متاعب وإكراهات التفتيش التربوي
متاعب وإكراهات التفتيش التربوي
محمد شركي
بداية أشير إلى أن الدافع وراء تحرير هذا المقال تحت هذا العنوان هو بيان لفرع نقابة المفتشين بمدينة جرادة نشر على صفحة موقع وجدة سيتي جاء فيه رد على بيانات نقابات أدانت فيها أحد المفتشين التربويين بمديرية جرادة اتهم بالتعسف والشطط .
وباعتباري مفتشا تربويا سابقا عملت ما يزيد عن عقدين في تلك المديرية اكتسبت خلا لها خبرة بطبيعة العمل في مدينة عمالية لا تضاهيها في النضال النقابي مدن أخرى في البلاد لأن ساكنتها تشربت هذا النضال كبارها وصغارها . و كل من نزل بها للعمل يتأثر بشكل أو بآخر بالثقافة النضالية السائدة ، ولهذا لم أستغرب إدانة النقابات المفتش التربوي انتصارا للمدرسين ، ولم أستغرب رد نقابة المفتشين عليها انتصارا للمفتش ، لأنني بدوري استهدفت خلال مزاولتي التفتيش هناك من طرف نفس النقابات مجتمعة ، وأدنت بما أدين به المفتش المستهدف ، واستدعيت أكثر من مرة من طرف المحكمة الإدارية بمدينة وجدة على إثر رفع بعض الأساتذة إليها تظلماتهم .
ومن الطرائف التي تروى أنه حينما سرح عمال مناجم الفحم عادت طائفة منهم إلى قريتها في جنوب البلاد ، وبمجرد استقرارها انتقلت القرية من جو الهدوء والسكينة إلى قرية نضال ، الشيء الذي أقلق السلطات المحلية بعدما انتقلت عدوى النضال النقابي إليها .
ودون الخوض في موضوع تجربتي مع النقابات ، ومع المحكمة الإدارية ، ارتأيت أن أخوض في موضوع متاعب وإكراهات مهمة التفتيش التربوي .
وأول المتاعب تلحق بالمفتش التربوي حين يلتحق بمهمته أول مرة هو التسمية التي سمته بها الوزارة الوصية على الشأن التربوي ، ذلك أن كلمة تفتيش لها وقع مزعج في النفوس بسبب دلالاتها التي منها بحث السلطة أثناء التحقيق القضائي ، ومنها نقط التفتيش، وهي حواجز تقام على الطرقات بغرض المراقبة الأمنية وغيرها ، ومنها محاكم التفتيش التي هي أسوأ محاكم مرت في تاريخ الأندلس ، ومنها التفتيش الإداري الذي تقوم به كل الإدارات العمومية من أجل الكشف عن سير العمل بها ، وليس التفتيش التربوي بدعا من هذا التفتيش .
وهذه التسمية منصوص عليها في وثائق صادرة عن الوزارة الوصية على قطاع التربية ، وهي تدل على مهمة من مهام من ينتدبون لها ، والتي منها أيضا الإشراف ، والتكوين ، والبحث ، إلى مهام أخرى .
ومعلوم أن التفتيش التربوي عندما من مخلفات فترة الاحتلال الفرنسي كباقي المخلفات المفروضة تحت مسمى الحماية ، وقد ظل مفتشون فرنسيون يزاولون هذه المهمة بعد رحيل قوتهم العسكرية واستقلال البل لعقود ، وذلك لقلة الأطر التفتيش خصوصا في معظم المواد التي كانت تدرس باللغة الفرنسية بما فيها بعض مواد العلوم الإنسانية ، فضلا عن المواد العلمية ، وكانت لهم أساليب في العمل لا تختلف عن أساليب إدارات الاحتلال عند بعضهم إلا أن الموضوعية تقتضي الإقرار بجدية ونزاهة البعض الآخر، والتفاني في العمل بشهادات من عاصروهم من مدرسين، ومديرين تربويين ، ونواب إقليميين .
ومما يقال عن الاحتلال الفرنسي أن سياسته التربوية في البلاد التي كان يحتلها كانت في منتهى الصرامة والجدية خلاف الاحتلال الإنجليزي الذي كانت سياسته أقل صرامة وجدية ، ولهذا تطبع المربون في البلاد التي خضعت للاحتلال الفرنسي بتلك الصرامة والجدية في العمل .
ومن متاعب التفتيش التربوي أيضا أنه يفتش ككل تفتيش في مختلف الإدارات عن سير العمل بها ، ويكشف عنه ، ومن يزاولونه مطالبون برفع تقارير إلى الجهات المعنية في الوزارة الوصية على قطاع التربية ، وهي التي تطالب المفتشين بتقييم وتقويم عمل المدرسين ، وبتثمينه عن طريق نقط تقديرية تكون مبررة بأدلة متضمنة في التقارير المرفوعة إليها . ومعلوم أن كل الموظفين في مختلف القطاعات لهم مواقف من جهاز التفتيش، لأنه يراقب ويثمن أعمالهم ، وهو تثمين يعتمد في ترقيتهم من درجة إلى أخرى ، ومن سلم إداري إلى آخر ، وهي ترقية لها مقابل مادي هو السبب في توجس الموظفين من التفتيش ، ولولا هذا السبب لما ضاقوا ذرعا به ، ولا انتقدوه ، وجندوا لذلك النقابات لمواجهته .
ومعلوم أن التفتيش التربوي هو الأكثر تعرضا للانتقاد ،لأنه وحده الذي يحتك مباشرة برجال ونساء التربية في أقسامهم مع تلاميذهم ، بينما تمارس مهام أنواع أخرى من التفتيش كتفتيش التخطيط ، والتوجيه ، والمصالح المادية بعيدة بشكل أو بآخر عن هذا الاحتكاك المباشر بالمدرسين .
ولا بد من الإشارة إلى أن رافد إمداد التفتيش بالأطر في بلادنا هو الممارسة التربوية بالأقسام إذ لا يمكن أن يمارس التفتيش بأنواعه من لم يتمرس بالتدريس أولا . ولما كانت الحاجة ماسة إلى أطر التفتيش بعد الاستقلال كانت الوزارة الوصية تلجأ إلى مدرسين لهم خبرة وكفاءة ، فتكلفهم بالتفتيش ، وقد ظل التكليف بالتفتيش ساري المفعول حتى أنهاه النضال النقابي لنقابة المفتشين إذ تم دمج ما تبقى من المكلفين بالتفتيش . وفضلا عن المكلفين بالتفتيش ،كان هناك من يلجون التفتيش مباشرة عن طريق مباريات ، كما كان هناك من يلجونه بعد التخرج من المركز الوطني لتكوين المفتشين حيث يتلقون تكوينا نظريا ككل مراكز التكوين التي تؤطر المربين مع وجود فوارق . وقد ظل المركز الوطني يتأرجح بين الإعلان عن مباريات لولوجه في فترات ثم تغيب إعلاناته لسنوات متتالية حتى كادت أطر المراقبة تنقرض ، ولا ندري ما الذي أريد بالتفتيش التربوي في بلادنا ، ولا الجهة التي تقف وراء الرغبة في تغييبه من الساحة التربوية .
ومعلوم أن التفتيش التربوي يزاول في كل أسلاك التعليم ابتدائية وإعدادية ، وتأهيلية ، وتتمثل مهامه في ما يلي :
ـ تأطير المدرسين في المجال الديداكتيكي عن طريق ندوات تربوية ، ودروس تطبيقية وتجريبية ، وهو تكوين منعدم في مراكز ومدارس تكوين المدرسين التي تعتمد في الغالب على التكوين النظري الذي لا يمكن أن يسد مسد التكوين العملي التطبيقي . ولقد كانت من قبل تعهد إلى مدرسين لهم خبرة وتجربة ينعتون بالمرشدين التربويين يختارون بتزكية التفتيش التربوي لمصاحبة المدرسين الجدد فيستقبلونهم في أقسامهم لتلبية حاجتهم من الممارسة الديداكتيكية قبل تخرجهم والتحاقهم بالأقسام ، ولست أدري هل ما زال العمل بهذه الصيغة من التدريب الميداني ساري المفعول، خصوصا بعد صيغة التوظيف المباشر ؟
وتأطير التفتيش التربوي ينصب على طرق وأساليب مقاربة مختلف المواد الدراسية باعتماد توجيهات تربوية رسمية تعد أطرا مرجعية ملزمة . ويدخل تحت التأطير أيضا تكوين المدرسين على إعداد وثائق تربوية هي عبارة عن دفاتر نصوص يسجل عليها الأداء العملي اليومي داخل الفصول الدراسية وفق منهجية خاصة منصوص عليها في التوجيهات الرسمية تصدر في شكل مذكرات تنظيمية ملزمة ، فضلا عن جذاذات الدروس المحضرة وفق مذكرات تنظيمية أيضا ، وزيادة على هاتين الوثيقتين هناك وثائق مشتركة بين المتعلمين والمدرسين وهي دفاتر وكراسات التلاميذ التي تنص المذكرات التنظيمية أيضا على مراقبتها بانتظام والتأشير عليها ، مع تسجيل الملاحظات التوجيهية والتثمين الذي تحتسب علاماته ضمن الأنشطة المدمجة في التقويم ، وأوراق فروض المراقبة المستمرة التي تصحح ، وتثبت عليها علامات وملاحظات أيضا ، ومنها تنقل إلى أوراق أو كراسات تنقيط.
وكثيرا ما ينشأ الخلاف بين المفتشين والمدرسين بسبب هذه الوثائق التربوية التي يلزم المفتشون بمراقبتها خلال زياراتهم الصفية على ضوء التوجيهات التربوية الرسمية ، وتدخل مراقبتها ضمن تثمين عمل المدرسين ، ويشار إليها في تقارير التفتيش ، وترصد لها نقط إلى جانب النقط المخصصة لتثمين سيرالدروس . وسبب الخلاف يكون إما غياب بعض هذه الوثائق أو إهمالها أوعدم العناية بها أو مخالفتها للتوجيهات الرسمية .
ومعلوم أن تقارير التفتيش نوعان تقارير تثبت عليها نقط تقديرية ، وأخرى دون تنقيط ، وتكون هذه الأخيرة متضمنة لتوجيهات ، بينما الأولى تكون متضمنة لوصف سير الدروس ، والكشف عن حالة الوثائق التربوية استحسانا أو انتقادا مع التذكير بالتوجيهات والملاحظات المسجلة في تقارير الزيارات الصفية السابقة لتبرير النقط المثبتة على تقارير التفتيش .
ومعلوم أيضا أن الوزارة الوصية تضمن للمدرسين حق الطعن في نقط التفتيش عن طريق تفتيش مضاد ، وذلك بتكليف لجنة من المفتشين تنظر في الطعون وتحرر تقارير لصالح أحد الطرفين بناء على أدلة . ومما يواجه التفتيش المضاد هو غياب الظروف التي أنجز في التفتيش المطعون فيه إذ لا يمكن أن تعاين لجان التفتيش المضاد نفس الدروس بعد مرور زمن معتبر ، ولا نفس الوثائق ، وهي تعتمد على الملاحظات التي دونها التفتيش التربوية وأشر عليها في تواريخ معلومة لا يمكن أن تغيب بشكل من الأشكال ، فعلى سبيل المثال قد يعاين التفتيش التربوي وثائق قد طالها الإهمال أو النقص أو التقصير ، وحين زيارة لجنة التفتيش المضاد يقدم الطاعن في ملاحظات التفتيش وثائق يتدارك ما كان فيها من إهمال أو نقص أو تقصير لطمس معالمه خصوصا إذا لم يسجل التفتيش أدلة عليه مع التأشير والتأريخ .
وتضمن الوزارة الوصية للمدرسين أيضا التقاضي أمام المحاكم الإدارية ورفع طعونهم في تقارير التفتيش ، فيستدعى المفتشون إلى هذه المحاكم مصحوبين بوكلاء قضائيين للمملكة ينوبون عن الوزارة الوصية كمحامين ، كما يستدعى المدرسون مع حقهم في إحضار محامين للدفاع عنهم ، وتعتمد تلك المحاكم الأدلة المادية للفصل في النزاعات ، وتلتزم بمنطوق التوجيهات التربوية الرسمية الملزمة للأطراف المتقاضية على حد سواء .
وتدخل على الخط أثناء الخلاف بين هيئة التدريس وهيئة التفتيش نقابات من هذه الجهة ومن تلك ، وغالبا ما يكون شعارها قول الشاعر دريد بن الصمة :
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
أو شعار : » انصر أخاك ظالما أو مظلوما » بالمفهوم الجاهلي ، وليس بالمفهوم الإسلامي .
وبسبب تدخل النقابات تواجه هيئة التفتيش متاعب جمة ، حيث تشتغل في أجواء يسودها التوتر بسبب تعاطف الزمالة بين المدرسين الذي يسود داخل المؤسسات التربوية . ومن الغريب أن يتضامن المدرسون على اختلاف مواد تدريسهم ، ويقفون صفا واحدا ضد مفتش لا علاقة لهم به بحكم التخصص ، وقد يستعملون المتعلمين دروعا بشريا لمواجهته ، وقد عشت شخصيا هذه الحالة التي يؤسف لها . ومن الطريف أن أحد الأساتذة الذي كان يقود حملة شرسة ضدي راكبا نقابتها ، وقائدا باقي النقابات ولم تكن له علاقة بي بحكم تخصصه التحق بجهاز التفتيش ،فاعتذر عما كان منه ثم شكا لي الإكراهات التي صار يوجهها بدوره ، وصار يذوق مما أذاقني سامحه الله ، وسامح من كان معه في تسعير حملته مع أنني لم ألق منهم ما لقيت إلا لأنني حرصت على القيام بواجبي كما يأمر بذلك الله عز وجل ، وكما يملي بذلك الضمير ، وكما تطالب بذلك الوزارة الوصية .
وبسبب الإكراهات التي يواجهه المفتشون التربويون ، فإن بعضهم يؤثر تجنب الصدام مع المدرسين ، ويعتمد أسلوب المهادنة ، وربما كان ذلك على حساب الواجب ، بينما يثبت البعض على مواقفهم ، فيواجهون عنتا كبيرا لا يخفف من وقعه سوى رضى الله عز وجل، ورضى الضمير ، وإقرار الفضلاء من المدرسين بالجهد الذي يراه الله عز وجل والمؤمنون .
Aucun commentaire