أعرض عن الجاهل السفيه
بسم الله الرحمن الرحيم
أعرض عن الجاهل السفيه
الحسن جرودي
لا أحد يجهل الاستغلال البشع للإعلام في خدمة أجندات وأهداف معينة، فهذا يستعمله لتحقيق أهداف تجارية وذلك لأهداف سياسية وآخر لأهداف دينية والقائمة طويلة… إلا أن الملاحظ في السنوات الأخيرة هو احتكاره بالخصوص من قبل التيارات والتوجهات المعادية للدين الإسلامي، ولكل ما يرتبط به من قيم وأخلاق وحتى العادات، وتجسيدا لهذه العداوة كل وسائل الإعلام على اختلاف أطيافها والتقنيات المستعملة فيها أصبحت مباحة، بدءا بالمكتوب كالجرائد والمجلات بنوعيها الورقي والإلكتروني بل حتى الكتاب الذي لم يسلم من هذا الاستغلال، ومرورا بالمسموع كالراديو وكل ما يسد مسده، وانتهاء بالمرئي وهو الأكثر انتشارا من تلفزة وغيرها من التقنيات التي تؤدي دورا مماثلا، خاصة تلك التي تدخل ضمن وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت في متناول الخاصة والعامة على السواء.
ما يهمني في هذا المقال هو تسليط الضوء على مدى استفادة الدعاة والعلماء المسلمين من هذه الوسائل واستثمارهم لها، لخدمة الدعوة إلى الله والوقوف حاجزا أمام الدعوات الهدامة التي فُتح المجال واسعا لأصحابها لاكتساح الساحة رغم أقليتهم، وما يلاحظ على العموم هو حضورهم الملحوظ بوسائل التواصل الاجتماعي، وهو حضور إيجابي في أغلبه لولا التشويش الذي ينتج عن التنابز بالألقاب بين عدد من المحسوبين على الدعوة، بغض النظر عن الدوافع الكامنة وراءه، فسواء كانت منبعثة من صدق النية في الدفاع عن بيضة الإسلام أو نتيجة اختراق مدبَّر، وهذا غير مستبعد، فالذي ينبغي أن يعلمه الدعاة الصادقون هو أن هذه الردود والردود المضادة والتسفيه والتسفيه المضاد يضر بالدعوة أكثر مما يخدمها، أما حضورهم في وسائل الإعلام الرسمية فيبقى باهتا لأسباب لا أعلمها، لكني افترض أن هناك مواصفات قد لا تتوفر في العلماء والدعاة الربانيين، ولست هنا في مقام توجيه النصح لهم أو انتقادهم وأنَّا لي ذلك، لكني أرى أن مكانتهم العلمية ورمزيتهم الدينية باعتبارهم ورثة الأنبياء تلزمهم بالتحري الدقيق في حيثيات وخلفيات البرامج التي يدعون إليها، والتثبت من رجحان حصول الفائدة قبل القبول بالمشاركة في أي نشاط إعلامي، ذلك أن بعض المشاركين قد لا يتورعون عن الإساءة إليهم ومن خلالهم إلى الإسلام، خاصة وأنه أصبح من المعتاد بتر مقاطع من استجوابات أو موائد مستديرة أو غيرها من البرامج الإعلامية والترويج لها خارج سياقها بما يخدم أجندات الجهات الت لا تخفى على أحد.
وإذا كان أخذ الحيطة والحذر مطلوب بالنسبة لوسائل الإعلام عموما، فإنه يصبح محتَّما وضروريا عندما يتعلق الأمر بوسائل الإعلام الغربية حتى وإن كانت ناطقة بالعربية، وهذا أمر لا أعتقد أن العلماء والدعاة الربانيون يغفلون عنه، لكن قد يحصل لسبب من الأسباب أن يشارك أحدهم في برنامج معين ليجد نفسه مقيدا بالشروط التي يشترطها البرنامج، كطبيعة الأسئلة المطروحة، والمدة الزمنية التي يسمح له فيها بالتدخل، وكذا توجه وخلفيات الأشخاص المشاركين… ولعل هذا ما وقع مؤخرا في برنامج عن بُعد، لقناة ألمانية ذات توجه علماني واضح إن لم أقل إباحي، حيث حضر أحد العلماء المغاربة المرموقين على مستوى المغرب وخارجه، ليجد نفسه أمام مُسيِّر للبرنامج وَقِح لم يرقب فيه علما ولا سِنا، بحيث يُخيل لمن يسمع كلامه وهو يخاطبه، دون أن يشاهد الفيدي،و أنه يخاطب طفلا في مباراة التعرف على أسماء بعض العواصم أو ما شابه ذلك من مباريات التسلية، كما وجد نفسه مقيدا بالإجابة بنعم أو لا على أسئلة مركبة وملغمة ومصاغة على مقاس الطرف الآخر، ثم بِوَقْتٍ غير ملائم حتى لإلقاء التحية التي هي من آداب اللياقة المتعارف عليها في اللقاءات المحترمة، لتتم مقاطعته بطريقة فضة دون أن يوصل فكرته التي كان يعتقد أنه سيدافع عنها، والأدهى من ذلك هو المستوى المتدني لمحاوره الأول، والساقط للمحاورة الثانية التي لم تلتزم بأدنى شروط الحوار واللياقة مما دفع بعالِمنا إلى التصريح بعدم جدوى الحوار، وذلك أقصى ما كان بإمكانه فعله، وهذا مما يخدم الفكرة الأساسية للبرنامج التي تتلخص في كون المسلمين لا يقبلون الحوار ولا التسامح مع من يخالفهم، والأدهى والأمَرُّ هو اقتطاع المقطع الذي وقع فيه تشنج بين عالمنا وبين التي عرَّفت نفسها بالمدافعة عن حقوق الإنسان، والقذف به للتداول في مواقع التواصل الاجتماعي أين ترك أثرا سلبيا، بحيث لا يمكن لمن شاهده من الذين يعرفون قيمته إلا أن يتحسر ويتألم للمشهد الذي وجد فيه الطرف الآخر ضالته للانتقاص من قيمته، ومن خلاله من قيمة الإسلام، مع العلم أن الشيخ ما فتئ يكشف في جل مداخلاته عبر الزمان والمكان مساوئ وتهافت ما يدعو إليه هذا الطرف والمنظومة الفكرية التي تؤطره.
وحتى لا يُفهم من كلامي أني أتطاول على العلماء أو أتعالم عليهم، أقول بأن الدافع وراء كتابة هذه الكلمات هو الغيرة عليهم ومن خلالهم على الدين الذي بدونه لا يمكن أن تقوم قائمة لهذا البلد، وبكل صراحة فإن مشاهدة هذه الحلقة من البرنامج تركت في نفسي أثرا سيئا، وقلت كيف لمثل هذا العالِم المعروف بفطنته ونظرته الثاقبة للأمور أن يُستدرج لمثل هذا البرنامج المعروف باجتهاده للإيقاع بكل الذين يتبنون الفكرة الإسلامية من خلال القيود التي يفرضها عليهم، خاصة عندما يواجهك بمحاور جاهل، وقح، ومتبجح بجهله ووقاحته، وحتى إذا افترضنا وجود دواع لحضور مثل هذه البرامج، فلقد كان باب الاحتياط فرض الشروط الملائمة لحوار متحضر حتى وإن تعلق الأمر بمن يخالفك المعتقد والخلفيات، ولنا في الحوار الذي جرى بين المرحوم يوسف القرضاوي والعلماني جلال العضم في برنامج الاتجاه المعاكس تحت عنوان « الدين والعلمانية » خير مثال.
وأختم بنصيحة الإمام الشافعي حيث قال « أعرض عن الجاهل السفيه » وبمقولة للكاتب الأمريكي ويليام ماكدونالد حيث قال « من المستحيل هزيمة رجل جاهل في نقاش » وبقوله تعالى في الآية 68 من سورة الأنعام: « وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ » صدق الله العظيم.
الحسن جرودي
Aucun commentaire