نوازل المرأة والجنس(1)
إن العديد من نوازل الشيخ عيسى بن علي العلمي المتعلقة بالعلاقة الزوجية في مغرب ما قبل الاستعمار, تثبت أن هذه العلاقة هي علاقة قوة, بين الرجل والمرأة, وليست علاقة عطف ومحبة, أو علاقة تخضع للعقل والمنطق أو للشرع والدين. بل يبدو أن العلاقة الزوجية كان يحكمها قانون الغاب, قانون القوة.ويبدو لي أن العلاقة الزوجية كانت تتحدد انطلاقا من عائلة الطرفين, بل من طرف قبيلتيهما. وهذا أمر طبيعي, إذا أخذنا بعين الاعتبار العصبية, والنظام القبلي الذي كان متفشيا في مغرب ما قبل الاستعمار.
فالقبيلة هي التي كانت أحيانا, بل في كثير من الأحيان تقوم بالخطبة, وبتزويج أفراد جماعتها.فبعد جني المحصول من كل سنة تجتمع القبيلة وتزوج من تشاء من الرجال حتى المتزوجين منهم , بمن تشاء من النساء بما فيهن الأرامل والمطلقات دون أن يكون هناك أي اعتراض أو تمرد .ولا يستطيع الرجل أن يزوج ابنه أو ابنته دون أن تعلم القبيلة أو دون أن يأخذ بمشورتها ورأيها ,وإلا تخلت عنه القبيلة عند ساعة العسرة .خصوصا وأن وضعية المرأة وقوتها تتحدد من خلال وضعية قبيلتها.فإن كانت قبيلتها ضعيفة. وهي المصدر الذي تستمد منه القوة فعلاقتها مع زوجها تكون علاقة خضوع وقهر وإذلال وعبودية.وهذا ما يؤكده الدكتور زهير حطب في قوله:{فمنزلة الزوجة في بيت زوجها تتوقف إلى حد بعيد على منزلة أهلها وقوتهم بين القبائل ,فإن قوتهم تنعكس نفوذا لابنتهم بعد زواجها في محيط زوجها. أما ضعفهم فتحصده مهانة وانكسار.والزوج يعي ذلك ويلمس نتائجه .فكثيرة هي الحروب والمشاكل التي بدأت بسبب سوء معاملة زوجة اعتبر أهلها ذلك إهانة لحقت بقبيلتهم, تستوجب التأديب والمحو.}(تطور بنى الأسرة العربية والجذور التاريخية ولاجتماعية لقضاياها المعاصرة الطبعة الأولى بيروت 1976 ص 52) .وقد حدثني أحد الشيوخ رحمه الله بما يعزز هذا الرأي فقال:{إن جده رفض أن يزوج ابنته لأحد القواد, بحجة أنه مغلوب ومقهور من طرف القائد, ولا يريد أن يضيف إلى هذا الإذلال إذلال ابنته ,ورغم تدخل أعضاء القبيلة لصالح تزويج القائد .لا رغبة في مصاهرته, ولكن خوفا من بطشه [وحركته] عليهم .إلا أن الأب أصر على عدم مصاهرة القائد.فما كان من القبيلة إلا أن لجأت إلى الحيلة فألبست المرأة لباسا رثا وسخا, وذروا على رأسها ووجهها الرماد, ثم ادعوا أنها حمقاء ومجنونة. فتراجع القائد عن الخطبة .} ولولا نجاح هذه الحيلة, لتعرضت القبيلة إلى غارة وإلى خطف للمرأة. فتزهق بسبب ذلك, الأرواح, وتهتك الأعراض, ويلحق العار وأي عار بكل أفراد القبيلة. خاصة إذا عجزت عن إرجاع المختطفة ,أو فشلت في الانتقام لها.
إن هذه القصة تعزز بدون شك, ما ذهبت إليه في أن العلاقة بين الرجل والمرأة هي بالفعل علاقة قوة, تتعدى الرجل والمرأة لتصل إلى القبيلة ,وأن الزواج مهمة القبيلة, وهو منوط بها وليس متروكا لأفرادها .والنازلة التالية تؤكد هذا الطرح.(سئل سيدي عيسى الماسوي بن أحمد بن مهدي البطوي الفقيه المفتي عن رجل مثل بزوجته فقطع أنفها قطعا يوجب كمال الدية, إن لم يكن قصاصا على شروط المثلة في قصدها , وأقر بذلك إقرارا ليس فيه إشكال هل تطلق عليه إن طلبت الطلاق أم لا .وبنفس وقوع المثلة وقع عليه الطلاق؟وهل لا يطلق عليه إلا السلطان ؟ أو يكفي في ذلك مسدد نصبه الناس, أو جماعة المسلمين في عدم القاضي؟) فمن خلال هذه النازلة يبدو أن الرجل قوي, ويتمتع بحماية قبيلة قوية .فهو يعمد إلى زوجته ويقطع أنفها قطعا .ويتبين لنا من خلال السياق اللغوي,ومن خلال المفردات المستعملة في النازلة, أن جذع الأنف لم يكن عرضا أوخطئا.وإنما كان متعمدا ومبيتا . بل أن روح الانتقام, تكاد أن تقفز من خلال الكلمات المستعملة في السؤال .مثل[ فقطع أنفها قطعا ][وأقر بذلك إقرارا] .فالزوج اعترف بجريمته اعتراف المفتخر المتباهي والمنتصر, ولم يبدي أي أسف أو اعتذار. بل أن النازلة, لم تذكر أي اعترض للزوج على التهمة الموجهة إليه, حتى على سبيل التبرير الكاذب,أو النكران الباطل. لأنه يعلم مسبقا, أنه لن يخضع للقصاص, ولا تطاله يد القضاء .فهو في حماية قوة ما. بل ويرفض حتى الطلاق. وفي تقديري أن الزوج علم أو أحس أن هناك من ينافسه في زوجته, وربما يكون أقوى منه. أو أحس منها نفورا .فخاف أن تفلت أو تهرب منه, وهو يريد أن يمسكها إضرارا. فلجأ إلى قطع أنفها إمعانا في تشويهها, حتى لا يطمع فيها أحد, وحتى يمنعها من الزواج من غيره. يبدوا من النازلة أن الزوج يرفض التطليق, وهو متشبث بزوجته, على الرغم من التمثيل بها ليس حبا فيها بالطبع, وإنما رغبة في التنكيل بها . نستخلص هذه الفكرة من قول السائل( هل تطلق عليه إن طلبت الطلاق أم لا…؟ وهل لا يطلق عليه إلا قاضي السلطان؟). الغريب أن النازلة بما فيها الجواب, لم يركز إلا على الطلاق, وأهمل القصاص مع العلم أن النص القرآني صريح في هذا المضمار { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص}
وهنا يمكن أن نطرح عدة أسئلة حول أسباب تعطيل هذا الحد منها:
لماذا أعطى صاحب النازلة الأولوية للدية على القصاص؟
ما هي الملابسات التي منعت الفقيه من الإفتاء بالقصاص ؟هل العرف عطل إقامة الحدود على المعتدين ؟
هل السلطان, والقاضي الذي يمثله كان ضعيفا لا يقدر على تطبيق الشريعة؟
هل العصبية القبلية كانت تقف دون إقامة الحق؟
هل النظام كان نظاما قبليا يستمد تشريعاته وقوانينه من أعراف وتقاليد القبيلة وليس من الكتاب والسنة ؟وإذا كان كذلك؟ فما هو دور القاضي الممثل للشريعة الإسلامية؟ ومتى كانت القبيلة تقبل بالخضوع للشريعة الإسلامية أو لقانون السلطان؟
يبدو من خلال الرسالة التي بعث بها العلمي إلى والي السلطان, والتي يستقيل فيها من القضاء,و يذهب مغاضبا إلى حيث لا يدري أحد, حتى أبناءه .إ ن السلطان كان ضعيفا , ولم يكن قادرا على محاربة الفساد المنتشر بين القبائل .وأن الفوضى وخاصة منها المرتبطة بالمرأة والجنس كانت عامة.وأن قانون البقاء للأقوى وليس للأصلح كما يقول داروين هو الذي كان يسيطر على الحياة الاجتماعية.
في ظل هذه الضر وف الاجتماعية, والسياسية ,ولاقتصادية ,ليس غريبا أن نجد العلاقة الزوجية هي الأخرى تخضع لمبدأ القوة .خصوصا وأن نظام تعدد الزوجات يكفل للزوج الحرية الواسعة في تغيير الزوجة ,متى شاء أو التزوج عليها متى شاء, أو حتى قطع أنفها أو عضو من أعضائها إذا أراد. كما رأينا في النازلة السابقة الذكر.كل ذلك ليثبت رجولته,وأنه السيد المطاع. إلى جانب هذا, يجب أن لا ننسى الإماء, واللاتي كن بمثابة منجم جنسي بالنسبة للرجل .فهو يفرغ كل طاقته الجنسية عندهن, الشيء الذي يعزز موقفه داخل الأسرة على حساب موقف الزوجة.
إن وضعية المرأة أصبحت مزرية بعد القرون الوسطى, نظرا لغياب الفهم الصحيح للإسلام وللتدهور الشامل الذي عرفه الإسلام,إذ حلت العادات والتقاليد المشوبة بالإسلام محل الإسلام الصحيح,ومورست في ظل هذه العادات أصناف الاضطهاد ,من سب وشتم وتحقير إلى الضرب والتعذيب, إلى التفنن في التمثيل بجسد المرأة. كما يذكرأبو الفضل العقباني مثلا في النازلة التالية (سئل أبو الفضل العقباني عمن أخذ نارا فألقاها في فرج امرأته. فسجنه القاضي وأمره بطلاقها وهو في السجن ,ثم الآن رغم ما فعله الزوج مثلة فتطلق عليه بذلك أولا؟ويكون النظر للحاكم) [نوازل العلمي ص 217 ] قد يقول قائل أن هذه النازلة مجرد قضية نظرية, أي مجرد فرضية مجردة بعيدة كل البعد عن الواقع .ولكني اعتقد أنها تمثل حقيقة واقعية .لأن السائل يذكر الحكم الصادر في حق الزوج والتعزير الذي تعرض له من طرف القاضي.ومما يؤكد هذا الرأي أن أهل البوادي إلى يومنا هذا غالبا ما يلجئون إلى الكي بالنار, عندما يريدون أن يعاقبوا أبناءهم ,أو عندما يريدون التعبير عن الندم والتوبة والإقلاع عن فعل ما, أو عادة سيئة ومشينة كعادة التدخين .فيكوون أيديهم بالنار حتى تبقى آثار الكي ماثلة أمام أعينهم, فيتذكرون في نفس الوقت نفسيا, و لا شعوريا الآلام التي ترتبت عن الكي من جهة ,والتوبة والعزم عن عدم الرجوع إلى العادة المراد تركها من جهة أخرى .وفي تقديري أن الزوج ما وضع النار في فرج زوجته إلا لاتهامه إياها بالزنا .فالكي هنا نوع من التواصل ورمز مفاده أن الفرج الذي يزني, لابد من حرقه بالنار, حتى لا يعود مرة ثانية, وحتى تتذكر الزوجة وبطريقة لا شعورية الآلام والعذاب المترتب عن الإحراق كلما فكرت في الزنا فترعوي.
إن التراكمات الفكرية والقهر الاجتماعي, كون لدى المرأة بما فيها امرأة القرن العشرين عقدة الشعور بالدونية, مع عدم القدرة على التخلص, أو التحرر منها, خصوصا وأن النظرة الاضطهادية كانت دائما تجد من يعززها عبر العصور من الأدباء والفقهاء. فهذا أبو العلاء المعري مثلا يسجل في قصيدة له وضعية المرأة في تصور الفكر والأدب العربي فيقول:
وإن تعطى الإناث فأي بأس & تبين في وجوه مقسمات
يلدن أعادي ويكن عارا & إذا أمسينا في المتهضمات
فدفن والحوادث فاجعات & لإحداهن إحدى المكرمات
ودفن الغانيات لهن أوفى & ومن الكلل المنيعة والخدور
كتب الطعن والقتال علينا & وعلى الغانيات جر الذيول
[الدكتور زكي المحاسن أبو العلاء ناقد المجتمع دار المعارف لبنان 1963 ص30/31] والخوارزمي عالم عصره يذهب أبعد مما ذهب إليه معاصره أبو العلاء المعري في رسالة تعزية له يقول فيها:(لولا ما ذكرته من سترها, ووقفت عليه من غرائب أمرها ,لكنت إلى التهنئة أقرب من التعزية. فإن ستر العورات من الحسنات, ودفن البنات من المكرمات ,ونحن في زمان إذا قدم أحدنا فيه الحرمة ,فقد استكمل النعمةو وإذا زفت كريمة إلى القبر فقد بلغ أنية الصهر.)[د. زهير حطب مرجع سبق ذكره ص196] ولا زال لحد الآن وفي مجتمعنا من يرفض التعزية في المرأة. هذه النظرة التحقيرية للمرأة تجاوزت الأدباْء والعلماء وتعدتهم إلى الفقهاء ضمائر الأمة. وما لهم من مكانة وتأثير على نفسية الناس قديما وحديثا وفي كل العصور. فهذا الإمام الغزالي فقيه الأمة ومجدد أمر دينه مثلا يقول" ( فإن كيدهن عظيم وشرهن فاش,والغالب عليهن سوء الخلق وركاكة العقل.) [إحياء علوم الدين] .ويقول أحد الحكماء معبر عن النظرة الدونية للمرأة:{كل أسير يفك إلا أسير النساء, فإنه غير مفكوك. وكل مالك يملك, إلا مالك النساء فإنه مملوك .وما استرعين شيئا قط إلا ضاع, ولا ستؤمن على شيء إلا ذاع. ولا أطعن شرا قصرن عنه. ولا حوين خيرا فأبقين منه.}فقيل له:{كيف تذمهن ولولاهن لم تكن أنت ولا أمثالك من الحكماء؟ فقال:{مثل المرأة مثل النخلة الكثيرة السلاء ,لا يلامسها جسد إلا اشتكى, وحملها مع ذلك الرطب الطيب الخير.}.[د. زهير حطب مرجع سابق]لكن ما تجدر الإشارة إليه, أن المرأة لم تكن دائما العضو الأضعف في الأسرة أو المجتمع. فقد تقلدت أحيانا وإن كانت قليلة .مكانة مرموقة في المجتمع ,ولعبت دورا قياديا وسياسيا داخل المجتمع والأسرة قديما وحديثا. والمرأة البورجوازية اليوم تستمتع بنفوذ عال داخل الأسرة, ويبقى الرجل مجرد ذل تابع لها .أما قديما فقد كانت تستقي قوتها من قوة قبيلتها وشرف بيتها. وقد عبر عن هذا الدكتور زهير حطب بقوله:{إذا كانت الزوجة صاحبة منزلة عالية في بيتها شاورها الزوج, في الأمور البيتية والمعيشية وقدر لها رأيها,وغالبا ما كان يستجيب لرغباتها, وترك لها مجال الدخول في الحياة العامة…أما إذا كانت منزلتها وضيعة, فلم يكترث الزوج لشئنها أو رغبتها, وقل احترامه لها. إذ عاملها بقسوة مستعملا السوط أحيانا لضربها } [د.زهير حطب مرجع سابق ص 53] فالعلاقة إذن كما سبق أن ذكرت بين الرجل والمرأة هي علاقة قوة. وإن كانت هناك حدود لا تستطيع المرأة أن تتجاوزها في علاقتها مع زوجها, إلا نادرا جدا كمد يدها على زوجها وضربه أو توجيه اللوم إليهو إلا إذا تأكدت من انحلال رابطة الزوجية و انتهاء العشرة الزوجية فعند ذلك
Aucun commentaire