغرب بعد صدور البيان الملكي الخاص بإصلاح مدونة الأحوال الشخصية والتي أصبحت معروفة بمدونة الأسرة وذلك في خطاب الجمعة 14 شعبان 1424 هـ الموافق 10أكتوبر 2003.
بحيث تضمن الحديث عن مشروع الإصلاح وخاصة في النقطة السادسة منه وهي جعل: » الطلاق حلا لميثاق الزوجية يمارس من قبل الزوج والزوجة كل حسب شروطه الشرعية وبمراقبة القضاء ،وذلك بتقييد الممارسة التعسفية للرجل في الطلاق بضوابط،، تطبيقا لقوله عليه السلام: »إن أبغض الحلال عند الله الطلاق »بتعزيز آليات التوفيق والوساطة بتدخل الأسرة والقاضي ،وإذا كان الطلاق بيد الزوج فإنه يكون بيد الزوجة بالتمليك ،وفي جميع الحالات يراعى حق المطلقة في الحصول على كافة حقوقها قبل الإذن بالطلاق … ».
فمبدأ التمليك قد نصت عليه مدونة الأسرة في المادة 89: »إذا ملك الزوج زوجته حق إيقاع الطلاق كان لها أن تستعمل هذا الحق عن طريق تقديم طلب إلى المحكمة طبقا لأحكام المادتين 79و80أعلاه.
_ تتأكد المحكمة من توفر شروط التمليك المتفق عليها بين الزوجين وتحاول الإصلاح بينهما طبقا لأحكام المادتين 81و82أعلاه.
_إذا تعذر الإصلاح تأذن المحكمة للزوج بالإشهاد على الطلاق ،وثبت في مستحقات الزوجة والأطفال عند الاقتضاء تطبيقا لأحكام المادتين 84و85أعلاه.
_لا يمكن للزوج أن يعزل زوجته من ممارسة حقها في التمليك الذي ملكها إياه ».
إذن فالحكم القضائي هنا له أبعاد مادية ونفسية وروحية أخلاقية ،أي هناك تشابك بين الفقه والتصوف في الظاهر والباطن لا يمكن فصلهما عن بعضهما بغير ضرورة أو دافع موضوعي ،كما لا يمكن فصل الرجل عن المرأة بنفس السبب وبغير مبرر شرعي ومعقول.
و من هنا فقد كان للمالكية موقف من طلاق المريض هو أقرب إلى العقوبة والزجر منه إلى مجرد حكم فقهي وقضائي إجرائي،وذلك في الفتوى الموالية كما عليه المدونة الكبرى: »قلت:فهل ترث المرأة أزواجا كلهم يطلقها في مرضه ثم تتزوج زوجا ،أنورثها من جميعهم أم لا في قول مالك؟ ،قال:لها الميراث من جميعهم،قال مالك :وذلك لو طلقها واحدة ألبتة وهو مريض وتزوجت أزواجا بعد ذلك كلهم يطلقها ورثت الأول إذا مات من مرضه ذلك ».
فهذا ضمان لحقوق المرأة وبالتالي فيه حماية لحقوق الطفل ونسبه من خلال ضبط الكلمة والنية والإجراء في الحياة الزوجية حتى لا تتعرض للبطلان أو تقع في الفساد الذي قد يكون فسادا في العقد وفسادا في الصداق وعلاقته بامتدادات الحمل ونسبه.
فإذا كانت حماية النسب سواء تعلق الأمر بالطفل أو المرأة بالدرجة الأولى والرجل أحيانا كثيرة قد تتحقق رغم وجود الزواج الفاسد بإجراءاته ونواياه ،وكذلك المتلفظات والسياقات الطارئة على الحياة الزوجية بحسب العشرة والمعاملة ،فإن الحماية قد تذهب أبعد من ذلك لغاية إثبات النسب بغير وجود بينة أو شروط عقدية من جنس الزواج الصحيح أو الفاسد حتى وهذا! ما عرف عند الفقهاء بالحمل بشبهة في الوطء.
Aucun commentaire