العلمانية وشريط « باربي »
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسن جرودي
العلمانية وشريط « باربي »
عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: « إنما الأعْمَالُ بالنِّيَّةِ، وإنما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى، فمَن كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسولِهِ، ومَن كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلى ما هَاجَرَ إلَيْه » وعملا بقاعدة « العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب » يتبين من الشطر الأول من الحديث أن نتائج الأعمال مرتبطة أساسا بالنية التي تسبقها، والتي تُعتبر حافزا حاسما في استنفاذ الوسع لبلوغ النتائج المرجوة، ولعل اعتماد شعار « ديرو النية » من قبل مدرب الفريق الوطني لكرة القدم كان من أهم الدوافع التي جعلت الفريق يبذل كل ما في وسعه ليحقق على النتائج التي حصل عليها في مونديال قطر، وقصدي من هذا المثال بالذات، هو إبراز أهمية استحضار النية، أو الهدف المتوخى، من أي عمل كيفما كان نوعه، قبل الشروع في إنجازه، وهنا أريد أن أخرج عن التصنيف الاعتيادي للأهداف، كما هو متداول في الأدبيات التربوية، وأشير إلى نوعين أساسين من النيات أو الأهداف: النوع الأول يتعلق بالأهداف أو النيات التي لها ارتباط بعالم الغيب، فيما ينحصر النوع الثاني في العالم المادي البحث، ومن ثم نجد أن المؤمن بالغيب بصفة عامة، يتوخى بالإضافة إلى المردود المادي للعمل الذي ينوي القيام به، أجرا غيبيا يتمثل في دعم رصيده من الحسنات في اليوم الآخر، بينما تقتصر أهداف غير المؤمن على تحقيق نتائج ملموسة، كالحصول على امتيازات مادية أو اكتساب شهرة…
انطلاقا مما سبق أعتقد أن نية الذين يدافعون عن سيادة الشريعة الإسلامية، تندرج في إطار الهجرة إلى الله ورسوله، في حين لا يمكن لأهداف تلك الشريحة من العلمانيين الذين يستميتون في محاربة الله ورسوله، أن تخرج عن إطار الامتيازات الدنيوية، حتى وإن كانت لنيات البعض منهم صبغة معنوية. من هنا أقدِّر أنه في غياب الجانب الغيبي ضمن أهداف هذه الشريحة، لا يمكن أن يُنتظر منها الانخراط في الدفاع عن القيم السامية كما جاء بها الإسلام، وباقي الديانات السماوية غير المحرفة، وإنما ينحصر اهتمامها في الذود عن مصالحها الشخصية، المتمثلة في الكسب المادي الممول أساسا من الغرب، مقابل التفاني في نشر « قيمه » التي ليس لها من القيم إلا الاسم، مع العلم أنها، بسبب احتكاكها بالغرب، أعرَفُ بالنتائج الكارثية للثقافة التي يروِّجون لها، حتى في بلادها الأصلية.
في هذا السياق، يندرج دفاع أعضاءَ من هذه الشريحة العلمانية التوجه، على عرض شريط « باربي » الذي جسده أحدهم مؤخرا، في مقال بإحدى الجرائد الإلكترونية، تحت عنوان « المغرب ينتصر لقيم الحرية بعدم منع شريط « باربي » وأفلام سينمائية أخرى » بحيث افتتحه بالإشارة إلى عدم استجابة الجهات الوصية ببلادنا لمطلب أحد الأحزاب بوقف عرض فيلم « أزرق القفطان » بقاعات العرض السينمائية، على الرغم من مبرر « تطبيعه مع الشذوذ »، وإلى عدم اتخاذ المغرب لنفس الخطوة التي اتخذتها مجموعة من الدول العربية التي مَنعت عرض فيلم « باربي » لكونه يروِّج للمثلية الجنسية، التي لا تتوافق مع المعتقدات الدينية والقيم الأخلاقية والثقافية، ليعمد بعد ذلك للانتصار لهذا الموقف بالاستشهاد بمقولاتٍ « لناقدَيْن سينمائيَّيْن » فيما يلي بعضا منها:
الناقد الأول:
- « منع الأفلام من العرض هو سلوك متجاوز جدا وخارج التاريخ، وهو في الأصل، وفق ما يبدو، قرار سياسي وليس بالضرورة ثقافيا يود تحصين القيم والعادات ».
- « هذا المنع لا يبدو أن له أغراضا فنية أو لها علاقة مباشرة بالمجتمع ».
- « تبين لصناع القرار الثقافي أن قرارات المنع لا مصداقية لها لدى الأشخاص، فما بالك بالمثقفين والمفكرين ».
الناقد الثاني:
- « إن اتجاه المغرب مؤخرا لعدم منع الأفلام يدخل في إطار تصور البلاد لإعادة تأهيل بنيات الصناعة السينمائية، ومن بينها القاعات ».
- « المغرب صار يعبر عن وعي سينمائي، ولو أن البعض قد يقول إنه جاء متأخرا، ولكن المهم أنه جاء“.
- « إن محاولات تجرد السينما المغربية من الأحكام الأيديولوجية والسياسية والمذهبية، لا يعني معاداتها ولا يعني بالضرورة محاولة القضاء عليها، لكونه تحررا فقط من قبضتها، مع احترامها وضمان حقها في أن تكون خارج أنظمة الوصاية على الفن، وبالعكس يجب أن ندفع بالمشهد السينمائي المغربي في اتجاه التنوع والانتصار للتعايش ».
- « سؤال الأخلاق والعقائد يجب أن يبقى بعيدا عن السينما، بوصفها فضاء حرا ومستقلا، وينتعش داخل قاعات سينمائية مغلقة ونخبوية، وينتعش أيضا داخل المهرجانات السينمائية الكبرى ».*
إذا سلمنا بأن أهداف هذه الفئة مادية محضة، فإن ذلك لا يكون في منأى عن أهداف الغرب الاستعماري، الذي يعمل على عزل الفرد عن مجتمعه، كما عبر عن ذلك مالك بن نبي بقوله » إن الاستعمار يسعى أولا أن يجعل من الفرد خائنا للمجتمع الذي يعيش فيه، فإن لم يستطع فإنه يحاول أن يحقق خيانة المجتمع لهذا الفرد على يد بعض الأشرار« **.
وإذا أردنا إسقاط هذه المقولة على واقعنا الحالي، نجد أن الاستعمار قد تمكَّن فعلا من جعل مجموعة من الأفراد خونة للمجتمع، وهو يعمل على قدم وساق لتحقيق خيانة المجتمع لما تبقى من أفراد الطبقة المتشبثة بقيمها ودينها، ولعل الحملة المسعورة التي تستهدف قيم المجتمع، وعلمائه، وكل ما له صلة بالدين الإسلامي، لخير دليل على ما أقول، وهو الأمر الذي يمكن أن يُستشف بكل وضوح بتصريحات الناقدين المشار إليها أعلاه، والتي يمكن تلخيص مضمونها أساسا في الطعن في قرارات المنع في كل ما يستهدف ثوابت الأمة خاصة فيما يتعلق بالأخلاق والعقائد، مستأنسين ومستأسدين من أجل ذلك، بقرارات بعض المسؤولين الذين أصبحوا يُسايرون الموجة اختيارا أو اضطرارا، لست أدري، لكن الذي أعلمه علم اليقين هو أنه سيأتي يوم لا ينفعهم فيه اعتذار ولا ندم. وما عدا هذا، فكله فذلكة، ومحاولة للالتفاف على العقول البسيطة، وإلا فما معنى قول أحدهما بأن « سلوك المنع أصبح متجاوز جدا وخارج التاريخ »، ما دليله في ذلك؟ سوى التبعية العمياء، لكل ما له علاقة باستئصال ثوابت الأمة، وما معنى قوله بأنه « تبين لصناع القرار الثقافي أن قرارات المنع لا مصداقية لها لدى الأشخاص، فما بالك بالمثقفين والمفكرين » سوى التبرير لفتح الباب على مصراعيه لكل الأفكار « المُمِيتة »*** المستوردة من الغرب على حد قول مالك بن نبي، وإلا فالقاعدة تقول بأن الحق لا يوزن بالرجال، وإنما يوزن الرجال بالحق. أما فيما يتعلق بقول الثاني ب »احترام السنيما وضمان حقها في أن تكون خارج أنظمة الوصاية على الفن، وبالعكس يجب أن ندفع بالمشهد السينمائي المغربي في اتجاه التنوع والانتصار للتعايش »، وبأن « سؤال الأخلاق والعقائد يجب أن يبقى بعيدا عن السينما » فأقول له ولأمثاله بأن مربط الفرس يكمن في الأخلاق، وكيف لا، ونحن من تشبع بقول الشاعر أحمد شوقي: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت…فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا، ومن ثم فإن الوصاية إما أن تكون أو لا تكون، فإما أن نحافظ على خصوصياتنا وثوابتنا كما هو منصوص عليها في الدستور، مما يستوجب استبعاد كل ما يسيء إليها، وإما أن نترك المجال واسعا أمام كل التيارات والأفكار، دون تمييز بين الأغلبية والأقلية، أما أن نفتح المجال أمام الأفكار « الميتة »*** في وسطها الأصلي لتصبح « مميتة »*** في وسطنا حسب مالك بن نبي، في الوقت الذي نشدد فيه الخناق على كل ما له علاقة بالدعوة إلى كتاب الله وسنة رسوله، فهذه قسمة ضيزى لا تحترم حتى أدنى قواعد اللعبة الديموقراطية المتشدق بها.
في الأخير أريد أن أوجه خطابا لهذه الفئة المتعلمنة، مسترشدا بقوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام، موضحا موقفه من عدم السماح لأبنائه استصحاب أخيهم يوسف حيث قال:﴿ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾، وأقول لهم: إني ليحزنني أن تذهبوا بهذا البلد الأمين، وأخاف أن يبتلعه الغرب، ويفرض عليه تصوره لحقوق الإنسان التي يسمونها كونية وما هي بكونية وأنتم غافلون ومتخاذلون.
* للإشارة بلغ عدد التعليقات على المقال 178، 169منها تشجب عرض الفيلم و9 تؤيد عرضه بنوع من الاحتشام
** مالك بن نبي من كتاب الصراع الفكري في البلاد المستعمرة
*** نفس المرجع السابق
Aucun commentaire