البيعة هي السد العالي الذي يحتمي به استمرارنا كدولة – أمة
عبد السلام المساوي
إن مراسيم البيعة في العصر الحاضر ، وبشكلها الحالي والإيحاءات المرجعية التي تحيل عليها طقوسها ليست ممارسة بروتوكولية تحيل إلى عمق الدولة الأمة كما جاء في الخطاب الملكي ، بل هي أداة لتزكية وتجديد شرعية السلطة الملكية ، باعتبار البيعة هي عقد سياسي يجمع بين الحاكم والمحكوم ، مبني على المبادئ الدستورية ، والمشاركة الشعبية ، وتفعيل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية .
إن وظيفة البيعة تكمن في أنها تعزز من قيم الولاء والوفاء للوطن ومواصلة العطاء من منطلق هذا الإجماع وهذه الروح الضاربة في التاريخ ، فنحن لسنا دولة مصطنعة أسست بمرسوم أو أحدثها المستعمر في إطار سياسته الانقسامية ، بل دولة عريقة لها تقاليدها وأعرافها وممارساتها الضاربة في التاريخ ، وهذا العمق التاريخي له أهمية بالغة في قوة الأنظمة العريقة كالنظام المغربي ، لكونه يربط حاضر الدولة بماضيها ، مما يجعلها ذات مصداقية في قراراتها ومواقفها .
إن البيعة في ظل السياق المتقلب الذي تعيشه الأمم والصراعات الجيوستراتيجية التي تهدد وحدة ووجود الدول ، تبقى هي صمام الأمان لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والمخاطر العسكرية والأمنية ، ولا ننسى أن هذا الرباط المتين هو من جعل بلدا مثل المغرب يقاوم لقرون متعددة كل محاولات طمس وحدته وهويته الوطنية والدينية .
ولا نبالغ إذا قلنا إنه كلما اتجهنا نحو الحداثة المؤسساتية وعالم الغد ، فإن الحاجة إلى الاحتماء بالعمق التاريخي والديني تزداد أكثر ، لتبقى طقوس البيعة الجدار المنيع والسد العالي الذي يحتمي به استقرارنا واستمرارنا كدولة – أمة ، بل هي الضامن لوجودنا وبقائنا فوق البسيطة .
هناك اجماع وطني ، يوحد المغاربة حول ثوابت الأمة ومقدساتها ، والخيارات الكبرى للبلاد ، وأولها » الملكية الوطنية والمواطنة ، التي تعتمد القرب من المواطن ، وتتبنى انشغالاته وتطلعاته ، وتعمل على التجاوب معها » ، وثانيها ، مواصلة مواصلة الخيار الديموقراطي والتنموي بعزم وثبات . يقول جلالة الملك عن الملكية المواطنة » يعلم الله انني أتألم شخصيا ، ما دامت فئة من المغاربة ، ولو أصبحت واحدا في المائة ، تعيش في ظروف صعبة من الفقر او الحاجة . لذلك أعطينا أهمية خاصة لبرامج التنمية البشرية ، وللنهوض بالسياسات الاجتماعية ، والتجاوب مع الانشغالات الملحة للمغاربة . »
على المتتبع للوضع المغربي ، خصوصا الأجانب غير المطلعين على تاريخ المغرب جيدا ويسارعون الى انتقاد الملكية والنظام ، أن يعلموا أن الملكية في المغرب نظام عرف تجارب وأخذ دروس التاريخ . فالملكية متعددة القرون » multiséculaire » تعايشت مع حركات مناوئة » antagonistes » وأخرى صديقة عبر تاريخ نشأتها وتطورها ، تفاعلت مع الزوايا واحتجاجاتها ، تعاملت مع بلاد السيبة وبلاد المخزن ، تجنبت الصدامات الخارجية والدولية وتفادت القوى الدولية والاقليمية ….
ان الملكية في المغرب عاشت الاستعمار الاوروبي والحجر الأجنبي ، تفاعلت مع مختلف الايديولوجيات السياسية والأفكار الاجتماعية الانسانية من تصوف وتشيع ومذاهب دينية وسياسية كثيرة ، تجاذبت مع الايديولوجيات اليمينية واليسارية وعاشت على وقع الصراع بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي زمن الحرب الباردة ، تمرست على التعامل مع حركات وأفكار الانفصال ، في محطات تاريخية مهمة ومفصلية ، كلها محطات قوت للملكية ، وشكلت عقلها الباطن بمثابة خزان للأعراف والتقاليد في تدبير العقليات والأزمات ….
ان الملكية تمثل النظام الوحيد الذي جمع ووحد المغاربة حول مشروع وطني لبناء الدولة من منطق مغربي خالص ، في غياب اي تصورات او مشاريع يمينية أو يسارية أو غيرها حقيقية للبناء . فهي المؤسسة الوحيدة ، التي استطاعت ان توفق بين التاريخ والحاضر من أجل المستقبل ، بدون حسابات شخصية او سياسوية ، والا كان مصيرها كعدد من الأنظمة في فضائنا العربي والثقافي والجغرافي : الاندثار والتفكك والتطاحن الدموي ….
ان الملكية هي المؤسسة الوحيدة التي أتقنت فنون تدبير التناقضات الداخلية والخارجية ، وخلقت توازنا لاستمرار الدولة والمجتمع . فالملكية المغربية هي ملكية تدبيرية وليست تنفيذية كما يقول البعض ، ذلك ان الملك يضع التصورات الكبرى ويرسم الخطوط العريضة ليس فقط لتدبير مرافق الدولة ومؤسساتها السياسية والاجتماعية وانما أيضا يحدد هوامش التفاعل مع المجتمع ومختلف الأفكار الرائجة فيه ….
Aucun commentaire