مجرد علامات استفهام تحت سقف الذكاء الاصطناعي
مجرد علامات استفهام تحت سقف الذكاء الاصطناعي
عبد العزيز قريش
في ظل الذكاء الاصطناعي ينبري سؤال للوجود بإلحاح، يعرب عن نفسه بصيغة:
ـ هل تستطيع المنظومة التربوية والتكوينية المغربية إحداث النقلة النوعية في خلق متعلم/ة مفكر، ناقد، مبدع ومبتكر، حر ومستقل، مبادر ومسؤول؟
لمقاربة هذا السؤال الجوهري لابد من طرح بعض التحديات التي يطرحها الذكاء الاصطناعي على المنظومة التربوية والتكوينية المغربية، لمواجهتها ومعالجتها لكي يستقيم أداء المنظومة العملي والميداني مع الذكاء الاصطناعي، الذي سيسيطر بشكل كبير على منظومات التربية والتكوين في العالم. فالذكاء الاصطناعي ذاهب في هذا الإطار إلى:
* إضفاء البعد الفردي على التعليم والتعلم من حيث تفريد التعليم وفق المعطيات الفردية للمتعلم/ة؛ بمعنى سيتساوق التعليم مع خصوصيات المتعلمات والمتعلمين كل على حدة. وملاءمة الهندسة التربوية من متن تعليمي وتعليميات وتقنيات وتكنولوجيات مع مطالب ومتطلبات واحتياجات المتعلمات والمتعلمين الفردية. وهذا البعد الفردي يتطلب جمع وتوثيق مجموعة من المعطيات والبيانات الحساسة عن المتعلمات والمتعلمين، وهو ما يدخل في خصوصيات المتعلم/ة في بعض التشريعات العالمية؛ التي توجب السرية وعدم الاستثمار إلا بعد أخذ الإذن من المعني بالأمر، وهو هنا قاصر. يطرح ذلك إشكالات قانونية وأخلاقية على المؤسسة التعليمية في إطار توظيف الذكاء الاصطناعي. وتفريد التعليم يتطلب بذل الجهود الكبيرة، وتنويع الاستراتيجيات، وتنويعها وفق نتائج التقويمات، وتحديد أنجعها فعلا وانسجاما مع الخصوصيات الفردية للمتعلم/ة. كما يتطلب الإلمام الأكاديمي والعملي ببيداغوجيا الفارقية، فليس سهلا توظيف هذه البيداغوجيا في المدرسة المغربية للتفاوتات الموجودة بين المتعلمات والمتعلمين على مختلف المستويات الفكرية والثقافية والإيديولوجية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وعلى مستوى الكفاءة والأداء …
* تقف المنظومة التربوية والتكوينية المغربية حاليا عاجزة على تحقيق مبدإ المساواة في التعليم بين المتعلمات والمتعلمين لوجود تفاوتات عديدة أقلها اختلاف هيئة التدريس في الكفايات والكفاءات، وفي الرؤى والتوجهات والاستعدادات والإمكانات والإمكانيات والقناعات. فبمجرد دخول هذا الاختلاف إلى الساحة التعليمية يوقع عدم المساواة بين المتعلمات والمتعلمين في التعليم والتعلم، وهو ما يتجلى من بين عوامل عدة في تفاوتات نتائجهم في التحصيل الدراسي وارتياحهم لممارس بيداغوجي دون آخر، ويظهر في وجهات نظرهم اتجاه مكونات هيئة التدريس من ذكور وإناث. والتفاوتات بينهم تتجلى في كثير من المظاهر الحياتية، بما فيها الوصول العادل والمتساوي إلى التكنولوجيا وتقنياتها وبرامجها. وهو ما يكرس عدم المساواة في المنظومة التربوية والتكوينية المغربية، والتي تزداد حدة وشدة في موجة الغلاء التي تعرفها البلاد بجانب عوامل أخرى تبقي التفاوتات حاضرة بتردد عال كالعامل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي والطبقي وإثني والمصلحجي، الذي لا يستحضر منظومة القيم في تعامله البيني وفي أدائه المهني، ولا يعرف هذه المنظومة بالأساس وبالمطلق. فالمصلحة الخاصة مقدمة بكل الاعتبارات عن المصلحة العامة. ولعل الظواهر التي تعيشها المنظومة التربوية والتكوينية تؤشر عن ذلك. وهذه التفاوتات سيزيدها الذكاء الاصطناعي حضورا وسيفعلها بوتيرة طردية ما لم تضمن المؤسسات التعليمية وأطرها والمنظومة ككل مبدإ المساواة في الاعتبار، وتفعله بين المتعلمات والمتعلمين مهما كانت الضغوطات والمعطيات والتحديات، واعتبار حق التعليم مرتبط ارتباطا عضوا بحق المساواة. وإلا سنكون أمام كسر حق المساواة في المنظومة التربوية والتكوينية، ومنه في المجتمع، وهذا خطر يداهم تماسكه وسلامه ووحدته البنيوية.
* التحيزات الحسابية أو التحيز الخوارزمي أو التحيز الآلي، وهي الأخطاء أو التشوهات المنهجية التي تقع في نتائج خوارزميات التعلم الآلي أو أنظمة الذكاء الاصطناعي، الناتجة عن البيانات التي يتم تدريب الخوارزميات عليها وأساليب التدريب عليها. وهي متنوعة التمظهر كالتحيز البيانات والمعطيات، وتحيز التمثيل، وتحيز الخوارزمية ذاتها، وتحيز التسمية، وتحيز التنبؤ، وتضخيم التحيز نفسه … ويمكن أن أضرب مثالا للتحيز الخوارزمي، قد تبحث خوارزمية القبول الأولي لاجتياز مباراة توظيف هيئة التدريس عن مرشحين، يقوم تفضيلهم على المعطى الجغرافي أو على معطى الدرجة المحصل عليها أو على الميزة، فتقوم ذاتها بتميز مرشحين قادمين من مناطق جغرافية بعينها أو حاصلين على درجات معينة أو ميزات كذلك، دون أن تستحضر مبدإ المساواة وتكافؤ الفرص في إطار تفعيل مدخل المواطنة في وجه أي مواطن يستحق الترشح. وهو التحيز الذي نلمسه في شطب ترشح العديد من المواطنين رغم درجاتهم العالية وميزاتهم المتميزة. ومنه يكون للتحيز الحسابي عائد سلبي عواقب وخيمة على الأفراد والمجتمع في العديد من المجالات، من قبيل التمويل والعدالة والموارد البشرية والصحة والتعليم وتكافؤ الفرص وجدارة الكفاءة … إلى غيره. ومنه؛ يجب على المنظومة التربوية والتكوينية في إطار توظيف الذكاء الاصطناعي العمل على تصحيح التحيزات الحسابية بتحديدها وفهمها والتخفيف من حدتها ونتائجها قدر المستطاع؛ لمحاربة عدم المساواة والتمييز، واستحضار البعد الأخلاقي لتدقيق الخوارزميات وتصحيح تحيزاتها المرصودة. ويمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي أن تتأثر بشكل كبير بالتحيزات الموجودة في البيانات التي دربت عليها. فتؤدي تلك التحيزات إلى إجراءات أو قرارات أو توصيات جائرة أو تقييمات غير عادلة في حق المتعلمات والمتعلمين.
* لا محالة ولا مناص من تغييرات يوقعها الذكاء الاصطناعي في مهام وأدوار الممارس البيداغوجي، من حيث كونه يعمل عل أتمتة بعض مهام التدريس، من قبيل: التصحيح الآلي للواجبات المدرسية والتقويمات والواجبات المنزلية، ومراقبة مشاركة المتعلم/ة، واستحضار البعد الفردي في التعلم باستحضار خصوصيات المتعلم/ة، وإدارة جدول الحصص الدراسية، وتحليل البيانات واتخاذ القرارات وإبداء التوصيات والمقترحات … ومن شأن أتمتة بعض مهام التدريس أن يخفف من أعباء هيئة التدريس، ويوفر لهم الوقت للاشتغال على الأنشطة التعليمية التعلمية، وبناء الكفايات والمهارات والقدرات عند المتعلم/ة. وإضفاء قيم مضافة ونوعية ذات طابع شخصي على أدائهم التعليمي. بمعنى توظيف أساليبهم التعليمية في تدريس المتعلمات والمتعلمين. ورغم هذا؛ تثير أتمتة مهام التدريس أسئلة ومخاوف عدة عند أطر التربية والتكوين. منها إحلال الآلة والبرامج محل العنصر البشري في العملية التعليمية التعلمية، وسرية بيانات المتعلم/ة ومعطياته الشخصية، وردود الفعل المتقدمة التي تقترحها الأنظمة الآلية. ومنه؛ في ظل الذكاء الاصطناعي يستوجب على الممارس البيداغوجي والمؤسسة التعليمية توظيف أتمتة التدريس بشكل حكيم وإيجابي بهدف تطوير وتحسين فعالية الأداء التعليمي وجودته، والحفاظ على التفاعل البيني الإنساني بين هذا الأخير ومتعلماته ومتعلميه. في إطار إنجاح العملية التعليمية التعلمية وتمكين المتعلم/ة من الكفايات المقررة، التي تساهم في تكوينه وتأهيله اجتماعيا واقتصاديا وفكريا … للاندماج في المجتمع، ولعب دور إيجابي فيه.
* تفيد سوسيولوجيا التربية بأن هناك تفاعلات وتعالقات بين مكونات العملية التعليمية التعلمية على مستوى نسقها الداخلي ومستوى نسقها الخارجي. ما يخلق ارتباطات نفعية وسيكولوجية واجتماعية وثقافية وإيديولوجية بينها. وهي اجتماعية الفعل التربوي والتكويني أمر طبيعي، وضروري لتطوير المتعلم/ة معرفيا ومهاريا واجتماعيا وثقافيا وإنسانيا ونفسيا … لكن في ظل الذكاء الاصطناعي يمكن فقدان التفاعلات البشرية لأنه لا مشاعر ولا إحساس في الآلات والبرامج العملية، فمجرد سؤال برنامج الذكاء الاصطناعي عن المشاعر، مباشرة يكون جوابه ليس لدي مشاعر أنا آلة. فغالبا ما يتضمن التعليم والتعلم تفاعلات بينية اجتماعية وعاطفية وغيرها بين الممارس البيداغوجي والمتعلم/ة أو بين المتعلمات والمتعلمين أنفسهم أو بينهم وبين المجتمع المدرسي أو المجتمع العام. ضمن هذه التفاعلات البشرية تنتقل التجارب والخبرات والمعرفة بما يطور تعلم المتعلم/ة ويحسنه. وعليه؛ ينصح باعتماد استراتيجيات تعليمية التعلمية تبقي على التفاعلات البشرية في إطار توظيف الذكاء الاصطناعي في المؤسسة التعليمية.
* لا شك في أن تنمية كفايات تتساوق مع متطلبات ومطالب القرن الحادي والعشرين مسألة مصيرية بالنسبة للأجيال المستقبلية، التي ستعيش مع ثورة الذكاء الاصطناعي بشكل كبير، وأتمتة بعض المهام البشرية في مختلف المجالات والميادين الحياتية. ما يتطلب من المؤسسة التعليمية التركيز في التدريس على بناء وتطوير الكفايات والقدرات والمهارات والفرش النظرية عند المتعلم/ة في المجالات والحقول التي لا نستطيع فيها استبدال العنصر البشري بكل سهولة بالآلات كالتفكير النقدي والإبداعي وحل المشكلات المعقدة والتعاون والشراكة والتكامل. والذكاء الاصطناعي يقوض هذه الكفايات والقدرات والمهارات والمعارف بخلق الاتكالية عليه في المتعلم/ة، في إنجاز بعض العمليات الخاصة بالعنصر البشري. ففي ظل هذه الاتكالية والثقة العمياء تنتكس القدرات البشرية عند المعتمدين عليه في كل شيء. فمبدئيا لا يمكن أن يعوض الذكاء الاصطناعي الذكاء البشري بالمطلق، لأن الذكاء البشري سمة وعطية ربانية لا يمكن تعويضها بغيرها. وعلى غرارها قام الذكاء الاصطناعي بداية.
* يثير توظيف الذكاء الاصطناعي في التربية والتكوين قضايا أخلاقية إشكالية من قبيل حق التأليف والنشر، وحق جمع بيانات المتعلم/ة واستخدامها، وسرية المعلومات والمعارف الحساسة، وشفافية الخوارزميات المستعملة ضمانا للمساواة والعدالة، والمساءلة عن القرارات الجائرة والتحيزات الحسابية التي تتخذها الأنظمة. لذا؛ على المؤسسة التعليمية إثارة بعد المسؤولية والأخلاق في توظيف الذكاء الاصطناعي وتربية المتعلم/ة على احترام الأخلاق والقيم وحقوق الآخرين وخصوصياتهم، لكيلا يكون مجالا للفوضى وهدم القيم والأخلاق والمسؤولية والحقوق والواجبات.
فحسب هذه التحديات، ومطالب ومتطلبات الذكاء الاصطناعي. وضمن معطيات المنظومة التربوية والتكوينية المغربية، والحقائق الموضوعية التي تعيشها المؤسسة التعليمية المغربية فيما يخص العنصر البشري والتجهيزات والمناهج والبرامج والاستراتيجيات والأدوات … وبناء على طبيعة العملية التعليمية التعلمية المغربية التقليدية، وبناء على الممارسات التعليمية المبنية على تأسيس أحادية التفكير، وتأسيسا على انقطاع سيرورة مشاريع الإصلاح فضلا عن مجموعة أزمات تعيشها المنظومة التربوية والتكوينية؛ يمكن توطين السؤال السابق في إطار توظيف الذكاء الاصطناعي. ومنه:
ـ هل يتوافق الذكاء الاصطناعي مع معطيات وحقائق المنظومة الراهنة؟
ـ إلى أي مدى تعمل المنظومة على بناء جملة من أنماط التفكير عند المتعلم/ة المغربي؟
ـ هل يتوافق التكوين الأساس والمستمر والذاتي مع متطلبات ومطالب الذكاء الاصطناعي؟ وإلى أي حد يمكن استثمار ناتج التكوين في الأداء التدريسي؟ وإلى أي مدى يمكن تسيله في المجتمع المدرسي بما فيها المؤسسة التعليمية؟
ـ إلى أي مدى يستوعب الغلاف المالي لوزارة التربية الوطنية تلبية كل متطلبات ومطالب الذكاء الاصطناعي وتوطينه في المنظومة؟
ـ إلى أي مدى تستوعب الثقافة المهنية والقناعات الجماعية والفردية ضرورة حضور الذكاء الاصطناعي في الأداء الصفي المغربي؟
ـ إلى أي حد يمكن للمجتمع المدرسي والعام تفهم الذكاء الاصطناعي والعمل على تبييئه في المؤسسة التعليمية؟
ـ إلى أية درجة يمكن استثمار معطيات وحقائق المنظومة التربوية والتكوينية في استدعاء الذكاء الاصطناعي إلى المؤسسة التعليمية المغربية؟
وتبقى منظومة علامات الاستفهام هذه مفتوحة على جملة أسئلة أخرى أعمق بالنسبة للذكاء الاصطناعي، يمكنها أن تتجمع في بوثقة الإجابة عن السؤال الجوهري السابق، ومنحها لنا فسحة من التفكير، ومساحة من التدبر للخلوص إلى اتخاذ قرارات جمعية وفردية في شأن تبني الذكاء الاصطناعي في التربية والتكوين، من عدمه. وهنا لا يمكن إلا أن نستفز أنفسنا بهذه الأسئلة للانخراط في مسلسل التغيرات والتطورات الحاصلة في المجال التربوي والتكويني العالمي.
Aucun commentaire