تعريف النفس الإنسانية والتداخل بين السلفي والصوفي
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والعقيدة
وجدة، المغرب
أولا :التعريف النفسي والاقتباسات عند ابن قيم الجوزية
حول موضوع تعريف النفس ستطرح نفس الازدواجية في الاصطلاح المتداول والمختلف فيه بين اعتبار النفس مرادفا للروح أو مغايرا له ، وذلك في المسألة العشرين من كتاب » الروح » لابن قيم الجوزية قد ابتدأها بقوله : « هل النفس والروح شيء واحد أو شيئان متغايران ؟ فاختلف الناس في ذلك . فمن قائل أن مسماهما واحد وهم الجمهور، ومن قائل : إنهما متغايران ، ونحن نكشف سر المسألة بحول الله وقوته . فنقول النفس تطلق على أمور: أحدها: الروح . قال الجوهري: النفس الروح . يقال خرجت نفسه …
قلت ! والنفس في القرآن تطلق على الذات بجملتها، كقوله تعالى: » فسلموا على أنفسكم « وقوله تعالى: « يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها « . وقوله تعالى: « كل نفس بما كسبت رهينة « .
وتطلق على الروح وحدها، كقوله تعالى: « يا أيتها النفس « ، وقوله تعالى: « إن النفس لأمارة بالسوء ».
أما الروح ، فلا تطلق على البدن لا بانفراده ولا مع النفس،ومنها الروح والريحان والاستراحة . فسميت النفس روحا لحصول الحياة بها. وسميت نفسا إما من الشيء النفيس لنفاستها وشرفها، وإما من تنفس الشيء إذا خرج، فلكثرة خروجها ودخولها في البدن سميت نفسا ».
وهذه التعاريف كما لاحظنا قد يستند أغلبها على الاستخلاص اللغوي، كما أنها تتقارب جدا مع أسلوب ابن تيمية في معالجته لمثل هذه القضايا من الناحية اللغوية ، ثم في الاعتماد على ورود اللفظة في النص القرآني أو الحديثي. ومحاولة اقتناص المعنى القريب فيها من مذهبه للدلالة على تعريف الروح أو النفس بالظاهر اللغوي في أغلب الأحيان . وناذرا ما قد نجد تعليلا عقليا موضوعيا للتمييز بين المصطلح النفسي والروحي من خلال المعطى النصي في بعده المعنوي التجريدي الدقيق .
ولقد أضاف ابن قيم الجوزية تعليلا قصيرا جدا، غير أنه ذو أهمية كبرى في تحديد المصطلح النفسي، وهو ما سبقت الإشارة إليه من حيث اعتبار الصفة والإضافة بحسب الوظيفة ، أو اعتبار الجوهر والبنية على ما هي عليها. إذ يرى أن « الفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا فرق بالذات ». وهذا التعبير يشير إلى اعتبار الجوهر والظواهر كتمايز موضوعي، وأن هذه الظواهر هي الدالة على الجوهر، وجودا وحالا وسلوكا.
غير أن ابن القيم سيذهب إلى تخصيص الاصطلاح النفسي دون الروحي بالإنسان ، وذلك عند وروده في القرآن الكريم . إذ يرى أن أرواح بني أدم « لم تقع تسميتها في القرآن إلا بالنفس . قال تعالى: « يا أيتها النفس المطمئنة »،وقال تعالى: « لا أقسم بالنفس اللوامة « ، وقال تعالى: « إن النفس لأمارة بالسوء »، وقال تعالى: « أخرجوا أنفسكم « ، وقال تعالى: « ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها »، وقال تعالى: « كل نفس ذائقة الموت « .وأما في السنة فجاءت بلفظ النفس والروح « .
وهذا المنحى التفسيري في تعريف النفس وتخصيصها اصطلاحيا دون مصطلح الروح ، سيعرف اعتراضا من طرف ابن حجر العسقلاني في قوله : « وجنح ابن القيم في كتابه » الروح » إلى ترجيح أن المراد بالروح المسئول عنها في الآية ما وقع في قوله تعالى: « يوم يقوم الروح والملائكة صفا »، قال : وأما أرواح بني أدم فلم يقع تسميتها في القرآن إلا نفسا، كذا قال . ولا دلالة في ذلك لما رجحه،بل الراجح الأول . فقد أخرج الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس في هذه القصة أنهم قالوا: وكيف يعذب الروح الذي في الجسد وإنما الروح من الله ؟ فنزلت الآية « .
ويطرح ابن القيم أيضا هذا الإشكال الاصطلاحي على مستوى الخلاف العام بين الفرق الإسلامية . وهو بهذا يعود بنا إلي تلخيص الآراء والتعريفات الماضية . وذلك حينما يقول : « وقالت فرقة أخرى من أهل الحديث والفقه والتصوف : الروح غير النفس « .
ثم يسرد بعد ذلك الأقوال المميزة بين الروح والنفس عند الاصطلاح . لكنه سيخص قولا قد أشار إليه بالطائفة ، وعبر عنهم بأهل الأثر. قالوا: بأن الروح والنفس صورة العبد.والهوى والشهوة والبلاء معجون فيها، ولا عدو أعدى لابن آدم من نفسه. فالنفس لا تريد إلا الدنيا ولا تحب إلا إياها، والروح تدعو إلى الآخرة وتؤثرها. وجعل الهوى تبعا للنفس ، والشيطان تبعا للنفس ، والهوى، والملك مع العقل والروح والله تعالى يمدهما بإلهامه وتوفيقه .
ثانيا:تعريف النفس في التقريب بين الصوفي والسلفي
فالتعريف هو عينه تعريف الصوفية كما مر بنا لأنه يؤسس مبدأ ظواهر النفس الإنسانية التي من خلالها يمكن إدراك عللها وصحتها. وهذه الظواهر قد تتجلى خصوصا في الجانب الانفعالي ،والذي له تأثير على سلوك الإنسان وعلى تفكيره إذا لم يضبط، مما يحتاج معه إلى تحديد منهج للضبط قد يتسم باستعمال الجهد والمراقبة المستمرة للذات وخلفيات سلوكها…
غير أن ابن قيم الجوزية سيعود ليؤكد بأنه مهما أعطينا من الأوصاف للنفس الإنسانية وعددنا ظواهرها إلا أن « الروح التي تتوفى وتقبض فهي روح واحدة وهي النفس « . وهذا الموقف هو نفسه الذي عبر عنه الغزالي فيما قبل حينما اعتبر النفس لها معنيان مشتركان : المعنى الذي قصده الصوفية كميدان للبحث والدراسة ،وهو الجانب الذميم من السلوك الإنساني ومحركاته . والمعنى العام الذي يمثل جوهر الإنسان من حيث هو كائن حي عاقل . وهو المصطلح عليه بالروح الذي تم به تسمية الإنسان بالإنسان .
وعند هذه التعريفات قد نقف لنحدد طبيعة البحث في المجال النفسي في الفكر الإسلامي. وذلك أننا حينما نعود إلى استعراض العناصر المميزة بينها فإننا سنجدها قد تأخذ طابعا مشتركا بين بعضها، ثم تتمايز فيما بينها تمايزا ملحوظا.
إذ أن تعريف الصوفية للنفس سيصبح الغالب على منهجه هو اعتماد الجانب السلوكي في البحث النفسي، وهذا الجانب سيكون مركزا على الأثر السلبي منه أكثر من الايجابي. لأن الايجابية في الإنسان موجودة منذ البداية ، وهي الروح التي هي « من أمر ربي ». وحينما أضيف إليها الجسد أصبحت تعرف نزعات ليست هي الفاعلة فيها، وإنما منشؤها تشويش حسي قد يسير نحو الإشباع غير المقيد لطلبات البدن المتعددة الصفات و الألوان: منها ما هو مادي محض ،ومنها ما هو شبه مادي، ومنها ما هو أقرب إلى طبيعة العمل الروحي بسبب تقاربه مع عنصره .
فالتركيز على الجانب السلبي من السلوك الإنساني فيه الكفاية والاستعاضة لإدراك الجانب الايجابي، وهم بهذا المنهج قد يؤسسون مبدأ « بضدها تعرف الأشياء »،فالتخلي ثم التحلي، وليس بين التخلي والتحلي وسط،لأن الفراغ غير مطروح في تكوين الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم . ولهذا فقوة البحث ومجهوده ستنصب على جانب واحد متخصص ،ألا و هو:دراسة النفس أو مجاهدتها ميدانيا في توجهاتها الذاتية ورفض نزعاتها المتطرفة سواء في الباب الشهوي أو الغضبي حتى لا تبقى بعد ذلك سوى الموضوعية والحقيقة السليمة التي تنجلي للعيان كأنها على مرآة .
وهذا هو المثال ،أي المرآة، كثيرا ما قد يضربه الصوفية للدلالة على منهج المعرفة وطرق تحصيلها المتميز عندهم .
فرغم هذا المنهج الرسمي المقتطف من خلال التعريفات الصوفية للنفس إلا أنهم لم يهملوا النظر في موضوع النفس من جهة المعنى الثاني المفيد للجوهر، والذي سيأخذ بعدا استدلاليا قد يتعاضد فيه العقل والوجدان على حد سواء، ويلتقي في بعض أوجهه مع المتكلمين والفقهاء في مسألة إثبات وجود الروح أو النفس ، وأيضا تحديد علاقتها بالبدن ،وهل هي روح واحدة أو متكثرة . وهو بحث له أيضا ارتباط بالبحث الأول من حيث إنه يستند على الرؤية العامة للسلوك بشقيه ، السليم والسلبي، حتى يتسنى الاستدلال على هذا الجوهر وطبيعة عنصره،وما إلى ذلك من المباحث التي قد تدخل في المجال الكلامي والفلسفي.
وهذا المنهج الأخير هو الذي قد يشترك في سلوكه واعتماده بصورة مكثفة علماء الفقه والكلام وكذا الفلاسفة ، لأنه كما قلنا بحث استدلالي يعتمد الأقيسة النظرية للدلالة على وجود النفس وماهيتها وعلاقتها بالبدن … وهي مباحث كلها تصب في البحث عن الجوهر النفسي الابتدائي ذي البعد العقدي والنظري المحض في أغلب فروعه . وهذا ما رأيناه غالبا على تعريفات ابن حزم وابن تيمية ، وابن قيم الجوزية، وإن كان كل منهج قد يوظف الاستدلال اللغوي والنقلي في صياغة تعاريفهم . وهو منهج سيوظفه أيضا بعض الصوفية وخاصة أبو حامد الغزالي وكذلك ابن عربي وغيرهما، ولكن في حدود التخصص الموضوعي وظرفية الطرح العلمي في هذا المجال . لأن التركيز قد يكون دائما على التخصيص لا الخلط بين المفاهيم اللغوية العامة والموضوعية المدققة ، وخاصة في المجال النفسي.
Aucun commentaire