Home»Régional»صلاة الغائب

صلاة الغائب

0
Shares
PinterestGoogle+

صلاة الغائب

عندما خاطبني ـ دون أن أبادره بالسؤال ـ قائلا: لقد جئت من الجهة اليسرى يساريا تقدميا متميزا في الصفات والنعوت والكلمات؛ حيث كنت في الجهة اليمنى أراقب تصحيحات ذاتي من ذاتي، وقد وجدت فيها جسما منهكا، تآكل وطول السنين، وصدأ من كثرة الرطوبة وقلة الاستعمال. فلم يبق منه سوى الهيكل العظمي، الذي اتخذه طلاب المدارس وسيلة إيضاح وشرح مفضلة، لكيفية تآكل الإنسان وفق هذا لي وحدي دون غيري، وإن كان لغيري حق فيه وكيفما كانت درجة حقه ونوعه يبقى محط الصدأ مني، وما يبرح ذاتي؛ وإن برحها فهو إلى ذاتي. لهذا آثرت أن أقدم هذه المرة من الجهة اليسرى زعما مني: أن اليسار لا يوجد فيه جسم للتآكل والصدأ؛ لأنه لا يبقي على عوامل التآكل والتعفن والصدأ معه، ولا يسمح لها بالتكاثر والتناسل، فهو جهة تغرق في الشمس الحارقة لجراثيم الرطوبة! غير أني بادرته هذه المرة قائلا: اليمين واليسار اتجاهان يلتقيان في قمة الهرم وفق منظور الرؤية الحاصلة للتحصيل المعرفي لقوانين الاجتماع البراغماتي البرغوتي، خلافا لما تعلمته في المدارس البائسة من أنهما متقابلان بينهما زاوية مستقيمية، وربما متوازيان لا يلتقيان في علم الاجتماع أو المنطق. في حين أثبتت تجارب التهافت التي قام بها الرياضي الإفريقي خطأ ما تعلمته في المدارس، وخطأ اليقين بنظرية عدم تلاقي المتوازيات، وبينت بالحجة العملية هزالة طروحات تلك المقرارات الدراسية، التي ما برحت تدرسك أن اليمين واليسار قطبان بينهما مائة وثمانون درجة، لا يمكن أن يلتقيان أو كما قيل لك: هما كالليل والنهار يتعاقبان على زمن الكرة الأرضية ذهابا وإيابا دون معرفة من سبق وجوده في الزمن، وواردها الأول في عجالة من محا وتنحى، من قبيل الجدل البيزنطي الدائر منذ الوعي الأول حول مركزية الوجود في القواميس العربية، من هو المركز فيها: الأنا الأوحد أم الهو المتعدد؟ حيث يقال: أن الثاني هو سر وجود الأول وهو واجب الوجود، والأنا الأوحد في ظله ممكن الوجود، وقيل العكس، الأول سر وجود الثاني في يقين من يعترف بالأنا والأنت من ضمائر الصرف المعروفة بضرورة التصريف، ونطق بالحق الفاصل بين الوهم والحقيقة، وبين العدل والظلم. مما أتاح فرصة الخروج من الجدل البيزنطي العقيم بالقول بازدواجية المركز؛ فظهر التفوق العربي في المعجم العربي بالقول بجواز القولين والوجهين في كل شيء، تبعا لقاعدة من ليس له جنس عضوي بارز ومكشوف ومعروف بالذات والصفات يذكر ويؤنث، وإن شئت؛ أضفت يخنث. حينها تأمل وجهي وهو يفكر فيما قلته ثم أردف متابعا ما سقط من كلامه بكلامي: وبما أن اليسار لا يتعايش والتعفف ـ عفوا سهوت ـ أقصد التعفن، جئت من هناك لأبشرك بعطايا منظومته الشاملة الجامعة المانعة للمعنوي والمادي، وللظاهر وللباطن، للماء والهواء؛ إذ أعرب نيابة عنها وباسمها عن مجالات عطاياها الجزيلة، ففي حرف الياء يسر وسهولة في النطق والحديث والتكلم، ويمن في الوعد الحالم بكل شيء. وفي السين سريان الحلم في الذات المكشوفة مع امتداد السين سنينا؛ فتقف ألفا ممدودة بطولك وعرضك تتمنطق بسير الدوائر الأربع والعشرين في مدارها الإثنى عشر شهرا من نقطة البداية إلى نقطة النهاية، تحصد رياح الخريف وهو الحرف الأخير من مجالات عطاياها البكر. بل قل: الثيب الأرمل، والأم العازب التي وجدتها منذ وعيت، ومنذ امتطيت صهوة حروفها العربية تستنجدني عطاء أكثر مما تمنحني حنانا وعطفا واحتضانا، وتلح علي أن أحمل صغيرها المدلل، وإن كنت أفعل ومستقيم خوفي من تمرد لبنها الحامض الغائر في ثديها الجاف. قاطعته حتى لا يحيل كلامه إلى تقاريظ في محاسن الاتجاهات الأربع المحيطة بمركز الدائرة الأوحد، قائلا: ليس اليسار واليمين بهذا الجمال أو بذاك القبح الذي يظن فيهما، وإنما جمالهما أو قبحهما بالنسبة إلى بعدهما وقربهما من مساحة الدائرة أو قاعدة الهرم الفرعوني المرتكز عليها، النابت منها، لكن لا أدعي ودعواي قائمة على لا منطق الوعي الحاضر في خطابنا الإيديولوجي الشائخ، المنبعث من براثن الغياب المتكيف مع هويتنا المقزمة في الصناديق المغلفة بالشمع الأحمر، المختوم بشراء البطائق وبيع الكرامة بأبخس من ثمن يوسف في سوق النخاسة. قلت أدعي أن الإشكالية " الميتافيزيقية " تتحدد في البعد الأنطولوجي للاوجود الإنساني في الحرف العربي، المنهك منذ غادره العرب إلى مساحات حرفية أخرى، وإلى لوحات زيتية من معارض مختلفة؛ تتمدد على الأطراف الواعية بطرافة وجودها من حيث كان الواجب في حقها لا وجود إلا في هلامية مادة الوجود، حتى تتشكل من إمكانية الوجود، وترتفع إلى الوجود، حينها ما انفك يردد في وجهي: الوجود واللاوجود، الفساد والصلاح، الإفساد والإصلاح، واجب الوجود وممكن الوجود، الأنا والآخر، الذكر والأنثى، التخلف والتقدم، الناخب والمنتخب، الواهب والموهوب له.. مصطلحات إيديولوجية، ما بين مضمونها وسياقها هرطقة وديماغوجية، يستقيها اليسار واليمين من قاموس غياب الذات للإمساك بالذات، والإبقاء عليها في حلة خمول وسكون تتردى بين الوجع والرجاء، بين اليوم والغد، بين الحاضر والمستقبل، بين اليأس والأمل، والدائرة لها محيط ينبطح على الطريق، تلوكه الدائرة فراغا من الانتظار والاحتضار، آملة مني أن أمنحها عهدا على قراءة جمهورية أفلاطون، وعتق عبيدها من أسر الفكر الإغريقي الميتافيزيقي المنفصل عن الأرض، الغارق في الوعد بالإبقاء على طبقات المجتمع كما هي في واقعها، خاصة منها مكسرة الجناح
ين، أو مقزمة الحجم أو مثقوبة الفكر والجيب، الهامشية في البعد الفلسفي؛ بأنها في المجتمع قطيع لراع من رعاة الحلم الإغريقي، المصدر للعدالة المعلبة بالقول السرمدي الصافي النقي من كل ردة فعل. عندئذ أوقفت كلامه قهرا بقولي: أنك صرت مثلي لا تعرف الاتجاهات الأربع أو الجهات الأربع الدائرية المحيطة بالمركز. ذلك أن فكرك بدأ يتقاطع مع فكري، وإن كنت لا أقتنع بما تقوله، مادمت تقلبت بين الاتجاهين بمحض إرادتك، وفي لباسك أكثر من لون، ما بين الغامق والفاتح والباهت والذابل، رغم هذا ثقت فيك ومنحتك لقب المثقف الذي ينير لي الطريق بعيدا عن المزايدات الإيديولوجية المتعفنة بالتقلبات المصلحة والمنفعية. غير أني وجدت نفسي وإياك نعيش في حقل الإيديولوجيات والهمروجات والخزعبلات والسياسيويات المجردة من القيم والمنطق، خاصة من قيم الذات والجسد، بل نعيش في التهافت الذي يدعو ثانية ابن رشد للرد على التهافت. وأما وأني أستحي أن تبقيني مع ابن رشد، وفي هامش لا وعيك حتى أوعيك أنك لا تعي وإن كنت تدعي أنك لا تعي، وبذلك لا يكون لا وعيك مركبا، بل بسيطا بساطة يسارك أو يمينك، هذه التي تقلبت بينهما يداك دون أن تعرف أيتهما اليسرى وأيتهما اليمنى، لتشابههما في الفعل والاختلاف فقط في محمولات القول، وظاهر اللفظ.. ويحفظك الله من الجهات الأربع وزوابعها القاتلة.
وتذكر يرحمك الله: لا اليسار ولا اليمين جدلية الحضور؛ وإنما الحضور ذاته ونفسه هو جدلية الوجود، ولا يحق لنا الإدعاء بالوجود موضوعا وصفة، ذاتا مفارقة للذوات؛ لأن الوجود وجود مادي ومعياري، لا شبقي أنعامي. فهو عملة ذات وجهين لا تستقيم إلا بهما، ولا قيمة لها إلا بتلازمهما. ونحن نفتقد للمعياري دون المادي، حيث لنا وجه من وجه العملة، فيسقط التداول بها إلى حين سك الوجه الآخر في محطة اليسار، ولا معنى لوجودنا إلا إذا اعترفنا بأننا يسار ويمين يدور في دائرة الاتجاهات الأربع البائسة بوجودنا، الحزينة بأسمائنا، المتألمة بحضورنا، المسومة بالغياب، وبحضور الغياب..
وأنهى قوله بعد التمعن في اليسار واليمين وتطابقهما في أعلى الهرم، بالشكر والثناء على من قرأ وتذكر، ثم فكر وتدبر، والله الهادي إلى سواء السبيل على طرف اللسان.
فنقله عن ذاته في صلاة الغائب من رآه فرواه، وقال: اليمين واليسار سوى مرآة وناظر إليها، في العمق توهم للوجود بلا وجود..

عبد العزيز قريش

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

  1. من أهل الدار
    10/07/2006 at 20:10

    كنت أعشقهم حين يغزلونني بأحلامهم الطرية السابحة بيننا آمالا تنقذ الغارق في الوحل؛ لكن الوحل استفحل وتجبر وصارا جبالا طين تأسر الماء عن النفاذ في الأعماق. فضاع اليسار واليمين على حد سواء في جسدي المنهوك بلغتهم الخشبية… فمتى تنتهي الجرح الغائر في الذات.
    تحية عشق لكلمات تعانق عنان السماء، وتصنع مصابيح النهار…

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *