جيل، سي موح،،و،،المول،،
شحلال محمد
خلال دراستي الثانوية بمدينة جرادة، واظبت على اقتناء حاجاتي الصغيرة من دكان رجل عرفته كل ساكنة المدينة .
قدم ،،سي موح،، من منطقة ،،سوس،،كغيره من تجار المدينة المعروفين،وظل يمارس التجارة في دكان استراتيجي ب،،القيسارية،،وكان دكانا مكونا من قسمين : وهكذا فإن الزبون يرى السلع المعروضة في القسم الأمامي،بينما يبدو له قسم اخر خلف البائع له مدخل ضيق ربما كان مخصصا للتخزين.
كانت هذه الدكاكين في ملكية اليهود، قبل نكبة فلسطين سنة 1948 وتداعياتها على المدينة العمالية التي شهدت أحداثا أليمة، تعرض خلالها اليهود لمجزرة حقيقية ونهب لأموالهم،فلما تركوا المدينة،تمكن المغاربة من استغلال هذه المتاجر كل بطريقته.
كان دكان،،سي موح،،يعرض أغلب ما يخطر على البال خاصة ما يغري الأطفال، من قطع الحلوى الرخيصة والحمص الذي يحضر بالطريقة الشعبية المعروفة.
كان التاجر ،،السوسي،، بارعا في تسويق كل شيء،حيث كان يعزل خيوط الخيش( القنب) التي يثبت بها ورق قوالب السكر،ثم يبيعها لنا نحن- معشر الصغار- بعشرة سنتيمات لنستعملها في تشغيل الخدروف.
بالإجمال، كان بوسعنا وكل الزبناء ، أن نقتني جل ما يتناسب مع مدخراتنا البسيطة حينما كانت قطعة،،دورو،،قابلة للصرف،ولكل سنتيم من الخمسة التي تجتمع في هذه القطعة،سلعة مناسبة !
لقد كان،،سي موح،،- رحمه الله- نموذجا في تنمية رأس المال ،عبر ابتكار طرق البيع التي لا تخطر على بال غيره،إذ كان كل شيء عنده قابلا للبيع بما في ذلك ،،الكارطون،،الذي تحفظ فيه المنتجات.
وبمقابل هذا الحرص الشديد على ،،توليد،،إقاريضن،،* فإن تاجرنا كان مواظبا على الصلاة في وقتها كباقي أبناء،،سوس،،المخلصين لدينهم.
كان الدكان على مرمى حجر من المسجد الرئيسي بالمدينة،وكان ،،سي موح،،يغلق دكانه ليصلي خلف الإمام،،سي عمر،،إمام جرادة الأسطوري- رحمه الله-.
في هذه الأجواء عاش رجال جرادة وأبناؤهم،حيث كان أغلب الناس يقتنون حاجياتهم من دكان،،سي موح،،وأمثاله،ولم يكن هناك من متجر متميز،إلا،،المقتصدية،،L,économat المخصصة لعمال المنجم،حيث يتبضعون منها مرتين في الشهر،بينما كانت هناك دكاكين معدودة، تستجيب لرغبات الزبناء الراقين من أجانب وأطر عليا.
نشأت الأجيال المتعاقبة متجانسة في جل مناحي الحياة،مما جعل أفكارها متقاربة، تطبعها روح التضامن والمساوة التي جعلت من ساكنة جرادة طينة خاصة.
وإذا كانت جل المدن المغربية قد عاشت ظروفا متقاربة،صنعت مواطنين يتقاسمون هموم الوطن ومسراته،فإن ما يؤسف له اليوم،أن التجارة ومعاملاتها، قد عرفت ثورة مثيرة جعلت الناس يتخلصون تدريجيا من ،،ثقافة،،الماضي امتثالا لطبيعة ،،المساحات الكبرى،، التي رأت النور مع، مرجان،،قبل أن تتناسل في جل المدن الكبرى عبر مسميات جديدة لا يجمع بينها إلا العصرنة والخروج عن المألوف.
لقد ظهرت متاجر منافسة لسلسلة ،،مرجان،،وعلى رأسها فضاءات،،المول،،وباقي المسميات التي لم تكتف بوفرة المعروضات،بل حرصت على جلب أرقى،،الماركات،، العالمية ناهيك عن المطاعم التي توفر أطباقا محلية وعالمية تستجيب للفضول ولكل الرغبات.
إن ما يلفت في هذه المساحات الكبرى،ليس هو المعروض فيها فحسب،بل هو ما تصنعه هذه المتاجر بعقول أجيال بلادنا،ذلك أن العائلات التي تتبضع منها إنما تعد من أبنائها جيلا متناغما مع تقاليد هذه المتاجر البعيدة عما توارثته باقي الأجيال،حيث يخيل لأبناء علية القوم وكأن كل بلادنا تتسوق بذات الطرق والإمكانيات،وهو ما يجعل من هذا الجيل مخلوقات منفصلة عن واقع الأغلبية التي ما زالت تفتح عند تاجر الحي، دفترا للدفع المؤخر والمتعثر، بما ينجم عن ذلك من تداعيات مؤسفة أحيانا.
لقد تمكنت ،،العولمة المتوحشة،،من تقوية الفوارق الاجتماعية التقليدية عبر المباني الحالمة والسيارات الباذخة،ثم عبر المنتوجات التي تعرضها المساحات الكبرى لمن ابتسمت لهم الدنيا وصاروا ينفقون بسخاء في الضروري و ،،الكادجيت،،بينما تظل أعناق الفقراء مشرئبة نحو السماء لعلها تجود بمطر من شأنه أن يجعل،،البطاطس،،وأخواته في المتناول،في الوقت الذي صار للميسورين أطباقهم وفواكهم القادمة من كل أصقاع الدنيا، وليسوا معنيين بما يجري حواليهم.
لا يسوغ لعاقل أن ينكر ما أحدثته المساحات الكبرى من تغيير في حياة المدن، ووفرته من معروضات لا حدود لتنافسيتها،لكن شرائح عريضة من ساكنة بلادنا،تفصلها سنوات ضوئية عما يحدث بوطنها،وما زالت مجبرة على أن تظل وفية لأمثال،،سي موح،،ومن كان على شاكلته.
لم تفلح نظريات،، ماركس،، ولا،،لينين،،وغيرهما من منظري طرق التطور ،في الحد من الفقر والحرمان،ذلك أن غول العولمة قد فعل فعلته، وصار متحكما في دواليب التجارة العالمية، ليجد المرء نفسه مجبرا على ،،التكيف القسري،،مع كل المستجدات،وإلا كان عرضة لصراع مع أقرب الناس إليه: زوجته وأبنائه الذين يريدون مسايرة غيرهم !
لروحك السلام والسكينة،،سي موح،،تاجر جرادة الأسطوري،ولكل أمثالك ممن كانوا يوفرون بضاعة لكل الجيوب،في زمن كان بعيدا يومئذ عن هواة الجشع الذي لا يعرف الحدود.
* يطلق في ،،سوس،،على النقود.
Aucun commentaire