الانشراح النفسي لتحقيق التوسع المعرفي في الفكر الإسلامي (القلب أم العقل)
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والعقيدة
وجدة،المغرب
أولا:تموضع الفهم والإدراك بين القلب والعقل
إن القول بالتفاوت الإدراكي بين أدوات المعرفة ، وخاصة على مستوى الحس الذي يستند إليه العقل كثيرا في إصدار أحكامه على المسائل الخارجية ،وكذلك القول بوجود طور تصحيحي للأغلاط التي يمكن أن تقع في العقل بتمويه الحس ، كما يذهب إليه ابن عربي، و الغزالي قبله ، الذي عبر عنه بطور المكاشفة أو الذوق وغيره من المصطلحات ، قد نجد له تفسيرا دقيقا مؤسسا على تفسيرات سابقة عند أحد المتكلمين الأشاعرة ، وهو فخر الدين الرازي، الذي ذهب في تحديد الأدوات المعرفية وطبيعتها، ومستوياتها إلى التفسير القرآني. كما لجأ قبله الغزالي في موضوع الذوق ، إلى تفسير معنى الشرح الوارد في القرآن والحديث النبوي.
فقد اعتمد على الآيات الدالة على أن موضوع الفهم والشعور هو القلب منها كحجة أولى: قول الله تعالى: » قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك ». وقال في سورة الشعراء: » وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك ».
فهاتان الآيتان تدلان بصريحيهما على أن التنزيل أو الوحي قد كان على القلب .
أما الحجة الثانية : قول الله تعالى: » إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ».
فسيذهب في تفسير هذه الآية بقوله أنها دالة بصريحها على أن محل الذكر والفهم هو القلب…وأن في هذه الآية لطيفة عجيبة ، وبيانها إنما يتم بتقديم سؤال ، فإنه يقال : إن الواو العاطفة أليق بقوله : » أو ألقى السمع » :، لأن القلب عبارة عن محل إدراك الحقائق . وإلقاء السمع عبارة عن الجد والاجتهاد في تحصيل تلك الإدراكات والمعارف. ومعلوم أنه لابد من الأمرين معا، فكان ذكر الواو العاطفة هاهنا أولى من ذكر أو. والجواب إنا نقول: بل أو القاسمة أولى هاهنا من الواو العاطفة . وبيانه أن القوى العقلية قسمان : منها ما يكون في غاية الكمال والشرف والإشراق ، ويكون مخالفا لسائر القوى العقلية بالكم والكيف ، أما الكم فلأن حصول المقدمات البديهية والحسية والتجريبية بها أكثر. وأما الكيف ، فلأن تلك المقدمات على وجه ينساق إلى تلك النتائج الحقة أسهل وأسرع.
وإذا عرفت هذا، فنقول: مثل النفوس القدسية تستعين في معرفة حقائق الأشياء عن التعليم والاستعانة بالغير، إلا أن مثل هذا يكون في غاية الندرة « .
وأما القسم الثاني: وهو الذي لا يكون كذلك ، فهو يحتاج في اكتساب العلوم النظرية إلى التعلم والاستعانة بالغير، والتمسك بالقانون الصناعي الذي يعصمه عن الزلل .
إذا عرفت هذه فنقول : قوله تعالى: « إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب » إشارة إلى القسم الأول ، وإنما ذكر القلب على لفظ التنكير ليدل على الكمال التام ».
أما ابن تيمية ، فرغم أنه يرفض التأويل ويأخذ بالظاهر في الاستلهام المعرفي من النص الديني، يصرح بإمكانية وجود سبيل للمعرفة خاص قد يتخطى حدود العقل والحس . كما نستشفه من هذا التعبير في قوله : » نعم للمؤمنين العارفين المحبين له ، من مقامات القرب ، ومنازل اليقين ما لا تكاد تحيط به العبارة ، ولا يعرفه حق المعرفة إلا من أدركه وناله ».
كما قد يذهب إلى أن الجزم بالعلم أساسه نفسي واستشعاري بالدرجة الأولى. وهذا النوع من الإدراك سيكون مستبعدا للغلط الحسي أو العقلي، إذ يرى بأن معرفة الإنسان بكونه يعلم أو لا يعلم مرجعه إلى وجود نفسه . ولهذا » لا نحتج على منكر العلم إلا بوجود نفوسنا عالمة . كما احتجوا على منكري الأخبار المتواترة بأنا نجد نفوسنا عالمة بذلك وجازمة به ، كعلمنا وجزمنا بما أحسسناه . وجعل المحققون وجود العلم بخبر من الأخبار هو الضابط في حصول التواتر ،إذ لم يجدوه بعدد ولا صفة . بل متى حصل العلم كان هو المعتبر. والإنسان يجد نفسه عالمة، وهذا حق . والعلم يحصل في النفس كما تحصل سائر الإدراكات والحركات بما يجعله الله من الأسباب وعامة ذلك بملائكة الله. فإن الله سبحانه ينزل بها على قلوب عباده من العلم والقوة ، وغير ذلك ما يشاء ».
ومن هذا الرأي فسيكون ابن تيمية بصدد طرح موضوع :العلم النفسي، أو نفسية المعرفة كأساس للجزم العلمي. وبهذا المفهوم فقد يتقارب نسبيا مع ما يصرح به الصوفية بصفة عامة عن الذوق . كما أنه سيعترف بالمعرفة اللدنية والإلهام ، على عكس الذي ذهب إليه ابن حزم في موقفه .
فلقد ذهب إلى التأكيد على هذا الإمكان المعرفي بالأدلة الشرعية المؤيدة للمعرفة اللدنية والذوقية : » وأما حجة أهل الذوق والوجد والمكاشفة والمخاطبة ، فإن أهل الحق هؤلاء لهم إلهامات صحيحة مطابقة كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : » قد كان في الأمم قبلكم محدثون ، فإن يكن في أمتي أحد فعمر منهم » . وكان عمر يقول : » اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون ، فإنها تجلى لهم أمور صادقة ». وفي الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : « اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ». ثم قرأ قوله : » إن في ذلك لآيات للمتوسمين « .
ثانيا: نفسية المعرفة في الجزم بالنتيجة
فابن ابن تيمية بهذا المنحى والموقف المعرفي يميل إلى الاعتبار النفسي في التأسيس المعرفي. ويريد أن يدلل على أن المعرفة نفسية قبل كل شيء، وأنها جزم ذاتي وتصديق شعوري قبل أن تكون خاضعة للمقاييس المنطقية ، ووضع الحدود المتكلفة في البرهنة على صدق أو كذب قضية ما » فمن الناس من يكون في سرعة التصور وجودته في غاية يباين فيه غيره مباينة كثيرة . وحينئذ فيتصور الطرفين في قضية ما تصورا تاما بحيث يتبين بذلك التصور التام للوازم التي لا تتبين لمن لم يتصوره ، وكون الوسط الذي هو الدليل قد يفتقر إليه في بعض القضايا بعض الناس دون البعض أمر بين . فإن كثيرا من الناس تكون عنده القضية حسية أو مجربة أوبرهانية أو متواترة ، وغيره إنما عرفها بالنظر والاستدلال.وبهذا كثير من الناس لا يحتاج في ثبوت المحمول للموضوع إلى دليل بنفسه بل لغيره ، ويبين ذلك لغيره بأدلة هو غني عنها حتى يضرب له أمثالا ».
هذا الاعتبار النفسي للمعرفة هو الذي سيحدد الحكم البرهاني من غيره ، وإذا كان المعمول به عند المناطقة والفلاسفة بصفة خاصة يقتضي « أن الجدلي ما سلم المخاطب مقدماته ، والخطابي ما كانت مقدماته مشهورة بين الناس ، والبرهاني ما كانت مقدماته معلومة . فإن كثيرا من المقدمات مع كونها خطابية أو جدلية يقينية برهانية . بل وكذلك مع كونها شعرية هي من جهة اليقين بها تسمى برهانية ، ومن جهة شهرتها عند عموم الناس ، وقبولها لهم تسمى خطابية ، ومن جهة تسليم الشخص المعين لها تسمى جدلية « .
وهذا كله قد ينحو إلى اعتبار اليقين جزما نفسيا وليس مقصورا على البرهان المنطقي العقلي وحدوده . وخاصة حينما يتعلق الأمر بقياس الشمول « فأقيسة التمثيل تفيد بلا ريب ، أعظم من أقيسة الشمول ، ولا يحتاج مع العلم بالتماثل لأن يضرب له قياس شمول . بل يكون من زيادة الفضول . وبهذا الطريق عرفت قضايا الجزئية بقياس التمثيل .
ومن قال : إن ذلك بواسطة قياس شمول ينعقد في النفس ، وهو أن هذا لو كان اتفاقيا لما كان أكثريا. فقد قال الباطل ، فإن الناس العالمين بما جربوه لا يخطر بقلوبهم هذا، ولكن بمجرد علمهم بالتماثل يبادرون إلى التسوية في الحكم، لأن نفس العلم بالتماثل يوجب ذلك بالبديهة العقلية . فكما علم بالبديهة العقلية أن الواحد نصف الاثنين علم بها أن حكم الشيء حكم مثله . وأن الواحد مثل الواحد، كما علم أن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية .
فالتماثل والاختلاف في الصفة بالإحساس الباطن والظاهر. والعلم بأن المثلين سواء، وأن الأكثر والأكبر أعظم وأرجح ، يعلم ببديهة العقل … فتبين أن المعلوم من الأمور المعينة بعلم الحس وبقياس التمثيل و الأقيسة المعينة ، أعظم مما يعلم أعيانها بقياس الشمول . فإذا كان قياس الشمول الذي حرروه ،لا يفيد الأمور الكلية كما تقدم ، ولا تحتاج إليه الأمور المعينة كما تبين ، لم يبق فيه قائلا أصلا، ولم يحتج إليه في علم كلي ولا علم معين . بل صار كلاهما في القياس الذي حرروه كالكلام في الحدود، وهذا هنا فتدبره،فإنه عظيم القدر ».
ثم يضيف في التأكيد على البعد النفسي للبديهة العقلية ،والتي قد تعتبر مصدرا للعلم والمعرفة وصياغة الأحكام ، فيقول : »إذا وجب الاعتراف بأن من العلوم الكلية العقلية ما يبتدئ في النفوس ، ويبددها بلا قياس ، وجب الجزم بأن العلوم الكلية العقلية تستغني عن القياس ، وهذا مما اعترفوا به- يقصد الفلاسفة – وجميع بني آدم أن من التصور والتصديق ما هو بديهي لا يحتاج إلى كسب بالحد والقياس ، والإلزام الدور والتسلسل .
وإذا كان كذلك فنقول : » إذا جاز هذا في علم كلي جاز في آخر، إذ ليس بين ما يكن أن يعلم ابتداء من العلوم البديهية ، وما لا يجوز أن يعلم فصل يطرد. بل هذا يختلف باختلاف قوة العقل وصفائه ، وكثرة إدراك الجزئيات التي يعلم بواسطتها الأمور الكلية . فما من علم من الكليات إلا وعلمه يمكن بدون القياس المنطقي. فلا يجوز الحكم بتوقف شيء من العلوم الكلية عليه ».
إن رفض ابن تيمية لأن يكون قياس الشمول وحدوده هو المنفذ الوحيد لتحصيل البرهان ، كما ذهب إلى ذلك غيره من المفكرين المسلمين ، لا يعني إهدار العقل الكسبي كلية ، أو إقصاءه من التداول كحكم معرفي ولو عند الصوفية الذين يوصفون بأنهم أهل الوجدان ، أو ليسوا بذوي أقيسة منطقية . بل المنحى دائما قد يكون نحو إعطاء بعد أوسع للمعرفة وللتكوين الإنساني ،الذي يجمع في وعيه بين التصرف للكسب والاستعداد للتلقي .
وبما أن عالم المعرفة أوسع من التصرف الذاتي للإنسان ، فإن آلة التلقي ستكون دائما هي الأرقى في الكسب المعرفي. ولهذا فالعقل ليس مرتعا للخطأ إذا وظف توظيفا سليما في حدود وظيفته ، على أساس نفسي موضوعي. بل العقل كما يقول ابن خلدون : « ميزان صحيح ، فأحكامه يقينية لا كذب فيها. غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد، والآخرة وحقيقة النبوة ، وحقائق الصفات الإلهية ، وكل ما وراء طوره ، فإن ذلك طمع في محال . ومثال ذلك رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب ، فطمع أن يزن به الجبال ، وهذا لا يدرك . على أن الميزان في أحكامه غير صادق ، لكن العقل قد يقف عنده ولا يتعدى طوره « .
فهذه الرؤية هي الأكثر اعتبارا عند جل المفكرين المسلمين ،الذين لا يقصون العقل كحاكم صادق في أبحاثهم ، بل العقل حاضر في جل دراساتهم وميادين تخصصهم . ويتجلى ذلك في صياغة تآليفهم ، ومحاولتهم تقريب ما لا يدرك بالعقل كطور معرفي، بأسلوب عقلي قياسي. أقل ما يمكن أن يوصف به: أنه تقريب ذهني أو صوري.
Aucun commentaire